في العام 2009 صُنفت مصر كواحدة من أكثر دول العالم تدينًا، وفقًا لدراسة أجرها “معهد غالوب الأمريكي لاستطلاع الرأي”، الدراسة شملت 114 دولة وحلت فيها مصر في المركز الـ13 عالميًا، هذا التدين يظهر ملامحه بشدة في المجتمع الأكاديمي حيث الكمائن “الدينية والقانونية والأخلاقية” التي تنصب للباحثين والأكاديميين، التي تقود بعضهم إلى المحاكمات بدعوى الدفاع عن الدين.
هذا الكمين ليس شرطا أن يكون من قبل إدارة الجامعة أو هيئة التدريس التي ينتمي إليها الأكاديمي، لكن قد يمتد إلى أولياء الأمور المتأثرين بأفكار دينية سارية في المجتمع، كما حدث في بعض الحالات، وهو ما يظهر في اتهامات أساتذة وأكاديميين بتهمة جاهزة هي”ازدراء الأديان” واستخدام الدين كذريعة للتضييق على آخرين، كونهم يتبنون أفكارا ليبرالية.
ترصد دراسة حديثة لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، بعنوان “ازدراء الأديان.. ذريعة لقمع الحرية الأكاديمية” تطور القضايا المعروفة بازدراء الأديان تاريخيًّا في مصر بداية من مسماها القديم “قضايا الحسبة” إلى النص الحالي المتضمن في المادة 98 من قانون العقوبات المصري، والتي استحدثت بعد ما عرف بـ”أحداث الفتنة الطائفية بالزاوية الحمراء”، في عام 1981، الذي فتح الباب أمام اتهام أساتذة الجامعة بتلك التهمة.
وتنص المادة 98 على: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنية ولا تجاوز ألف جنيه لكل من استغل الدين في الترويج أو التحييذ بالقول أو بالكتابة أ بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو التحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الضرر بالوحدة الوطنية أو بالسلم الاجتماعي”.
اقرأ أيضا:
“التهمة ازدراء الأديان”.. الحساسية الدينية تتصدى لمحاولات التغيير
محاكمة طه حسين
وتعد قضية نشر كتاب الشعر الجاهلي”من أشهر القضايا المتعلقة بازدراء الأديان، التي وجهت فيها الاتهامات إلى أكاديميين، حيث حققت النيابة العامة مع الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي والأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، على خلفية نشره كتاب “الشعر الجاهلي”، بعد اتهامات أثارها رجال الدين.
واستمرت التحقيقات حينها لمدة تقارب عشرة أشهر، حتى أصدرت النيابة قرارها بحفظ التحقيق. حينها برَّأ النائبُ العام الدكتورَ طه حسين من الطعن في الدين الإسلامي، وجاء في حيثيات القرار أن ما ذكره طه حسين في الكتاب كان في سبيل البحث العلمي لا غير.
ازدراء أديان أم مشاعر حماسية؟
تتجلى الاتهامات في قضية الأستاذ بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية محمد مهدلي في نوفمبر 2020، الذي تم وقفه عن العمل وأحيل للتحقيق على خلفية انتشار مقطع مصور يُظهر نقاشًا بينه وبين طلابه في إحدى المحاضرات، اتهم بسببه بالإساءة للإسلام، وبررت وزارة التعليم العالي الأمر بأنه نتيجة لما تلقته من شكوى جماعية من طلاب المعهد.
وقد صرح الدكتور حينها أن الفيديو تم اجتزاؤه من سياقه، ولم يكن فيه شيء من الإساء للدين الإسلامي على الإطلاق، وأنه جزء من محاضرته عن المجتمع الريفي والحضري والذي كان لابد أن يستشهد فيه بأمثلة تتعلق بالزواج والطلاق، لينتشر بعد ذلك المقطع المصور كالنار في الهشيم بعد اعتراض أحد الطلاب على المهر في الإسلام مستشهدًا بإحدى الآيات القرآنية.
قررت الوزارة إحالة الواقعة إلى النائب العام للتحقيق في ارتكاب الدكتور مهدلي جرائم ازدراء الأديان، وإهانة ثوابت الشريعة الإسلامية، وسب الطلاب، كما تم إحالته كما لمجلس تأديب المعاهد العليا الخاصة مع استمرار وقفه عن العمل، لتقرر النيابة بعد ذلك حبس الدكتور مهدلي 4 أيام على ذمة التحقيقات في اتهامه بازدراء الأديان وتحليل زواج المحارم، ويٌذكر أن توفي مهدلي، في 24 ديسمبر 2020، إثر تدهور حالته الصحية.
ازدراء الشيخ الشعراوي وعمرو خالد
تعرض الأستاذ بقسم التاريخ بكلية التربية، جامعة دمنهور أحمد رشوان في مايو 2018، إلى الوقف عن العمل بعد إحالته إلى التحقيق على خلفية تدريسه كتاب: “دراسات في تاريخ العرب المعاصر”، والذي وصف فيه رشوان الشيخ محمد متولي الشعراوي والداعية عمرو خالد بالدجالين، وكانت التهمة حينها بعنوان سب وقذف الشعراوي وخالد.
واعتبرت حرية الفكر والتعبير هذه الواقعة نموذجًا واضحًا على خضوع الجامعات لضغوط مجتمعية تؤثر سلبًا على حرية البحث العلمي والتدريس، في ظل غياب أي حماية من إدارات الجامعات لأعضاء هيئات التدريس في تدريس ما يرونه مناسبًا، طالما كان يستوفي المبادئ العلمية المطلوبة. حيث سعت الجامعة إلى إحالة الدكتور إلى التحقيق دون أن تتحقق أولًا من استخدامه منهجًا علميًّا سليمًا في كتابه من عدمه.
الكود الأخلاقي الأكاديمي
القائمة تضم عزل الدكتورة منى البرنس، المدرس بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب من وظيفتها بجامعة قناة السويس، مع احتفاظها بالمعاش والمكافأة، وذلك بناء على قرار مجلس التأديب المخول بالتحقيق معها والصادر في 13 مايو 2018، بدعوى “نشر مقاطع وصور على الحسابات الخاصة بها على مواقع التواصل الاجتماعي اعتبرتها مسيئة للآداب”.
“تعرضت لمشاكل مع إدارة الجامعة قبل الواقعة بسنوات فقط لكوني مختلفة عن الموجودين في الجامعة شكلًا وموضوعًا، وتم تهديدي أكثر من مرة لعدم ارتدائي الحجاب وبالتالي كان هناك حالة من التربص بي، وفي العام 2013، استمر الاضطهاد بي ليتم ملاحقتي بتهم سب وقذف المسؤولة عني وأتوا بطلاب غير موجودين يشهدون زورًا عليه” تقول البرنس لـ”مصر 360″.
تتذكر أنها طلب منها ذات مرة التعليق عن الأحداث الجارية وكان من بينها التحرش الجنسي فتم اتهامها بالحديث عن الجنس، فضلًَا عن التهمة الكوميدية بازدراء الشيخ محمد حسان، عندما تحدثت عن الخطاب المحرض على الكراهية، لكن الأمر لم يعجب بعض الطلبة، واشتكوها بتحريض من أساتذة آخرين.
وفي عودة أخرى إلى الجامعة، عام 2016، تحدثت في إحدى محاضراته عن تاريخ الأدب الإنجليزي، إذ استحضرت الشاعر جون ميلتون ورائعته “الفردوس المفقود”، التي تحكي قصة نزول آدم وحواء إلى الأرض وحكايتهما مع الشيطان. حينها طلبت من طلابها الإطلاع على قصيدة أمل دنقل “كلمات سبارتكوس الأخيرة” ورواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، لمقارنة صورة الشيطان بين الأعمال الثلاثة وصورة الإله في العمل الأدبي، لكن ذلك أثار حفيظة كثر واتهموها بـ مدح الشيطان.
تفاقمت الأحداث -بحسب منى- ودخل رئيس القسم أمامي للطلبة وقال لهم من يرى أن الدكتورة تسيء لمعتقداتهم يتقدم بشكوى ضدها، بعد ذلك كل شيء تغير، حيث تحولت للتحقيق وأتوا بصورها وفيديوهاتها المتاحة على حسابها عبر الفيس بوك وجرى تحويلها لمجلس تأديب، بدعوى “استخدام سلطات العقل ضد المقدسات” و”الملف بأكمله تحول للنيابة العامة حتى يتم حبسي ولكن انتهى الأمر بفصلي نهائيًا ورفض الطعن المقدم مني”.
توضح البرنس أن المشكلة تكمن في انعدام حرية الفكرة والتعبير ووقف أي محاولات إبداعية أو علمية للأكاديمي، وبالتالي لن يحدث تقدم إذ لم نخرج عن المألوف الجامعات لا ترغب في ذلك ودليلًا أن جميع المناهج قائمة على الحفظ والتلقين، وبالتالي أي شخص يُفكر سهل اتهامه بازدراء الأديان لأن المشاعر الدينية في مصر حماسية للغاية، المناخ غير علمي يرتكز على وجهة النظر الأحادية فقط.
اتهام بالإلحاد
وفي أكتوبر 2016، أوقفت جامعة الأزهر الأستاذ بكلية أصول الدين يسري جعفر عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، بقرار من رئيسها، لاتهامه بالإلحاد ومحاولة إحياء فكر محمد عبده وطه حسين، والهجوم على التيار الإسلامي، ووصفه بالتيار الظلامي، وأصدرت جامعة الأزهر، في 13 يونيو 2018، قرارًا بإيقاف الدكتور جمال محمد سعيد عبد الغني، أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين في المنوفية، عن العمل لمدة ثلاثة أشهر بعد إحالته إلى التحقيق الإداري بسبب اتهامه بالتشيع، ولم تُشِر الجامعة إلى مخالفات أكاديمية من الأساتذة أو فعل يمكن المحاسبة عليه.
بينما تم وقف عدد من رسالة الدكتوراه في جامعة الأزهر لتناولها موضوعات “التكييف الفقهي للثورات”، فضلًا عن إحالة الدكتور مرزوق عبد الحكيم العادلي، أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة سوهاج، إلى الشؤون القانونية بالجامعة لتناوله أمر أحد الانتخابات الرئاسية من خلال امتحان “فن الإقناع” لطلاب الفرقة الرابعة بقسم الإعلام، شعبة العلاقات العامة.
وفي أغسطس 2016، فوجئ الأكاديمي طارق أبو النجا، أستاذ العمارة، بإنهاء الجامعة الألمانية التعاقد معه، وأرجعت تقارير إعلامية الخطوة الاعتراضات لدى إدارة الجامعة وأولياء أمور على مضمون مشروعات تخرُّج أشرف عليها، تناولت موضوعات ترتبط بفكرة العري في تاريخ الإنسانية، والألوهية الأنثوية عبر الحضارات.
من جانبهم، أطلق عدد من طلاب الجامعة اﻷلمانية حملة على شبكات التواصل الاجتماعي استخدموا فيها هاشتاج#GUC_Cesnsorship للتعبير عن سخطهم من موقف إدارة الجامعة في الرقابة على أعمالهم.
مناخ أكاديمي سلبي
محمود ناجي الباحث في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ومعد الدراسة، يقول إن هناك أشكال مختلفة من الانتهاكات التي تقع على الأساتذة والباحثين في الجامعات المصرية من بينها انتهاكات إدارية من قبل إدارة الجامعة تجاه الأساتذة أنفسهم، ومن بينها قيود على البحث العلمي مثل أن يُفرض عليهم عدم الحديث في جُملة من الموضوعات، أو فرص الموافقة الأمنية على سفر أعضاء هيئة التدريس ما عطل مشاريع علمية كثيرة جدًا، وتبادل خبرات علمية”.
ويضيف أن حبس الأساتذة المشاركين في الشأن العام في مصر مقيد على حرية التعبير وينعكس بالسلب على باقي أعضاء هيئة التدريس، ويحدث ما يقرب من تحذيرات وتهديدات ودية فضلا عن التدخلات التي تفتعلها وزارة التعليم العالي في الجامعات، مثل أرسال وزير التعليم العالي خطابًا في 2016 للجامعات الخاصة والأهلية بخلو المحتوى العلمي من أي إساء أو تصريح للدول الشقيقة أو الشخصيات العامة، بجانب استخدامها السلطة التأديبية والتوجيهية تجاه الجامعات، و”بالتالي أنا كل فترة أقتص من المساحة المتاحة للبحث العلمي، ويتنافى مع مواد الدستور التي تنص على استقلال الجامعات والحرية الأكاديمية، ما يضرب باستقلال الجامعات عرض الحائط”.