أعادت مطالب أبناء كنيسة بالإسكندرية بنقل جثمان أحد شيوخ الكهنة إلى كنيسته بدلاً من المدافن، ظاهرة انتشرت آواخر القرن الماضي. الظاهرة حولّت الكنائس لأماكن للتبرك، في الوقت الذي سعى فيه الكثير من الأقباط لإقامة “أضرحة” ما وصفه البعض بـ”الدروشة” والابتعاد عن القداسة.

طلب أبناء كنيسة الإسكندرية، تكرر منذ أيام في الجيزة، قبل أن يرفض البابا تواضروس الثاني الطلبين. كما أنه يرى أن الاستمرار في احتضان الكنائس جثامين كهنة وشخصيات مؤثرة في تاريخ الأقباط، قد يحولها في يومٍ ما إلى مدافن.

الدفن في الكنائس

مقابر كهنة ومشاهير داخل كنيسة

ورغم وجود مدافن خاصة بالأقباط، إلا أنه جرت العادة على دفن الكهنة وكبار الشخصيات أسفل هيكل كنائسهم الذين خدموا فيها، بينما تحول الأمر بعد فترة لإقامة مزار منفصل في أحد أركان الكنيسة، أشبه بـ”الضريح”.

“الضريح” يضم جثمان الكاهن المتنيح “المتوفى” ويتوافد إليه الزوار لأخذ البركة، ويعد مزار الأب “بيشوي كامل” بكنيسة مارجرجس بالإسكندرية أحد أشهر هذه النماذج.

الكنائس لم تقتصر على احتضان جثامين الكهنة فقط، بل شهدت احتضان جثامين شخصيات كبرى أو “الآراخنة”. وبحسب موقع “الأنبا تكلا” المتخصص في الشؤون القبطية، فإن “الأراخنة” هم أصحاب المراكز الروحية والتقوية التي تجعل منهم قدوة صالحة.

المعلم إبراهيم الجوهري

من أبرز هؤلاء هو المُعلم “إبراهيم الجوهري” الذي دُفن عام 1795 ميلاديًا، في مقبرة أعدها بكنيسة مار جرجس بمصر القديمة، بعد أن قدم خدمات عديدة للأقباط عندما كان يشغل منصبًا أشبه برئيس الوزراء حاليًا.

الأمر تكرر في القرن الماضي، حيث شهدت الكنيسة البطرسية بالقاهرة، مدفن عائلة بطرس غالي، الذى كان رئيس الوزراء المصري من عام 1908 حتى اغتيل في عام 1910.

أحدث هذه المزارات دفن جثمان الأرخن الدكتور ثروت باسيلي، وكيل المجلس الملي السابق داخل كنيسة السيدة العذراء والأنبا شنودة التي أسسها في مدينة السلام في 2017.

مخاوف الكنيسة من تحول الأمر لظاهرة

الأمر شجع شعب الكنائس القبطية على تقديم طلبات لدفن شيوخ كهنتهم في كنائسهم وتخصيص مزارات لهم، آخرها كان شهر أكتوبر الماضي، حين طلب شعب الشهيد أبي سيفين بالإسكندرية، بدفن القس أنطونيوس سعد، أحد أكبر كهنة المحافظة، داخل كنيسته بدلًا من دفنه بالمدافن.

طلب الشعب قوبل بالرفض حينها، فلم يجدوا أي سبيل لتخليد ذكرى مؤسس الكنيسة، سوى تشييد حائط يضم ملابسه ومقتنياته وأبرز صوره، كنوع من الوفاء له.

اقرأ أيضًا.. “قانون الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية”.. إصلاح منتظر أم تغيير إرادة الرب؟

بعدها بشهرين تقدم أحد الآراخنة بطلب إلى الأنبا ثيؤدوسيوس أسقف الجيزة، بنقل جثمان كاهن متنيح شارك في تأسيس مزرعة في الطريق الصحراوي لعمل له مزار له.

الطلب دفع أسقف الجيزة لمخاطبة البابا تواضروس، لأخذ رأيه في الموضوع، وهو الخطاب الذي حصل “مصر 360” على نسخة منه.

البابا تواضروس

واستعرض فيه الأسقف طلب ذلك الآرخن، وأكد فيه رفضه الطلب حيث أنه لايوجد تقليد في المسيحية يؤكد ذلك “لا أصل له”.

الأنبا ثيؤدوسيوس أكد أن استخراج جثمان کاهن متوفى من سنين طويلة، إعداد هذه الشخصية من ضمن الأباء القديسين وعمل له مزار کبركة للكنيسة، لابد أن يكون بموافقة البابا.

خلال خطابه أكد الأنبا: “في الحقيقة فضلت أرفع هذه المذكرة لقداستكم لأخذ الرأي النهائي حتى لاتكون سابقة في الكنيسة في هذه الأزمنة المنفلتة”.

ذلك الخطاب تبعه رد من البابا تواضروس، بخط يده، أكد فيه أنه لا يوجد تقليد كنسي بهذا الأمر. كما شدد البابا على أنه ليس من الصائب تحويل الكنيسة أو بيوت الخدمة أو المزارع إلى مقابر.

البابا تابع: “الأفضل أن يدفن الكاهن في مدافن الكهنة الذي توفرها المطرانية، أو في مدفن الأسرة”. كما قطع البابا أي فكرة لتلك المحاولات بتأكيده أنه لا يجدوز نقل الجثمان إلا بقرار المجمع المقدس برئاسة البابا ذاته.

الخطاب وثيقة تاريخية للبابا تواضروس، يتصدى فيها لتلك الأفكار التي قد تحول حالات تاريخية سابقة من مجرد ظاهرة إلى عادة كنسية قد تتسبب في تحويل الكنائس إلى مدافن.

كمال زاخر: انحراف عن القواعد الكنسية

الكاتب كمال زاخر، المفكر والباحث القبطي، يقول إن الكنيسة في المفهوم المسيحي هي مكان اللقاء بالله عبر العبادة الجماعية، باعتبارها “جماعة المؤمنين”، لذا من المفترض أن لا ينشغل المصلى بغير مناجاة المسيح في منظومة الصلوات التي اعتمدتها الكنيسة منذ تأسيسها، ومن ينتقل من المؤمنين يعود جسده إلى التراب الذي أخذ مه.

وأكد لـ “مصر 360″، أن القديسين المنتقلين يستمدون قداستهم من ارتباطهم بالمسيح، ولذلك تضع الكنيسة صورهم كتذكار لهم باعتبارهم نماذج لكن دون الاحتفاظ بجثامينهم.

“الكنيسة صارت على هذا النهج بامتداد تاريخها وإن احتفظت ببعض رفات القديسين الذين اعترفت الكنيسة بقداستهم تبركًا. كما أنه تأكيدًا للتواصل بين الكنيسة حاليًا والكنيسة خلف أسوار الزمن” يضيف زاخر.

“الكنيسة رتبت قواعد هذا الأمر حتى لا يتحول إلى استحسان شخصي. إذ لابد من قرار كنسي مجمعي يصدر عن المجمع المقدس” يؤكد الباحث القبطي.

وعن طلبات دفن كهنة الكنائس بها أو إقامة مزارات لهم، أكد زاخر: “ما نشهده هو انحراف عن القواعد الكنسية، ومؤشر لضعف في التعليم يحتاج إلى مراجعة. لكن البابا قرر مواجهة هذا الأمر”.

“ظني أن دافع إقامة المزارات هو استثمار تعلق مريدي هذه الشخصيات المنتقلة بشكل يمثل إخلالًا بالإيمان القويم بحسب التسليم الكنسي المقنن” بحسب كمال.

كتب- كيرلس بشارة