أتى إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي عن ترشيح مصر للسفير أحمد أبو الغيط أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية لفترة ثانية، ليفتح من جديد ملف “الزعامة” المتنازع عليها بين القاهرة وعواصم أخرى.  ففي حين ترى مصر إنها صاحب الحق في الاحتفاظ بمقعد الأمين العام لها، يرى آخرون أن احتكار المنصب للمصريين لم يعد مقبولًا، وأنه آن أوان التغيير. 

وبين هذا وذاك، يجد أبو الغيط نفسه عنوانًا رمزيًا للصراع المسكوت عنه بين المتشبثين بحقائق التاريخ والمسلحين بمقتضيات الحاضر.

ميثاق جامعة الدول العربية 

وقّع ميثاق جامعة الدول العربية التأسيسي بالقاهرة في مارس 1945، بحضور مندوبي سبعة دول هم: مصر، السعودية، سورية، العراق، لبنان، الأردن، اليمن.  وقد تم في ذلك اليوم اختيار عبد الرحمن باشا عزام بالإجماع ليكون أول أمين عام لجامعة الدول العربية لمدة عامين، ثم تم تعديل الُمدة في العام التالي لتصبح خمس سنوات قابلة للتجديد.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا تعاقب على منصب الأمين العام للجامعة ثمانية أمناء، سبعة منهم من مصر: عبد الرحمن عزام، عبد الخالق حسونة، محمود رياض، عصمت عبد المجيد، عمرو موسى، نبيل العربي، أحمد أبوالغيط.  وواحد فقط من تونس وهو “الشاذلي القليبي” الذي تولى المنصب بعد استقالة محمود رياض احتجاجا على توقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في 1979، وهو التوقيع الذي نجم عنه تجميد عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس.

المفارقة أن المقر الذي غادر القاهرة بالتزامن مع استقالة الأمين العام نتيجة أزمة عربية، عاد مرة أخرى لها متزامنًا مع أزمة جديدة، أفضت إلى استقالة نفس الأمين العام!!

ففي القمة العربية الطارئة التي دعت إليها مصر في التاسع من أغسطس 1990 للنظر في أزمة غزو العراق للكويت، حدث انقسام بين الزعماء العرب فصوتت  12 دولة لصالح إصدار قرار إدانة الغزو العراقي للكويت، في حين عارضته أو امتنعت عن التصويت 8 دول من ضمنهم تونس (بلد الأمين العام) ليصدر القرار بالإدانة وتتصاعد بعدها الأحداث، وفي غضون شهرين يكون الأمين العام استقال، وعاد مقر الجامعة إلى القاهرة مرة أخرى، وتولى الدكتور عصمت عبد المجيد (وزير الخارجية المصري الأسبق) منصب الأمين العام.

اقرأ أيضا:

جامعة الدول العربية والقضية الفلسطينية.. 72 عاما من اللا شيء

لماذا تسيطر مصر على الجامعة وتحتكر منصب الأمين العام؟

نظريًا، النصيب الأكبر من العاملين في الجامعة مصريين هذا حقيقي، لكن ذلك لا يعود لأهمية مصر ولا مكانتها وإنما لسبب آخر يتعلق بالهيكل الوظيفي للجامعة الذي يقسم العاملين بالجامعة الى الشرائح ونظريا لكل دولة “كوتة” في التعيينات وفق نسبتها في ميزانية الجامعه، فالسعودية مثلا حصتها 14% من النفقات لذلك فلها 14% من الوظائف، ومصر حصتها 12% من النفقات لذا لها 12% من الوظائف … وهكذا.

لكن الذي يحدث أن كثير من الدول (وبخاصة الخليجية) لا ترسل مرشحين للوظائف المتوسطة والدُنيا ويكتفوا بإرسال الدبلوماسيين فحسب، تاركين تلك الدرجات الوظيفية شاغرة يملؤها المصريون ومن بعدهم السودانيون.

 أما عن منصب الأمين العام الذي تحتكره دول المقر (مصر) فالحقيقة أنه لا يوجد سند قانوني لذلك في ميثاق الجامعة، الذي نص في مادته العاشرة أن تكون القاهرة المقر الدائم لجامعة الدول العربية – ولذلك حين تقرر نقله عام 1979 إلى تونس سمي مقر تونس بالمقر المؤقت.

كما أن الميثاق نص في المادة الثانية عشر على أن تعيين الأمين يتم بموافقة ثلثي الأعضاء. لكنه لم يتحدث عن جنسيته مطلقا، لذلك فإنه يحق لأي دولة تسمية مرشحها.

وتاريخيا، حدث بالفعل أن سعى الدبلوماسي السوداني جمال محمد أحمد (رئيس اتحاد الكتاب السودانيين لاحقا) للترشح لمنصب الأمين العام في 1968.

حينها كانت القاهرة مكسورة في أعقاب النكسة، والنظام المصري فاقد للتوازن وغير صالح لقيادة العالم العربي عبر ذلك المنصب، وفي قمة الخرطوم ( قمة اللاءات الثلاثة) طُرحت الفكرة ولاقت دعما من عدة عواصم مختلفة، فضلا عن أنه كان واضحاً أن عبد الخالق حسونة أكثر من زاهد في التجديد له في منصب الأمين العام لفترة رابعة. 

المدهش أن الذي عرقل ترشح الرجل لم تكن القاهرة بل وزير خارجية السودان نفسه الشيخ علي عبد الرحمن الذي خالف تعليمات الصادق المهدي (رئيس الحكومة حينها)، ولم يطرح اسم مرشح السودان لمنصب الأمين العام للجامعة العربية في اجتماع التصويت، متعللا أنه لمس توافقا كويتيا سعوديا أردنيا، يرجّح التمديد للمرة الثالثة للأمين العام حسونة. 

ومن ذلك الحين لم تطرح علانية فكرة تدوير المنصب بين الأقطار العربية، وإن كانت بين الحين والآخر تظهر على استحياء في الغرف المغلقة.

لكن مؤخرا ومع تراجع الدور المصري الملحوظ في الإقليم، بالتزامن مع تنامي الدور القطري والسعودي ومن خلفهم الإماراتي، بدأ يظهر من جديد من يطالب مباشرة بالمنصب باعتباره التعبير الرمزي الأخير عن قيادة المنطقة التي حان أوان انتقاله رسميا للقادة الجدد.

المنازعة الحقيقة حدثت لأول مرة في 2011، حين تقدمت قطر رسميا بطلب ترشيح “عبد الرحمن العطية”  الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي لتولى منصب الأمين العام للجامعة منافسة بذلك المرشح المصري حينها “مصطفى الفقي”.

وهو الترشيح الذي سبب ربكة وتدخلت عواصم عدة لتسوية الأمر، والذي انتهى على اتفاق على أن تسحب الدولتان مرشحهم، وتُرشح مصر مرشحا توافقيا آخر، وهو ما حدث بالفعل وذهب المنصب في النهاية إلى نبيل العربي 

ورغم أن المنصب بقى مصري، إلا أن تلك الأزمة كانت نقلة نوعية في علاقة القاهرة الاستحقاقية بمنصب الأمين العام، الرسالة كانت واضحة: انتهى عصر تسليم الجامعة العربية لمصر على بياض تعيين أمينها كما يحلو لها.

 أصداء الترشح القطري دوت في الرياض التي مالت موازين الثقل الإقليمي ناحيتها في العقد الأخير بفروق شاسعة، وارتأت أنه آن أوان تعميد قيادتها للإقليم رسميا. 

تزامن ذلك مع ارتفاع حدة الأصوات الحانقة على القيادة المصرية للجامعة والدور الذي تلعبه الجامعة اليوم في العالم العربي داعية إلى إصلاح هيكلي وتدوير منصب الأمين العام، وأعلى تلك الأصوات كانت الجزائر التي اتهم وزير خارجيتها صبري بوقادوم الجامعة العربية بالتواطؤ ضد “بعض” العرب، متهما إياها بأنها زكت الحرب في ليبيا.

وفي ظل كل تلك المتغيرات التي تحاصر أبو الغيط، يعاني الرجل من أزمة مالية خانقة تمثل ضغوط عليه وعلى الجامعة العربية، دفعته للإعلان صراحة أن حصة الدول المسددة لا تتجاوز 35% من ميزانية العام البالغة 60 مليون دولار. فالسعودية لم تسدد حصتها من 3 سنوات احتجاجا على رفض مشروعها المقدم لإصلاح الجامعة، وقطر هي الأخرى توقفت عن السداد احتجاجا على عدم إدراج ملف المقاطعة في الأجندة، أما الجزائر فسبب امتناعها عن السداد كان تجاهل طلبها بتعيين نائب للأمين العام خلفا للجزائري أحمد بن حلي. أضف إلى ذلك بلدان معفية من سداد الرسوم.

ورغم تغير الخريطة السياسية في الإقليم، وتنامي الأطماع في منصبه الذي بات شرفيا بمعنى من المعاني، إلا أن حظوظ أبو الغيط في الحصول على فترة ثانية كبيرة، لسببين: أولهما سياسي بحت يحدث في أغلب المنظمات الدولية وهو ما يطلق عليه “قوة العرف” الذي يساهم في استقرار المنظمات حتى وإن تغيرت الأوزان النسبية لأطرافها، ففي حالة الجامعة العربية مثلا بقاء المنصب في القاهرة يغلق باب شرور ستُفتح إن غادرها، حيث سيصبح السؤال إلى أين؟ هل للرياض أم للدوحة أم أبوظبي؟ ولماذا هذه وليست تلك، فبقاء الحال على ما هو عليه كثيرا ما يكون أريح لأطراف اللعبة جميعا.

السبب الثاني إن إعلان السيسي الصريح ترشيحه أبوالغيط، يضع لاعب مهم مثل السعودية في مأزق لأنها لو دعمت مرشحا آخر ستكون بذلك تحرج حليف لا ترغب في خسارته في ظل رياح التغيير القادمة من واشنطن.

لذا فالأغلب أن المنصب سيظل مصريا طيلة الخمس سنوات القادمة، لكن من الوارد طبعا أن يكون أبو الغيط هو الأمين المصري الأخير لجامعة الدول العربية.