“سيكون التزام أمريكا بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية، حتى مع أقرب شركائنا الأمنيين” هكذا صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن لموقع حملته الانتخابية، قبل أسابيع قليلة، خلال إحياء لذكرى الثانية لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث يمتلك الرجل الديمقراطي قناعة تامة بأن “مقتل خاشقجي تم على يد عملاء سعوديين تصرفوا بتوجيه من محمد بن سلمان شخصياً”.

يمكن الاستناد إلى هذه التصريحات المباشرة في فهم الشكل الذي ستبدو عليه العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تحت حكم بايدن الذي لا شك يختلف كثيرا عن سلفه دونالد ترامب، الحليف الذي خسره الخليج. ومالبث أن تولى الديمقراطي زمام الأمور حتى نسف ما راكمه الجمهوري من علاقات وصفقات، ليقرر تعليق صفقات الأسلحة مع السعودية والإمارات، مؤقتاً.

وبينما يعد القرار الأمريكي مجرد “إجراء روتيني”، لكن المؤكد أن ثمة سياسات مغايرة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن سابقه دونالد ترامب، لا سيما وأن الأول قد جمد تصنيف الحوثيين، في اليمن، باعتبارها “منظمة إرهابية”، وهو القرار الذي أعلن عنه وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، قبل أيام من انتهاء ولاية ترامب.

وفي ما يبدو أن المنطقة المتخمة بالصراعات الإقليمية، سواء في اليمن أو سوريا أو ليبيا، إضافة إلى الملف النووي الإيراني، سوف تكون ضمن أولويات الرئيس الأمريكي، للمراجعة وإعادة التقييم. وذلك بناء على الاعتبارات الجيوسياسية للولايات المتحدة، ومصالحها المتفاوتة، السياسية والأمنية والاقتصادية.

النفوذ الأمريكي التقليدي في عدة مناطق قد شهد تراجعاً وتردداً، سياسياً وميدانياً، كما هو الحال، في سوريا وليبيا. ففي الأولى، انفردت روسيا بالملف السوري، وبالتبعية، حقق الدور الوظيفي لتركيا أهدافه لصالح موسكو في مناطق نفوذ الولايات المتحدة. وقد فاقم الوضع في شمال شرق سوريا، تحديداً، تخلى ترامب عن الأكراد، ورفع الحماية عنهم، إثر انسحاب قواته من شمال شرق سوريا. ونجم عن ذلك تنفيذ أنقرة حملة عسكرية، واحتلال المناطق الكردية. ومن ثم، الشروع في تكوين ما يعرف بـ”المنطقة الآمنة” على الحدود السورية التركية، لمنع تكوين دولة كردية.

ومثّلت إدارة ترامب السياسية لأزمة الملف النووي الإيراني، أحد التعقيدات التي خلفتها للإدارة الجديدة، بداية من الانسحاب “الأحادي” لواشطن من الاتفاق النووي، ثم فرض سياسة “الضغط القصوى” على طهران.

العلاقة بين واشنطن وطهران

الانسداد السياسي الذي حدث في العلاقة بين واشنطن وطهران، نجم عنه خسائر عديدة، دون أن يحقق لأي طرف أفقاً سياسياً. تكبدت طهران أزمات اقتصادية حادة وعنيفة، فاقمت من حدة الاحتجاجات الشعبية ضدها في العاصمة، وعدة مدن أخرى، استمرت منذ نهايات العام 2017، دون توقف. غير أن النظام في طهران الذي لم يتراجع عن قمع المظاهرات، عمد إلى خرق بنود الاتفاق النووي، بحجة انسحاب الولايات المتحدة، ورفع نسبة تخصيب اليورانيم، الأمر الذي حدا بوزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، إلى التحذير، قبل أيام، من أن “طهران أمامها أشهر قبل أن تكون قادرة على إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي”.

وبخلاف الدور الذي لعبه، جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في ما يخص ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، فقد تسبب تعيين روبرت مالي، مستشار السياسة الخارجية السابق لباراك أوباما، في منصب المبعوث الخاص لإيران، في ردود فعل مباغتة، لاسيما وأن الاتجاهات غير المؤيدة له، ترى أنه سوف ينفذ سياسات أوباما “الفاشلة” باتجاه طهران، وبالتحديد الاتفاق النووي.

روبرت مالي
روبرت مالي

مالي الذي تعود أصوله إلى الشرق الاوسط، إذ ينحدر من أسرة سورية يسارية، عاشت في القاهرة، حتى اندلاع ثورة يوليو 1952، شغل عدة مناصبة مهمة. ويعد من بين أبرز الخبراء في ملفات الشرق الأوسط. كما أن له إسهامات نظرية وسياسية مهمة، تحفل بها كتاباته التي تناولت قضايا الإقليم، مثل: “كامب ديفيد ومأساة الأخطاء”، و”المفاوضات الأخيرة”، و”ثلاثة رجال في مركب واحد”، و”حماس ومخاطر السلطة”، و”الثورة العربية المضادة”.

وفي الفترة بين عامي 1996و1998، تولى مالي منصب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، وكذا مساعد لمستشار الأمن القومي، ساندي بيرغر. كما أنه كان مديراً للديمقراطية وحقوق الإنسان والشؤون الإنسانية في مجلس الأمن القومي، وعمل مساعداً خاصاً للرئيس السابق، بيل كلينتون، وعضواً في فريق السلام الأميركي الذي ساعد في تنظيم قمة كامب ديفيد لعام 2000.

اقرأ أيضا:

أثر جو بايدن في إيران.. كيف ينهي أزمة شعب الجمهورية الإسلامية؟

 

وبحسب وكالة “ويترز” للأنباء، فإن “المبعوث الأمريكي الجديد الخاص بإيران تحدث مع مسؤولين بارزين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بهدف معرفة تقييم الأطراف الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي الموقع مع إيران، عام 2015، للوضع الحالي.. ولمحاولة الإلمام بالملف وتقييم ما نفكر فيه”.

وتتزامن اتصالات مالي مع التقديرات الأمريكية الأخيرة بخصوص اقتراب طهران من “الحصول على ما يكفي من المواد الانشطارية لامتلاك سلاح نووي”. ومن ثم، فإن وجهة نظر الولايات المتحدة الرسمية، هي إعطاء “الأولوية المبكرة والحاسمة لتضييق طموحات إيران النووية، ووضعها في الصندوق مرة أخرى، وبخاصة برنامج الصواريخ الباليستية”، حسبما أعلن وزير الخارجية الأمريكي. وأضاف: “هذا سيضع واشنطن في وضع يمكنها من معالجة برنامج الصواريخ الباليستية”.

وقال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي إن “علينا معالجة السلوك الخبيث لإيران في المنطقة ولا بد من مواجهة تلك التهديدات وتدخلات إيران في الإقليم، ولذا فإن الأولوية لدى إدارة بايدن هي التأكد من وضع معايير قوية لمعالجة للأمور التي تم خرقها، في السنوات الماضية، والتعامل مع هذا التطور السريع في البرنامج النووي”.

ودان بايدن اتجاهات ترامب السياسية باتجاه طهران. وشدد على أنها “لا تؤدي إلى شيء سوى تملص إيران من التزامها بعدم تصنيع أسلحة نووية”. وأكد الرئيس الأمريكي في المقابل “تقديم طريق موثوق به إلى طهران للعودة إلى الدبلوماسية. وإذا عادت إيران إلى الامتثال الصارم للاتفاق النووي، فستعاود الولايات المتحدة الانضمام إلى الاتفاقية (النووية) كنقطة انطلاق لمفاوضات المتابعة”.

وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، قال في أول مؤتمر صحافي إثر توليه منصبه، نهاية الشهر الماضي، إن “الرئيس بايدن أوضح أنه إذا أوفت إيران مجدداً بكل التزاماتها، بخصوص اتفاق عام 2015، فإن الولايات المتحدة ستفعل الأمر نفسه”.

وأضاف: “توقفت إيران عن الوفاء بالتزاماتها على جبهات عدة. سيستغرق الأمر بعض الوقت إذا اتخذت هذا القرار، للعودة إلى المسار الصحيح. وسيستغرق الأمر وقتاً حتى نتمكن من تقييم ما إذا كانت تفي بالتزاماتها. ما زلنا بعيدين جداً عن ذلك. هذا أقل ما يمكن قوله”.

محاولات سعودية

ومن ناحية أخرى، تبرز الاتجاهات السياسية للولايات المتحدة حيال السعودية، تباينات شديدة، تبدو مختلفة عن سابقتها. فعلى المستوى الإقليمي، ثمة خطوات إجرائية سوف تتعلق بالأزمة اليمنية. وقد أكد بايدن أثناء حملته الانتخابية بـ”التوقف عن بيع السلاح الأمريكي للسعودية”. وفي الملف الحقوقي، هناك مراجعة لعدد من القضايا.

ثمة محاولات محمومة تجري بهدف تغيير الصورة السلبية عن السعودية، في ما يتصل بالملف الحقوقي، وقضايا الحريات، ففي تصريحات لرئيس هيئة حقوق الإنسان، الدكتور عواد العواد، فإن “عام 2020، شهد صدور أكثر من 70 قرار إصلاحي في ملف حقوق الإنسان داخل السعودية، من بينها إعادة صياغة أنظمة الأحوال المدنية، ووثائق السفر، وأنظمة القضاء وتدابير تمكين المرأة، كرفع الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارات، وسمح بالترفيه العام والاختلاط بين الجنسين، مع تراجع سلطة رجال الدين”.

كما تم تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد، برئاسة ولي العهد، والذي مثل إصلاحًا من شأنه القضاء على الفساد، وحماية الأموال العامة، وتحقيق فوائد اقتصادية كبيرة، إضافة إلى جهود هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، إلا أنه في المقابل شن ولي العهد حملة قمع موسعة على حرية التعبير بعد اعتقال الآلاف في السجون.

كذلك، كشفت تغريده للكاتب الصحفي، زيد بنيامين، عن الخطة التي اعتمدها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لتلميع صورته في واشنطن، حتى يمكنه التقرب من بايدن، وجاء فيها: “السعودية تستعين بست عشرة مجموعة ضغط في الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة، الهدف منها هو دعم العلاقات مع إدارة الرئيس جو بايدن”.

جمال خاشقجي
جمال خاشقجي

وتعتقد السعودية، وفقا لمصادر خليجية تحدثت إلى مجلة العرب المعبرة عن المملكة، أن حملات الهجوم التي تستهدف الأمير محمد بن سلمان يقف خلفها رغبة من لوبيات متعددة الولاءات -في مراكز النفوذ الأميركي التقليدية (الكونجرس، وزارة الخارجية، الإعلام)- لمنع السعودية من بناء مسار خاص يقوم على إصلاحات كبرى تخرجها من دائرة الارتهان للنفط.

وجاء في المجلة أيضا، أن فورين بوليسي الأمريكية كشفت عن تعاقد السعودية مع 16 شركة من أجل الاستفادة من خدماتها لتحسين صورتها في الولايات المتحدة، على خلفية قضية خاشقجي، وأن “صورة السعودية تضررت أيضا إثر سجلها السيء في قضايا حقوق المرأة”.

اقرأ أيضا:

“حقوق الإنسان الأممي”: خاشقجي يحرج السعودية.. والصين وروسيا تتحديان أمريكا

وتحدث مسؤولون سعوديون لـ”بي بي سي”، النسخة العربية، عن تراجع كبير حدث مؤخراً في عمليات الإعدام، وهو نابع من إدراك فريق عمل ولي العهد بمدى التأثير السلبي لقضايا حقوق الإنسان على صورة البلاد عالمياً. فبحسب منظمة العفو الدولية، أعدمت السعودية 184 شخصًا في 2019، مقابل 149 في 2018.

لكن بحسب دينيس روس، الدبلوماسي الأمريكي، إذا فقدت عائلة آل سعود الحاكمة، لأي سبب من الأسباب، السلطة، وهي داعمة للغرب على نطاق واسع، فثمة احتمال كبير أن يحل محلها نظام إسلامي متشدد غير متعاطف مع الغرب، ولن يكون في استطاعتنا أن نملي على السعوديين ما يجب عليهم فعله، سيحتاج الأمر إلى محادثة رفيعة المستوى على انفراد.

ولذلك، كان من بين توجهات الإدارة الأمريكية الديمقراطية، مراجعة قرارات الإدارة السابقة، والتي من بينها “إعادة التدقيق” في الأسلحة التي يجري بيعها للسعودية والإمارات، للتأكد من أنها تحقق “أهدافها الاستراتيجية”، حسبما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية. ومن بين هذه الصفقات التي جمدتها واشنطن “ذخيرة دقيقة للسعودية وخصوصاً مقاتلات من طراز اف-35 للإمارات العربية المتحدة”.

وزير الخارجية الأمريكي أكد على “إنهاء” الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقود السعودية في اليمن، حيث إن “هذا التحالف ساهم في ما يعتبر في كثير من الأحيان بأسوأ أزمة إنسانية في العالم اليوم”. وبالتبعية، جرى تجميد قرار إدراج الحوثيين على اللائحة الأميركية “للمنظمات الإرهابية”.

كما قال بلينكن: “الحوثيون يتحملون مسؤولية كبيرة حيال ما يحصل في اليمن. ولكن الحملة والطريقة التي شُرعت بها، ساهمت إلى حد كبير في الأوضاع هناك عليه. فإن دعمنا يجب أن يتوقف”.

وبحسب مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فإن الملف الفلسطيني، سوف يكون من بين الملفات التي سوف تتأثر بوجود بايدن، حيث “من المرتقب أن يسعى بايدن لإعادة التواصل مع الفلسطينيين، رغم أنه من المرجح ألا يكون هناك اختلاف كبير في سياسته حيال هذا الملف، كما أن بايدن أعلن صراحة أنه لن يتراجع عن نقل السفارة إلى القدس”.

ويشير معهد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى أنه “من غير المحتمل أن تكون هناك عودة كاملة إلى الوضع السابق في هذا الملف”. غير أن “هناك أمل في أن يصلح (بايدن) على الأقل أكثر ما أفسدته حقبة ترامب، مثل تجديد المساعدة الأمريكية للفلسطينيين وإعادة فتح البعثة الفلسطينية في واشنطن، والعودة إلى مسألة حل الدولتين التقليدي”.

 

شارك في التقرير: رحمة سامي