بينما كان المحاسب سيد جودة يمارس عمله بشكل طبيعي، تلقى اتصالاً هاتفياً من زوجته تخبره بأن العقار الذي يقيمون به في حي فيصل قد تعرض للاحتراق. صُعق الرجل وفرّ إلى العقار، فوجد زوجته وأطفاله حفاة وبملابس البيت تدور أعينهم التي تكسيها الدموع نحو ألسنة اللهب التي تتطاير على جدران العقار الضخم.
سارع جودة وجيرانه في الاتصال بالحماية المدنية لمحاولة السيطرة على الحريق الذي شب يوم الجمعة الماضي في عقار ضخم يطل على الطريق الدائري، وصار حديث مصر بأكملها، حيث ظل يحترق حتى كتابة هذه السطور.
نشب الحريق في البدروم والطابق الأرضي بعقار فيصل المكون من 14 طابقاً و108 شقة سكنية (15 شقة مأهولة فقط) وهم عبارة عن مخزن أحذية مملوكة لصاحب العقار، بسبب ماس كهربائي نشأ في لوحات الكهرباء بالمخزن، ومما ساعد في انتشار الحريق وجود مواد سريعة الاشتعال.
وبحسب معاينة النيابة، كان المخزن يحوي مواد سريعة الاشتعال، مثل “الكلة والتنر” وامتدت النيران من البدروم للطابقين الأرضي والأول، الملحقين بالمخزن.
وتبين من خلال المعاينة أن البدروم لا توجد به أي نوافذ، فاضطرت قوات الحماية المدنية للتعامل من خلال الباب الوحيد للبدروم، إلا أنه مع شدة النيران انهارت أجزاء من السقف على القوات.
بعد اشتعال النيران في المبنى أخلت الحماية المدنية العقار من السكان، وكذلك العقارات المجاورة، وجد جودة نفسه وعائلته بلا مأوى، يقول جودة لـ مصر 360: “الحماية المدنية ظلت تكافح الحريق لغاية الساعة 2 بالليل بعدها فوجئنا إن المطافئ سحبت العربيات رغم إنهم سيطروا على 90% من الحريق.. سألناهم: يا أفندم طيب هتيسبوا النار هتولع تاني؟ قالي مش عارفين نوصل للبدروم، والمياه زادت فيه، واشتعلت النار تاني وطلعت فوق وفي شقق احترقت”.
في غمضة حين، فقدت عائلة جودة كل شيء. الزوجة ذهبت بأبنائها إلى أمها، فيما ظل الأب في الشارع بالقرب من العقار المحترق، يتنقل بين المقاهي، في اتتظار مصير العقار، وقرار اللجنة الهندسية المشكلة بغرض أخذ القرار النهائي في صلاحية العقار من عدمه، حتى يتمكن وعائلته من جمع متعلقاتهم أو الحصول على تعويضات.
وبالرغم من مرور 5 أيام على الحريق لا تزال الأدخنة تتصاعد من البرج السكني، وحسب مشاهدات مصر 360 للعقار المحترق، فقد تحطمت أجزاء من واجهة العقار المواجهة للكوبري الدائري، فيما أقامت قوات الِشرطة حواجز حديدية حول العقار يمنع الدخول والخروج إليه، بينما تراصت سيارات الحماية المدنية خارج الكردون، والتي كانت قد توقفت عن عملية الإطفاء في الساعات الأولى من صباح يوم السبت الماضي، بعد توصية من اللجنة الهندسية المكلفة بمعاينة العقار، بإيقاف عمليات الإخماد خوفًا من انفجار أعمدة الخرسانة، وانهيار العقار.
القصة الآن في بد النيابة الإدارية التي فتحتت تحقيقا فى كافة المخالفات المتعلقة بحريق عقار فيصل، وقررت تشكيل لجنتين لفحص العقار وبحث الإجراءات المطلوبة لتعويض السكان.
والمعلوم أيضا أن هذا العقار بني بطريقة مخالفة ورفض طلب تصالحه بالرفض من قبل محافظة الجيزة، نظرا لمخالفته شروط التصالح علي البناء المخالف، كما أنه صادر بحقه قرار إزالة.
قنابل موقوتة أسفل سكنك
تشكل مخازن العقارات الاستثمارية قنابل موقوتة لسكانها، وتحمل بداخلها موت محقق، نتيجة التخزين العشوائي لأنشطة تجارية مخالفة تحتوي مواد سريعة الاشتعال، وهو ما يعرض حياة السكان للخطر أو العقار للانهيار.
حوادث احتراق المخازن والمستودعات داخل العقارات ليست جديدة. ففي 20 يوليو الماضي، اندلع حريق في مخازن قطع غيار وعشش أعلى سطح عقار بمنطقة التوفيقية بوسط القاهرة، وفي 23 أكتوبر من نفس العام اندلع حريق داخل مخزن في عقار مكون من 8 طوابق بمنيا القمح في محافظة الشرقية، وفي مايو 2020 أيضاً، اندلع حريق آخر في عقار مكون من 9 طوابق في بحي ميت نما، غرب شبرا الخيمة، وكان العقار يستخدم كمخازن ومعرض وورش لتجميع النجف.
وتحتل حرائق المخازن والمحلات المرتبة الثالثة وفق تصنيف الأماكن التي شب فيها الحريق على مستوى الجمهورية، بعدد 3036 حريق بعد حرائق المباني السكنية وأراض الفضاء ومخلفات القمامة، وذلك خلف المباني السكنية وأراض الفضاء، حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادر عن عام 2019.
وفي الإحصائية ذاتها طبقاً لمسببات الحريق في المحافظات، تأتي الحرائق الناتجة عن الماس الكهربائي في المرتبة الثانية بواقع 9359، خلف حرائق النيران الصناعية التي جاءت في المرتبة الأولى بإجمالي 30093 حريق.
الإدارة الهندسية بمركز ومدينة كرداسة أودعت تقريرها المبدئي بشأن سبب الحريق، بأن مالك العقار استغل البدروم والطابق الأرضي في نشاط تجاري هو تخزين الأحذية، مما أدى لوجود مواد معجلة للاشتعال في هذه الأماكن، بينما وجهت النيابة العامة لمالك العقار اتهامات هامات بإقامة عقار بدون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة وخارج حدود الحيز العمراني المعتمد، وعدم تنفيذه القرار الصادر من تلك الجهة بإزالة الأعمال المخالفة بعد انتهاء المدة المقررة قانونًا، وعدم اتخاذه -بوصفه صاحب عمل- الاحتياطات والاشتراطات اللازمة للوقاية من مخاطر الحريق، وعدم توفيره وسائل السلامة والصحة المهنية بما يكفل الوقاية من المخاطر الفيزيائية، مما نتج عنه نشوب الحريق بالمخزن محل الواقعة، وتسببه بإهماله وعدم احترازه وعدم مراعاته للقوانين في نشوب هذا الحريق.
ماذا في القانون؟
القانون رقم 106 لسنة 1976 يلزم طالب البناء بتوفير أماكن مخصصة لإيواء السيارات يتناسب عددها والمساحة اللازمة لها والغرض من المبنى، وذلك وفقاً للقواعد التي تبينها اللائحة التنفيذية، ومنع القانون بأي حال من الأحوال تغيير استعمال الجراج الخاص بالسكان في غير الغرض الخاص به. كأن يقوم بتأجيره إلى محلات تجارية أو صناعية أو غير ذلك.
وفي حالة امتناع المالك عن إنشاء المكان المخصص لإيواء السيارات (…) أو استخدامه في غير هذا الغرض المرخص به (…) أو توفير اشتراطات تأمين المبنى ضد أخطار الحريق، وذلك بالمخالفة للترخيص الصادر بإقامة البناء، تتولى الجهة الإدارية توجيه إنذار للمالك أو من يمثله قانوناً بكتاب موصى عليه مصحوباً بعلم الوصول للقيام بتنفيذ ما امتنع عنه أو تراخى فيه ـ حسب الأحوال ـ خلال مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر.
وأعطى القانون للنيابة العامة الحق بالحكم ببطلان أي تصرف يتم بالمخالفة.
الجراج للسكان وليس للمالك
قضية تحويل العقارات إلى مخازن هي قضية جدلية، ففي العام الماضي وجه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بحصر عقارات بمنطقة وسط القاهرة التي تم تحويلها إلى مخازن للتعامل معها طبقا للقانون والتأكد من سلامتها الإنشائية بعد حادث انهيار إحدى العمارات بالمنطقة، خاصة أن هذه الوحدات مخصصة هذه للأغراض السكنية.
المهندس محمد عبد الظاهر محافظ القليوبية السابق تتطرق إلى أن قانون البناء نص على إنشاء جراج للسكان يسع سيارة لكل وحدة سكنية، وسيارتين لكل وحدة تجارية، وفي حال زادت الوحدة السكنية عن 200 متر تخصص مكانين لسيارتين لكل وحدة سكنية.
إذاً، وفقاً لعبد الظاهر فالوضع الطبيعي للقانون هو تخصيص الجراح للسكان فقط، لكن ما يحدث أن المالك يحصل على تعهد كتابي من السكان بعدم استخدامهم للجراج، بالرغم من أن يحمل تكلفة الجراج في الأساس يتم تحميلها الشقق السكنية.
وأضاف في تصريحات تليفزيونية أن المالك يوهم السكان بأن الوحدة السكنية من غير الجراح أرخص، وهذا غير صحيح لأن ثمن الوحدة السكنية يدخل فيه استخدام الجراج والمناور وغيرها، “لكن العرف أقوى من القانون لمصالح ناس كثير” حسب عبد الظاهر، فيحتفظ المالك بالجراج بدلاً من السكان، ومن ثم يقوم بتأجيره مخازن ومستودعات ويضع فيه مواد ملتهبة، وبسبب ذلك تحدث الحرائق.
وأنهى عبد الظاهر حديثه بأن الحل للحد من حوادث احتراق العقارات السكنية بسبب المخازن والمستودعات هو جعل الجراج للسكان كما نص القانون، وإسناد إدارته إلى اتحاد الشاغلين.
في النهاية، تأمل أسرة جودة في العودة إلى شقتهم السكنية بعقار فيصل المحترق، لا سيما أن سكان العقار دفعوا نحو نصف مليون جنيه تعويضات لتقنين أوضاع العقار، وفي حال إزالة العقار فإن جودة ينتظر الحصول على تعويضات مجزية من مالك العقار الذي ما زال رهن التحقيق.