تصطدم الرؤية الرسمية في مصر للحيز العمراني وقيمة الأماكن التاريخية والأحياء القديمة كذلك، برؤية ممن يفضلون الحفاظ على الهوية المصرية، لذا لا يكاد يمر مشروع عمراني نيوليبرالي بدون أن يطفو إلى السطح هذا الاشتباك، ما يطرح أسئلة مستمرة عن مفهوم التطوير وجدواه، والخطوط الفاصلة بين “العمران” من ناحية و”الإنشاء” من ناحية أخرى.

مقابر المماليك الأثرية ومحور الفردوس

في يوليو الماضي قررت محافظة القاهرة هدم جزء من جبانة المماليك لإنشاء محور الفردوس، ما أدى لموجة غضب كبيرة، من المهتمين بالآثار أو المتابعين للشأن العام.

صور كثيرة انتشتر عبر مواقع التواصل أظهرت حجم الدمار الذي لحق بعدد من المقابر الأثرية التي تعود لعصر المماليك وفترة حكم محمد علي باشا.

الدكتور أسامة طلعت رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، قال إن ما هدم ليس مقابر أثرية. كما أن الصور المتداولة غير صحيحة: “محور الفردوس بعيدًا عن المناطق المسجلة كآثار والتي مر عليها أكثر من 100 عام”.

جبانة المماليك

مقابر غير أثرية تخص أفراد عاديين

المسئول الحكومي أضاف أنه ليست جميع المباني أو المقابر المبنية على الطراز الأثري تتبع هيئة الآثار، بينما أوضح أن ما هدم مقابر خاصة بأفراد.

“تم الاتفاق مع أصحاب المقابر على نقلها لمكان آخر، ورغم عدم أثريتها تم تشكيل لجنة لمعاينتها قبل الهدم والنقل” يقول طلعت.

من ناحية أخرى، أكد مصطفى وزيري، أمين عام مجلس الآثار الأعلى، أن ما هدم في جبانة المماليك بعيد عن حرم الآثار الإسلامية المسجلة. كما أشار إلى صدور قرار بتشكيل لجنة فنية لمعاينة الشواهد والجداريات والنقوش في الموقع.

وفق آخر الإحصائيات، يصل عدد المباني التراثية في مصر إلى 6500 مبنى في محافظات القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، وبورسعيد، والمنيا وأسيوط وغيرها.

ما هو المبنى الأثري؟

وبحسب الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، تعرف المباني الأثرية بأنها المناطق التاريخية المتميزة عمرانيًا ومعماريًا. كما أنها تلك التي بنيت في العصور الإسلامية والقبطية خلال القرن الـ19 وبداية القرن الـ20.

المباني تنقسم إلى 3 مجموعات، الأولى “ذات طراز معماري فريد”، أو “تابعة لحقبة تاريخية معينة”، وأخيرًا تلك التي كانت مسكنًا خاصًا لشخصية تاريخية مهمة.

التطوير الذي أعلنه “التنسيق الحضاري” لميادين القاهرة والمحافظات، يصطدم برؤية البعض الذين يفضلون الحفاظ على الهوية المصرية، وترميمها بدلًا من هدمها.

لكن محمد شيمكو، وكيل لجنة الثقافة والإعلام والآثار السابق بمجلس النواب، يعلق على نظرة البعض لأثرية الأشياء.

اقرأ أيضًا.. مبادرة “سيرة القاهرة”.. متطوعون ينفضون الغبار عن آثار العاصمة

“الناس يتخيلون أنه لمجرد أن البناء جميل، يعتبر أثريًا، لكن في الحقيقة تكون مباني عادية أو مقابر عادية صممت بهذا الشكل فقط” يكشف شيمكو.

النائب السابق أكد أنه قبل اتخاذ أي قرار بالهدم لتنفيذ مشروع ما يتم التأكد أولًا من أن المنطقة غير أثرية، لأن الدولة تهتم بالحفاظ على الآثار المهمة لجذب السياح.

إشكالية قانون الآثار

بينما يصف رأفت النبراوي، أستاذ الاثار الإسلامية وعميد كلية الآثار السابق، “هدم الآثار” بـ”العدوان”. كما أنه يمكن ترميمها والاستفادة منها لجذب السائحين وتحقيق دخل للدولة.

النبراوي يرى أن الأزمة في أن العديد من الأماكن لم تسجل في وزارة الآثار رغم أثريتها. بينما يسمح القانون 117 لسنة 1983 للدولة هدم أي مكان إذا ثبت عدم تسجيله كأثر.

“الحل في الكشف المستمر على تلك المناطق من قبل وزارة الآثار. وتتبع أثريتها” يضيف النبراوي.

قانون حماية الآثار وتعديلاته عرف الآثار بأنها إنتاج الثقافات المختلفة أو الفنون والأدب والدين في حقبة تاريخية معينة، أو حقب متتالية، وحتى قبل 100 عام.

مي الإبراشي، مؤسسة جمعيّة الفكر العمراني، قالت إن فكرة هدم جزء من مقابر أو مساكن أثرية أو لها طابع أثري، لتوسعة طرق أو بناء كباري تقابلها أكثر من إشكالية.

الإبراشي قالت إن استحداث مناطق خالية سيزيد من الانفصال بين أواصر القاهرة التاريخية، التي من المفترض أن يكون نسيجها العمراني كثيف ومترابط. كما أنه يضعف قيمتها التاريخية.

ميدان السيدة عائشة

سوق الحمام بالسيدة عائشة

كما أشارت إلى أن القاهرة التاريخية مدينة حية تم تسجيلها كموقع تراث عالمي بسبب جذورها الممتدة في التاريخ السحيق.

“سوق الحمام بالسيدة عائشة مثلًا يرجع تاريخه للعصر العثماني، ومسجل في وقفيات عثماني وفي خريطة وصف مصر” مشيرة إلى السوق متعدي على المدافن بالإضافة إلى مشكلات التأمين والطوارئ. “لكن ده مش معناه الهدم التام، ممكن ننظم ونتطور”.

“حاليًا في خطة لهدم المنازل السيوطي بالسيدة عائشة. في بيوت اتهدمت بالفعل لتوسعة الطريق أو بناء كوبري. اللي بيتقال إن البيوت عشوائية” توضح الإبراشي.

مؤسسة جمعيّة الفكر العمراني قالت إنها كانت جزء من مشروع بحثي لتوثيق منطقة السيوطي: “كان فيه خرائط كاملة للمنطقة. البيوت اللي اتهدت كانت نوع من الحماية للجبانة من دوشة الطريق والتلوث والذبذبات” تكشف الإبراشي.

الإبراشي أكدت أن المشروعات تنفذ دون دراسة لتحديد الأثر البيئي والاجتماعي المتوقع، رغم أن قانون البيئة ينص على ذلك. كما أن اشتراطات التنسيق الحضاري تنص على عدم جواز توسعة الشارع أو بناء كوبري إلا في حالة الضرورة القصوى.

اقرأ أيضًا.. تراث في خطر.. مصر تشق طريقين سريعين عبر هضبة الأهرامات.. والآثار تنفى

منازل السيوطي تحمي الجبانات الأثرية

خبيرة العمران ترى أن هناك حالة ندرة في المعلومات وغياب للشفافية. “مينفعش نفضل نخمن المنطقة دي هتتهد علشان إيه وما هو المشروع. فجأة السكان يلاقوا قرار بنقلهم، في النهاية التطوير مش نسف الثراث أو تغيير شكله”.

في العام الماضي هدم مبنى وكالة العنبريين بشارع المعز، ليثار الجدل مرة أخرى، وسط مطالبة بالتدخل لحماية الأثر غير المسجل كأثر في وزارة السياحة والآثار.

الدكتور محمد عبدالمقصود، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، قال إن النيابة الإدارية طلبت من تسجيله لكن دون جدوى. كما أشار إلى أنه عدم تسجيل بعض المباني أو المقابر كآثار لا ينفي أثريتها.

“القيمة الاثرية تأتي من الأحداث التي جرت في المنطقة”. مؤكدًا أن تاريخ الوكالة كان يعود لفترة الحملة الفرنسية على مصر (1798/1803).

وكالة العنبريين

الإزالة مقابل الترميم

مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية، يقول إن ترميم تلك المباني له تكلفته الضخمة. فالحد الأدنى لترميم وتسجيل مبنى كأثر يصل لـ5 ملايين جنيه. بينما لا تمتلك الوزارة هذه الميزاينة الكبيرة، فيكون الهدم خيارًا أسهل.

المباني غير المسجلة كآثار تصبح ملكية عامة، ولا يمكن للوزارة حمايتها. كما أن انعدام التنسيق بين الوزارت يصعب السيطرة على تلك المباني.

محمد عبدالعزيز، المشرف على القاهرة التاريخية، قال إن ما يتردد حول الترميم لا يمكن القيام به مع الأماكن الآيلة للسقوط، ومنها وكالة العنبريين.

“لا يمكننا ترميم مكان لا يوجد به سوى واجهة فقط ومن الداخل خرابة” بحسب وصفه.

في عام 2018، هدم جزء من حديقة فندق الكونتيننتال بميدان الأوبرا. الفندق على مساحة 10 آلاف متر، ويطل على ميدان الأوبرا القديم، وكان مقرًا لكثير من الملوك والأمراء وزوار مصر في العهد الملكي.

صدر قرار بتحويل الفندق لمقر شركة الفنادق المصرية “إيجوث” وكان هناك خطة لبيعه لأحد المستثمرين في عهد رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف.

اقرأ أيضًا.. إدراج أديرة وادي النطرون ضمن التراث العالمي.. وجه مشرف لمصر أم فرض للسيادة على الكنيسة؟

قصة فندق الكونتيننتال

وفي النهاية صدر قرار بالهدم في آواخر 2017 لتخرج حملة للدفاع عنه باعتباره تراثًا نادرًا، وشاهدًا على تاريخ مصر.

حينها قال المهندس محمد أبو سعدة، رئيس جهاز التنسيق الحضاري، إن الفندق مسجل ضمن الفئة (ج) في المباني ذات الطراز المعماري المتميز.

ووفقًا للتصنيف تضم الفئة (أ) المباني التي يحظر هدمها أو التعامل معها بأي شكل غير الترميم. أما الفئة (ب) هي المباني التي يسمح بعمل تعديلات داخلية بسيطة عليها وترميمها. بينما الفئة (ج) يسمح فيها بتعديلات داخلية جوهرية مع الحفاظ على الواجهة التاريخية.

فندق الكونتننتال

وبعد فحص حالة الفندق، أوصّت لجنة الفحص بالحفاظ على الواجهة، والطابق الأرضي الذي شهد اجتماعات تاريخية لأن الحالة الإنشائية للفندق، تحتاج التدخل وإعادة البناء.

أبو سعدة يرى أن هناك فرصة لإحياء التراث مجددًا. كما أنه تم الانتهاء من إحياء العديد من المباني بوسط القاهرة مع الحفاظ على شكلها.

على سبيل المثال شارع عماد الدين. قائلًا إن هناك العديد من المباني الحكومية يمكن استغلالها بعد الانتقال للعاصمة الإدارية. كما أن هناك مقترحًا ضمن خطة التطوير بإنشاء شوارع للمشاه وممرات سياحية، بعيدًا عن الثلوث والورش وغيرها.