على مدار سنوات طويلة، مرت الحكومات المتعاقبة دون أن تكلف الدولة الكثير من النفقات لتطوير القرى كالمدن والعواصم. وأيضًا دون أن يبالغ قاطنو الريف في مطالبهم من الخدمات والمصالح، حتى تدهورت أحوال عشرات القرى مع انعدام الخدمات وأساسيات الحياة. وهو ما تسعى الحكومة لتغييره في الفترة المقبلة، أو هكذا يبدو من ملامح المبادرة الرئاسية لتطوير الريف المصري. وهو المشروع الذي يرتكز على تحقيق معدلات نمو إيجابية بمشروعات قومية ينعكس بعضها على تحسين أداء الاقتصاد. ويوفر السيولة والقدرة المالية اللازمة لتمكين الدولة من عملية إصلاح حياة قرابة نصف تعداد سكان الجمهورية.
الريف المصري.. 60 مليون يعيشون انعدامًا تامًا للخدمات
يتركز قرابة 57.8% من إجمالي عدد سكان مصر (أكثر من 100 مليون نسمة) في الريف المصري. ذلك بما يعادل نحو 60 مليون مواطن، مقابل حوالي 42.2% يعيشون بالحضر، وفق نتائج تعداد مصر لعام 2017. بينما يتوزع هؤلاء بين جميع قرى ومراكز محافظات مصر. وهو ما يعني أن أكثر من نصف تعداد المواطنين في مصر بحاجة إلى تطوير حتمي يعالج الإهمال الخدمي الذي عانوا منه طيلة العقود الماضية.
عدد القرى المصرية المستهدف تطويرها ضمن المبادرة الرئاسية يقارب حاجز الـ “4741 قرية” وتوابعها “30888”عزبة وكفرًا ونجعًا. فيما تسعى المبادرة إلى إحداث تغيير جذري بحال وواقع هذه القرى. بما يشمل كافة جوانب البنية الأساسية والخدمات والنواحي المعيشية والاجتماعية والصحية.
القرى الأكثر فقرًا المستهدف الأول في الريف المصري
في ديسمبر الماضي، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء انخفاض نسبة الفقر في البلاد لأول مرة منذ نحو 21 عامًا. حيث وصل إلى 29.7% من عدد السكان. مقابل 32.5% في بحث عام 2017-2018. رغم ذلك فإن بعض القرى المصرية تعاني نسبة فقر تبلغ 70% وأكثر. وهي المستهدفة بالمرحلة الأولى من مشروع المبادرة الرئاسية. بينما تشمل المرحلة الثانية القرى ذات نسب الفقر من 50% إلى 70%. وتضم الثالثة القرى ذات نسب الفقر أقل من 50%.
يتم تحديد القرى الأكثر احتياجًا وفقًا لمعايير ضعف الخدمات الأساسية من شبكات الصرف الصحي وشبكات المياه. وكذلك انخفاض نسبة التعليم، وارتفاع كثافة فصول المدارس. فضلاً عن الاحتياج إلى خدمات صحية مكثفة لسد احتياجات الرعاية الصحية. وأيضًا سوء أحوال شبكات الطرق، وارتفاع نسبة فقر الأسر القاطنة في تلك القرى.
ويأخذ المشروع طابعًا متكاملاً، فلا يقتصر على بُعد أو قطاع معين. لكنه يسعى لتحقيق تنمية شاملة لقرى الصعيد. بما يشمل تحسين مستوى خدمات البنية الأساسية كمياه الشرب والصرف الصحي والطرق والاتصالات والمواصلات والكهرباء والنظافة والبيئة والإسكان. وأيضًا تحسين مستوى الخدمات العامة كالتعليم والصحة والشباب والمرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة. علاوة على تحسين مستوى الدخول عن طريق زيادة الإنتاج وفرص العمل وتنويع مصادر الدخل، وغيرها.
كما يستهدف المشروع تدعيم مؤسسات المشاركة الشعبية عبر تدريب وتأهيل المواطنين على المشاركة الشعبية في كل مراحل تخطيط وإدارة وتشغيل المشروعات والخدمات.
1500 قرية بالمرحلة الأولى
تتضمن المرحلة الأولى من المشروع رفع كفاءة 1500 قرية على مستوى الجمهورية. وذلك عبر الاعتماد على أحدث المعدات والآلات من حيث الكم والنوع. على نحو يضمن جدارة تنفيذ هذا المشروع.
المبادرة تم تقسيمها إلى ثلاث مراحل، كل منها يستغرق سنة واحدة. بينما تضم الأولى 1500 قرية، على أن توزع القرى الباقية على المرحلتين المقبلتين. ويأخذ في الاعتبار أن الأمر لا يقتصر على القرى فقط، بل توابعها أيضًا.
وقد صرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، بسام راضي، بأن المرحلة الأولى تستهدف حوالي 18 مليون مستفيد في 50 مركزًا، موزعة على نحو 22 محافظة. مؤكدًا تكاتف جميع جهود الدولة بأجهزتها كافة في هذا المشروع.
أولوية الخدمات
أولوية التدخلات المطلوبة في الريف المصري خلال الفترة المقبلة، تم تحديدها من قبل وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية. ومن بينها شبكات الصرف الصحي، والمدارس، ورصف الطرق. فضلاً عن إنشاء الجسور، وإنشاء الوحدات الصحية، والمخابز، وفصول محو الأمية. وأيضًا مراكز الشباب، والتخلص من المخلفات، وتحسين حالة الترع والمصارف.
هذه الخدمات التي سيتم البدء في تنفيذها حُددت بناءً على رصد الواقع الفعلي للمجتمع المحلي من حيث الخصائص وحالة البنية التحتية. وكذلك رصد أهم التغيرات التي طرأت على المجتمع المحلي في السنوات الخمس الأخيرة. والتعرف على الاحتياجات التنموية الحالية بالقرى والأحياء والجهات المسؤولة عنها للعمل على تنفيذها ومتابعتها.
500 مليار تمويل من خزانة الدولة
وزير المالية المصري، الدكتور محمد معيط، أوضح أن مشروع تطوير الريف المصري سيتم تمويله بالكامل من الخزانة العامة للدولة. فقال: “مصدر تمويل المبادرة بالكامل من الخزانة العامة للدولة”. بينما أوضح أن القيمة المبدئية 500 مليار جنيه وقد تزيد عن ذلك فيما بعد. وأكد أن هذا التساؤل لا يشغل بال المصريين وحدهم، وإنما عدد من الدول الأجنبية أيضًا التي تساءلت عن مصادر التمويل.
النائب مصطفى سالم، وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، أيضًا كان ضمن الذين تساءلوا عن مصادر تمويل هذا المشروع. إذ لفت إلى أن تعليمات وزارة المالية تقضي بسداد 25% من قيمة أي مقايسة للوزارة المختصة. في حين أن بعض الوزارات والهيئات ترفض التوريد قبل سداد القيمة بالكامل. وهو ما حدث مع شركة الكهرباء، ما يتسبب في تعطيل تنفيذ المشروعات القومية.
ورد الوزير على ذلك موضحًا أنه يجوز سداد 100% بشرط التنفيذ بالكامل خلال العام المالي الحالي. وفي حال التجاوز يجب طلب موافقة رئيس مجلس الوزراء.
منظمات المجتمع المدني.. شريك في تطوير الريف المصري
من المقرر أن يتم تنفيذ مشروع الريف المصري بدعم من أجهزة الدولة وبـ”آلية مبتكرة” تمت بلورتها خلال السنوات الماضية وأثبتت نجاحًا كبيرًا، وفق تصريحات حكومية. خاصة بالعمل المتناغم مع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص من رجال الأعمال. بعدما أصبت ذلك نجاحًا في برامج الحماية الاجتماعية.
فقد بات هذا الترابط بين منظمات المجتمع المدني وباقي جهات ومؤسسات الدولة هو الحل الأنسب لتنفيذ المشروعات التنموية التي تستهدف مصلحة المواطن.
تحديث بيانات القرى
في تصريحاتها بهذا الشأن، أكدت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية الدكتورة هالة السعيد أن الحكومة ستعمل على الاستفادة من هذه المبادرة الرئاسية في تحديث البيانات الخاصة بالقرى المصرية. وهو ما يُساعد في وضع الخطط التنموية المختلفة.
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أجرى أول مسح عن خصائص الريف المصري بأسلوب الحصر الشامل عام 2015. بينما يهدف مسح عام 2020 إلى تحديد التطورات التي طرأت على حالة التنمية في هذه القرى خلال السنوات الخمس السابقة. ويشمل المسح 4658 قرية في مختلف المحافظات الريفية.
تعكس المؤشرات الراهنة ارتفاعًا في نسب القرى التي تتوافر بها وحدات صحية ومدارس. إذ وجهت الدولة 19.5 مليار جنيه لإنشاء نحو 60 ألف فصل بهذه القرى. كما توضح المؤشرات زيادة في عدد القرى المغطاة بخدمات مياه الشرب والصرف الصحي، وذلك نتيجة توجيه الدولة نحو 18 مليار جنيه كاستثمارات حكومية في مشروعات الصرف بهذه القرى. وذلك بطاقة 808 آلاف م3/يوم، فضلاً عن التطور الإيجابي في خدمات الكهرباء والغاز الطبيعي والاتصالات وغيرها من الخدمات الأساسية للمواطنين.
قرى بروح المدينة
الخبير المعماري الدكتور محمد جبر أكد أن سكان الريف حينما بدأوا بالهجرة إلى المدن، كان ذلك نتيجة تقلص مساحة الأراضي الزراعية، فضلاً عن أن فكرة التحضر والفرار إلى المدينة مسيطرة على أذهان ساكني القرى. ويضيف أنه يجب مراعاة أن النظرة وفكرة القرية قد تغيرت منذ زمن، وأن التصميمات المعمارية في المشروع الجديد يجب أن تراعي أن مفهوم الثقافة قد تغير في القرى المستهدفة. ولهذا يجب وضع تصور لهوية القرية عند التطوير، يأخذ بعين الاعتبار ما طرأ عليها من متغيرات ثقافية متأثرة بالمدينة، حتى تتماشي فكرة التطوير مع ما تريد الدولة تنفيذه في سياق الموارد الأساسية.
تعتمد الدولة في نظرتها إلى تطوير البنى التحتية للمحافظات على محورين: الأول يهتم بالتنمية العمرانية في المناطق والمدن الجديدة، وما يلزم لها من الخدمات والبنية الأساسية. بينما يعني المحور الثاني بالتنمية الريفية المستدامة. ذلك بتحديث الخدمات اللازمة لخدمة السكان، وخلق بيئة عمرانية ملائمة تعمل علي تحسين جودة الحياة بتلك القرى. وهو أمر إن حدث بالشكل المناسب يخدم الاقتصاد الكلي للبلاد ويخلق فرصًا جيدة للاستثمار وكذلك يعالج مشاكل البطالة والفقر، التي تعانيها نسبة كبيرة من فئات المجتمع.