في دروس العلوم الأولى نرى أحد أنابيب الاختبار قاعدة واحدة وأشكال متنوعة بارتفاعات مختلفة، يضع المعلم أي سائل في الآنية، ليرتفع في كل الأشكال بنفس الطول، ويؤكد لنا أن الضغط المتساوي يتسبب في الارتفاع المتساوي في كل أشكال الأنابيب رغم اختلاف المساحة.
ليست هذه التجربة الوحيدة التي نتطرق فيها إلى نظرية “الأواني المستطرقة“، وإنما تفاصيل عديدة في حياتنا، منها انتقال الشائعات سواء المعتمدة على حقائق أو أكاذيب.
تمتلك الكثير من النساء شهوة الحكي، النساء حكاءات بالفطرة، يملن إلى نسج القصص. وتداول التراث الشفاهي حملته النساء وحافظن عليه، وبعد شهوة الحكي وانتقال القصص وحِكم الدهر، تنمو أيضًا رغبات الثرثرة، الحديث بلا هدف ولا محتوى واضح، كانت الأزمان القديمة تُقدم للنساء أوقات طويلة من الفراغ، فلأن المرأة بطبيعتها متعددة المهام، يمكنها إنجاز أكثر من مهمة في ذات الوقت، باتت ربات البيوت يمتلكن الوقت الذي ينفقنه في جلسات السمر، واللقاءات النسائية.
“أنا حرة”
في فيلم “أنا حرة” نرى في أحد المشاهد نساء العباسية مجتمعات في منزل إحداهن كجلسة من جلسات السمر، وتدخل الفنانة جمالات زايد، لتقوم ببث أخبار كل المنطقة من وجهة نظرها، في سرعة وتوالي مُدهشين، وهي صورة تم اعتمادها للنساء لفترة طويلة، حتى بات الرجل الثرثار أو ناقل الأخبار يشبّه بـ”النساء”.
لا تكمن المشكلة في الثرثرة ولكنها تكمن في المحتوى، وخصائص اللغة التي تختلف في المعنى حسب علامات الترقيم وحالة القائل، فكلمة نعم قد تكون استفاهمية أو موافقة أو استنكار. تختلف الدلالات حسب الموقف وطريقة القائل وحالة السامع، لكنه حين يتم نقل الكلام لا يتم مراعاة كل ذلك، ومن هنا تأتي المشكلة.
إحداهن تعتقد أن رجلًا يحبها لأنه قال ذات لحظة “وحشتيني” بينما دلالة الكلمة لا تعني أكثر من الافتقاد اللحظي، أو قيلت في موقف لا تعني أكثر من الوحشة في هذه اللحظة، لكن لأنها تنتظر مشاعر معينة، أو أنها تميل لهذا الرجل، فإنها تتعامل مع هذه الكلمة بوصفها تصريح مضمّن للحب، وربما انطلقت تحكي عن هذه الكلمة لصديقاتها، لتصنع حكاية غير حقيقية.
السقوط الحر في مشكلات غير الضرورية
مثال المرأة التي تتلقى كل كلمة حسب حالتها النفسية هو مثال متكرر، لكن أسوأ المشكلات تلك التي تنبت من نقل حكايات عادية، لكن تضمينها معلومات يحولها لفخاخ تبتلع القائل.
وعلى طريقة مسائل الرياضيات لنفرض أن (س) قالت لـ(ص) أنها رأت (ل) تسير بصحبة رجل، الموقف عادي جدًا، لكن طريقة نقله ونبرة الصوت قد تحوله إلى نميمة واضحة، وتقتنص من سيرة (ل) وسمعتها، وبينما يتم نقل الكلام من مكان لآخر تتكون حكايات ولأننا لسنا ماكينات، فلا نحفظ ما نسمعه ولكن في كل مرة يتم انتقاص أو زيادة جملة أو تعبير، بهذه الطريقة يتم تشويه السمعة، ونقل المعلومات المغلوطة، وعند المواجهة بالتأكيد ستنكسر علاقات وتضيع الثقة بين الأطراف.
المشكلة الأكبر التي تواجه الغالبية من النساء أنه رغم كل المهام والأعباء التي يتحملونها، لم تخف رغبتهن في الحكي أو الثرثرة.
أفلام كاشفة لكننا لا نتعلم
في الفيلم التلفزيوني “دكتوراه مع مرتبة الشرف” إنتاج 1992 سيناريو وحوار بهاء الدين إبراهيم، إخراج إبراهيم الشقنقيري وبطولة معالي زايد وعبدالعزيز مخيون، في الفيلم تُفكر البطلة معالي زايد أن تستخدم علاقتها بخطيبها في جمع مادة علمية لرسالة الدكتوراه، فتتفق مع خطيبها على إطلاق شائعة تخص علاقتهما، حتى تتبعها ويحدث بالفعل، لكن الشائعة التي أطلقوها بأنفسهم تتضخم وتتغير وتتحول من مجرد كلام كاذب إلى حقائق وتفسد علاقة الخطيبين، وتضيع الحقيقة مع الزيف، ولا أحد يعرف سوى الخسارات.
اقرأ ايضًا.. لماذا تفسد علاقات النساء؟
الفيلم الذي تم عرضه أكثر من مرة، مرّ كأي مادة ترفيهية، ونحن مستمرين في نقل الكلام دون التحري، هذا غير التبرع المجاني بتحليل الناس المحيطين بنا، وتأويل ردود أفعالهم.
إن شهوة الحكي لا تستحق كل ما نلاقيه من مشكلات، ولا تخريب علاقات الآخرين لمجرد أننا نحتاج الحكي، أو لدينا وقت فراغ، فهل فكرت كل منا قبل أن تتطوع لنقل والتصريح بكلام عن آخرين؟
أعرف أننا لن نتخلى بسهولة عن هذه العادات، فهل نستطيع أن ندفن المعلومات الكاشفة للهوية حين ترغب إحدانا أن تتناول سيرة أحدهم/هن؟
إنه حل وسط فإذا رغبتي في حكي قصة ما لا تتبرعي بالإفصاح عن معلومات تكشف هوية الآخر؟ فأي كلام ستقولينه سيصل لكل الأماكن لكن مع الزيادة، فأحذري تخريب سير الآخرين وتشويه سمعتهم لمجرد أن لديك رغبة في الحكي.