كانت الطفلة ذات الـ13 سنة تقرأ إحدى الصحف عندما صادفها مقالًا طبيًا حول أضرار الختان، توقفت عن القراءة وهي تتساءل هل سيمارس والدها هذه العادة؟ هل ستخضع هي للختان؟ لم تكن هذه الموضوعات مسموح بمناقشتها داخل منزلها، ولم يكن لها أن تسأل الأب أو الأم.

لجأت الطفلة لجدتها التي أكدت لها أنه لا بد من الختان حتى يكتمل إسلامها وتكون بنت “مؤدبة وهادية”، لم تفهم الطفلة علاقة الختان أو الطهارة باكتمال الإسلام أو التدين بالطهارة، خاصة وأن هناك الآن ونحن في أوائل التسعينيات من القرن العشرين من يكتب عن أضرار الختان في الصحف.

تعمدت وضع الجريدة مفتوحة حيث يمكن ملاحظة المقال خاصة أنه أول ما يطالعه والدها في الصحف صباحًا، لم يمر سوى أشهر عندما أصابتها مشكلة صغيرة في عينيها، ووعد الأب باصطحابها للطبيب بعد عودتها من المدرسة، بعد حصة الدين جاء والدها لاصطحابها من المدرسة باكرًا بحجة أن طبيبًا صديقًا يزورهم وسيقوم بفحص عينيها ليعرف سبب المشكلة، خرجت من المدرسة مشتتة بين فرحتها بتركها المدرسة مبكرًا وحيرتها لأن صديق والدها طبيب نساء وليس طبيب عيون، ولكن ما سبب الحيرة؟ ليس هناك مجال للتشكيك أو فقد الثقة في الأب الحبيب، (لازم تاخدي حقنة علشان تخفي) هكذا أخبروها.

مأساة (عادة) لا تنتهي

تغلبت على خوفها من الحقنة ولم يسترع انتبهاها وجود الجدة في هذا الوقت المبكر في منزلهم فهي تفرح بوجودها في كل الأحوال، أفاقت الصغيرة على ألم شديد بين قدميها والكثير من الدماء، بدأت في الصراخ ألمًا وغضبًا، استيقظ إحساس الخديعة داخلها، في كل من وثقت بهم الأب والأم والجدة، أصيبت الطفلة بنزيف حاد، حملها الأب لعيادة طبيب جراح معروف في بلدتها تم إعادة خياطة الجرح تحت التخدير، للمرة الثانية في أقل من 24 ساعة.

استدعت كلماتها العاتبة للأب تدخل الممرضة مرة أخرى بأن ما حدث أمر جيد وواجب لاستكمال دينها وكمال أخلاقها، لحسن الحظ لم تفقد الطفلة حياتها وتم إنقاذها ولم تلحق بآلاف فقدوا حياتهن كنتيجة لمضاعفات الختان، ولكن ما دفن كان ثقتها المطلقة في الأب.

جلست الطفلة بعدها تراقب أخبار انعقاد مؤتمر القاهرة للسكان في 1994 (المؤتمر الدولي الثالث للسكان والتنمية) وبدأ العمل بشكل واسع ومنظم من قبل منظمات المجتمع المدني ضد ختان الإناث، وبدأ مئات الباحثين في كتابة أوراق عمل ودراسات حول الختان وبدأ المشرع المصري على استحياء لإصدار قوانين تهدف للحد من انتشار الظاهرة.

الختان “عادة” دموية في أفريقيا

الختان عادة متوغلة في القدم تنتشر أساسًا في دول حوض النيل منها (إثيويبيا، كينيا، السودان، مصر بجانب الصومال) وبعض الدول الأفريقية الأخرى مورست العادة كطقوس دينية قبل نزول الأديان السماوية كجزء من تقديم القرابين البشرية للآلهة لازالت بعض الطقوس والممارسات مثل غمس الموس في الدم والدموع في كينيا مثلًا تعيدك لطقوس تقديم القرابين برمزيتها في الخضوع والخوف وطلب العفو من الآلهة.

تبلغ نسبة انتشاره في الصومال الأعلى في معدل الانتشار 98%، ثم يليها غينيا 97% وفي إثيوبيا 74% ثم مالي فالسودان ومصر 89-87% بينما تختفي هذه الظاهره تمامًا تقريبًا في دول المغرب العربي أولها تونس، والجزائر، والمملكة المغربية باستثناءات نادرة.

إلباس “العادة” عباءة الدين

حكاية الطفلة التي بدأت بها المقال هي حكاية واقعية كنت شاهدة على حدوثها بنفسي، وتلخص إلى حد كبير كيف يتعامل المجتمع مع هذه الظاهرة فبرغم صدور عشرات الفتاوى عن شيوخ ثقات بل ومؤسسات دينية مثل الأزهر ودار الإفتاء بتحريم الختان وعدم وجود سند ديني لممارسته إلا أن المجتمع لازال يتعامل مع الختان باعتباره سنة يروج لها بعض المشايخ في الزوايا والمساجد.

هؤلاء يشيعون أن الفتاوى الرسمية فتاوى مسيسة، متجاهلين أن هذه العادة تمارس في مصر بين صفوف المسلمين والمسيحيين على السواء، حتى أن قرية البرشا التي يعتنق سكانها المسيحية بنسبة 100% كانت تمارس الختان، قبل أن تستجيب لجهود المجتمع المدني في التسعينيات وأصدرت أول وثيقه لمنع الختان عام 1995 وهي الوثيقة التي وقعت عليها الدايات الممارسات لهذه العادة، وتقضي الوثيقة بامتناعهن عن ممارسة عادة الختان، لتأثيرها السلبي نفسيًا وصحيًا واجتماعيًا، وكانت بذلك أول قرية تعلن هذه المبادرة، ومتجاهلين أن دولة مثل إثيوبيا الذي لا يعتنق أكثر من 33% من سكانها الإسلام، تنتشر فيها هذه الظاهرة انتشارًا واسعًا، بل ومتجاهلين أن شبه الجزيرة العربية ودولة السعودية تحديدًا التي ظهرت فيها الرسالة المحمدية، لا يمارس فيها الختان، وهو ما ينطبق على العائلات ذات الأصول العربية البدوية في مصر المنتشرة في سيناء والواحات البحرية وبعض مدن محافظة الشرقية.

ممارسة جريمة بغرض الحماية

عندما قالت الجدة للطفلة (علشان تبقي بنت مؤدبة) كانت تشير إلى الختان كحماية لأخلاق البنت. فقد توافق المجتمع على ممارسة جريمة لحماية الأخلاق من وجهة نظرهم، رغم خروج عشرات الدراسات التي تثبت أن مركز الرغبة هو المخ وليس الأعضاء التناسلية، إلا أن المجتمع يقاوم بشدة العلم مقابل الدفاع عن العادات، وظاهرة حماية الأخلاق عبر تشويه أجساد النساء كبديل سهل عن وضع آليات للحماية.

فمثلًا عادة كي الثدي في الكاميرون وهي عادة منتشرة لدرجة أن دراسة أعدت في 2006 أجرتها وكالة التنمية الألمانية (GIZ) إلى أن 25% من الفتيات في الكاميرون تعرضن لكي الثدي، بسبب الاعتقاد السائد هناك والذي يُفيد بأن كبر وبروز ثديي الفتاة دليل على استعدادها و”رغبتها” في ممارسة الجنس، لذلك تقوم بعض الأمهات “غصبًا” عنها بكيِّ حلمات ابنتها لحمايتها.

العبث بأجساد النساء

الأدوات الأكثر استخدامًا عند القيام بهذه العملية هي المدقة والتي عادة ما تكون خشبية، لكن هذا لا ينفي استخدام أدوات أخرى من قبيل جوز الهند الذي يتميز بصلابته، والملاعق مثلًا حيث يتم تسخينها على قنينة الغاز أو فوق الفحم ثم وضعها على حلمة الثدي وهي الظاهرة التي انتشرت على نطاق واسع تحت حكم حركة “بوكو حرام” الإرهابية لحماية النساء من الاغتصاب من قبل الجماعات المتطرفة.

المجتمع يضحي في هذه الظواهر بالسلامة النفسية والجسدية للنساء، بحجة إما الحفاظ عليهن من العنف، أو حماية أخلاقهن من الانحراف، دون النظر إلى وجود آليات حماية حقيقة مثل وجود قوانين رادعة تحمي المجتمع من العنف، ووجود توعية سواء عبر وسائل الإعلام والتعليم والمنابر الدينية بأضرار العنف على المجتمع، وأهمية وجود مؤسسات وطنية تحمي أفراد المجتمع من كافة أشكال العنف والتمييز.

الختان

القانون المصري والختان

لماذا نجد دائمًا صعوبة في تجريم الختان، الحقيقة أن هذه الصعوبة ليست حكرًا على الختان بل هو ينسحب على كل أشكال العنف الأسري مثل ضرب الزوجات والأبناء، والزواج المبكر، والقتل في جرائم الشرف، والختان بسبب انعكاس الأفكار المجتمعية والتبريرات الدينية على البيئة التشريعية بل وعلى بعض الأحكام القضائية.

بدأ المشرع المصري في التدرج بتجريم الختان فبدأ بتجريمه فقط إذا أجرى على يد طبيب في أحد المنشآت الطبية، ثم تدرج لتجريم كل من قام بعملية الختان سواء طبيب أو أحد مقدمي الخدمات الطبية أو الدايات وحلاقي الصحة، دون إدانة لمن طلب الختان وهم في العادة الأهل، ثم في 2016 أُقرت عددًا من التعديلات القانونية على مواد قانون العقوبات الخاصة بختان الإناث، بموجب القانون رقم 78 لسنة 2016 والذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 26 سبتمبر 2016. ليصبح نص المادة 242 مكرر من قانون العقوبات كالتالي:

“مع مراعاة حكم المادة 61 من قانون العقوبات، ودون الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد عن 7 سنوات كل من قام بختان لأنثى بأن أزال أيًّا من الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء دون مبرر طبي. وتكون العقوبة السجن المشدد إذا نشأ عن هذا الفعل عاهة مستديمة، أو إذا أفضى ذلك الفعل إلى الموت”.

الحبس والغرامة.. لكن القانون مخترق

كما تم استحداث مادة جديدة برقم 242 مكرر (أ)، نصها كالتالي: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز ثلاث سنوات كل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناء على طلبه على النحو المنصوص عليه في المادة 242 مكرر من هذا القانون”.

ويوجد في هذه المواد ثغرات يطالب المجتمع المدني والمهتمين بسدها حتى لا يفلت الجاني من العقاب وتبدأ بالإشارة للمادة 61 من قانون العقوبات، وهي أحد المواد القانونية والتي تتيح للجاني الإفلات من العقاب وتنص على: “لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل في حلوله ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى” الإشارة إلى هذه المادة اعتراف بوجود ضرورة للختان يمكن عبر ممارسته أن نحمي أنفسنا أو غيرنا.

ثم وجود تعبير “مبرر طبي” يفتح الباب لتحايل الأطباء على ممارسة العادة تحت حجة وجود مبرر طبي للختان.

ومنذ أيام وافق مجلس الوزراء على مشروع قانون لتشديد وتغليظ العقوبة في جرائم الختان سيتم تقديمه قريبًا للبرلمان لإقراره.

وأخيرًا علينا أن نعيد نشر ما اختتمت به منظمة الصحة العالمية تعريفها للختان بأنه: (لا ضرورة طبية للختان وهو يضر الفتيات والنساء بأشكال مختلفة).

ربما يجد كل من عانى آثارًا نفسية وجسدية، وكل من فقد عزيزًا بسبب هذه الممارسات في الجهود التي بذلت ولازالت تبذل للقضاء على هذه الممارسات، العزاء المطلوب.