رحل جورج حبيب بباوي. كان ذلك متوقعًا، أزمة صحية لرجل في ثمانيناته طار بروحه إلى السماء تاركًا المعركة لخصومه وتلاميذه ليكملونها على الأرض. قبل أن يستقر جسده في الثرى. أيام ثلاثة مرت على رحيله في مستشفى بمنفاه الاختياري في ولاية إنديانا الأمريكية. لم تتوقف خلال تلك الفترة الصراعات التي حفلت بها حياة رجل قسم حياته بين الكنيسة والأكاديمية فجعل منهما صنوان متلازمان. إذا حضرت الكنيسة في رأسه فكتب عنها بحثًا، وإذا جاء البحث في قلمه كان عن الكنيسة ولها.
تراجيديا جورج حبيب بباوي عند الأقباط يقابلها نصر حامد أبو زيد عند المسلمين. فكلاهما غاصا في بحور العلم الديني، فنبذتهما المؤسسات الدينية التقليدية، وماتا منفيين بعيدًا عن مصر، يكفرهما الناس في الشارع، ويجلهما العلماء في قاعات الدرس، يحبهما تلاميذهما ويصران على استكمال المسيرة، يلعنهما أعدائهما ويصران على تكفيرهما كصراع أبدي بين العلم النبخوي والجهل الشعبوي.
خرج نصر حامد أبو زيد من مصر كضحية لحكم محكمة فرق بينه وبين زوجته ووصمه بالكفر في نظر العامة. فعاش بقية حياته في هولندا يدرس في جامعتها الشهيرة لايدن. كذلك فإن بباوي غادر مصر موصومًا بالحرمان الكنسي، فترأس قسم الدراسات اللاهوتية بجامعة كامبريدج الأشهر في بريطانيا وأحد أكبر جامعات العالم. بعد أن وقعت عليه الكنيسة عقوبة الحرمان الكنسي بقرار رسمي عام 2007.
بباوي.. التلميذ والأستاذ والضحية
كانت عقوبة الحرمان الكنسي التي وقعت على بباوي عام 2007 بموافقة 60 أسقفًا دون محاكمة الفصل الأكثر دراماتيكية في مسيرته الكنسية.
فقد بدأ جورج بباوي حياته تلميذًا للبابا شنودة ومقربًا منه حتى أنه رسمه شماسًا بنفسه في مطلع الستينيات. وكان يرافق البابا شنودة في زياراته الرسمية خارج مصر، أبرزها زيارته إلى روما 1966. وقد كان ابنًا للكلية الإكليريكية التي كانت تخضع لإشراف البابا شنودة حين كان أسقفًا للتعليم في عصر البابا كيرلس قبل اعتلائه سدة الباباوية.
في عام 1961 تخرج بباوي من الكلية وعين معيدًا بها. وفي تلك الفترة قدمه الأنبا شنودة أسقف التعليم إلى البابا كيرلس الذي اهتم به وابتعثه إلى خارج البلاد لينال درجة الماجستير عام 1970 في أصول المسيحية في مصر. ثم يلحقها بدرجة الدكتوراه في اللاهوت القبطي بعدها بسنوات. ساعده في ذلك إجادته للغات عدة هي الإنجليزية واليونانية واللاتينية والعبرية والآرامية والقبطية والسريانية والفارسية والفرنسية. وهي اللغات الأساسية لفهم الدراسات اليهودية والمسيحية أو دراسات الأديان الإبراهيمية بشكل عام.
عاد بباوي من رحلته الدراسية ممتلئًا بالعلم والدهشة معًا. وفي تلك المرحلة بدأت صداماته مع أستاذه القديم البابا شنودة الذي اصطدم بتيار كامل من علماء اللاهوت. هم القمص متى المسكين والأنبا غرغوريوس أسقف البحث العلمي، وثالثهما جورج حبيب بباوي. وقد ضمت مذكرات الأنبا غرغوريوس التي صدرت في عدة أجزاء مجموعة من الخطابات المتبادلة بينه وبين جورج بباوي. وهي مذكرات يظهر فيها تبني أسقف البحث العلمي للباحث الشاب في خضم أزمته مع البابا شنودة حول قضية “التأله”. إذ اندلعت أزمة بسبب كتاب لجورج ذاع صيته في الكلية الإكليريكية، فند خلاله الأخطاء اللاهوتية والعقائدية للبابا شنودة حول قضية “التأله”. بينما تبنى الأب متى المسكين والأنبا غرغوريوس موقف جورج في هذا الجدل الأكاديمي.
صدامات بباوي والبابا شنودة
وسط هذه الأزمة، وفي القلب منها يطل خلاف البابا شنودة مع الرئيس السادات الذي سيؤدي به إلى العزل في دير الأنبا بيشوي منذ عام 1981 وحتى عام 1985. وقتها أعلن بباوي موقفه صراحة. فقال لمراسل التايمز الأمريكية إن “الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمر بفترة كهنوتية أحكمت قبضتها على الشعب مستخدمة كل وسائل الترهيب. كذلك فإن البابا شنودة تصرف مع السادات بحماقة سياسية”. وهي العبارات التي لم يغفرها البابا شنودة لا لجورج بباوي ولا للقمص متى المسكين المقرب منه.
ظل العداء دائرًا ما بين الأستاذ البطريرك والتلميذ الأكاديمي الذي انضم مع الوقت لسلسلة من ضحايا البابا شنودة المبعدين عن ذهب المعز وسيفه. وفي سنوات لاحقة سيصبح للبابا شنودة درعًا وسيفًا يدافع به عن ألد أعدائه هو الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس والقبضة الحديدية للبابا شنودة، والذي سيصبح مع الوقت أحد أشهر أقطاب التيار التقليدي المتشدد في الكنيسة ومعلمًا للاهوت وللعقيدة ومؤلفًا لعشرات الكتب الكنسية ذائعة الصيت أبرزها كتب ما يسمى باللاهوت الدفاعي. وهي الكتب المخصصة للرد على من يصفهم الأنبا بيشوي ومن قبله البابا شنودة بالهراطقة.
من بين مؤلفاته كتب للرد على القمص متى المسكين، وكتب أخرى للرد على جورج حبيب بباوي لا تخلو من تكفير علني يرى المطران الراحل دائمًا إن دوره التصدي لتلك الكتابات التي تعبث بالإيمان المسيحي وتشكل خطرًا على الكنيسة القبطية وتعاليمها.
الأنبا بيشوي.. سيف البابا شنودة البتار
سلاسل كتب الرد على الهراطقة تلك لازمتها حملات أخرى تمنع كتب جورج حبيب بباوي ومتى المسكين من التداول في المكتبات الكنسية. ذلك لأنها تحتوي على “بدع وهرطقات” دون أن يكون للشارع المسيحي الحق في النقاش أو الاستفهام أو التعليق في سنوات ما قبل السوشيال ميديا. فقد عاش البابا شنودة وفريقه من الأساقفة مصدرًا وحيدًا للعقيدة واللاهوت وتفاسير الإنجيل. حتى إن بعض الأقباط المعاصرين يخلطون بين تفاسير البابا للإنجيل وبين الإنجيل نفسه.
في عام 2007 يصدر القرار الحاسم من المجمع المقدس. توقع عقوبة الحرمان الكنسي على جورج حبيب بباوي، قرار يتخذ دون محاكمة ممهورًا بتوقيع 60 أسقفًا وبالتمرير وليس النقاش أو التفاوض. فالقرار تم اتخاذه وما على الأساقفة إلا التوقيع حتى أن اسم الأنبا تواضروس الأسقف المساعد بالبحيرة يظهر من بين الموقعين دون أن يعرف أن الأيام ستدخر له مهمة إصلاح ما تركه سلفه.
الحرمان الكنسي.. عقوبة قاسية لمقاتل صلد
وفقًا للقانون الكنسي، فإن عقوبة الحرمان تمنع صاحبها من الحق في التناول من الأسرار المقدسة أو ممارسة سر الافخارستيا، أي تناول جسد المسيح ودمه، وكأنها عقوبة تسلبه مغفرة الخطايا وتمنع الكنيسة من الصلاة عليه بعد وفاته.
لم يكن القرار سهلاً على باباوي الذي خاض معركة موازية في المحاكم المصرية يحاول بها إبطال قرار حرمانه الكنسي. وحاول الطعن على الحكم الصادر ضده من قداسة البابا شنودة والأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس. وأوضح أن قرارات الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر قرارات إدارية لأنها من أشخاص القانون العام. وبالتالي يجوز الطعن عليها بالطريق الإداري، وأن سلطة إصدار القرار الطعين أهدرت المبادئ الدستورية لإهدار حريته في ممارسة عقيدته الدينية وحرية ممارسته لها، طاعنًا على القرار بأنه لا يجوز للأسقف مهما علا سلطانه أن يقول لإنسان بدون محاكمة إنك محروم، فلابد من محاكمة عادلة قبل إصدار الحكم بعزله وحرمانه.
ردت الكنيسة القبطية على طعنه بتقديم مستندات تثبت مخالفته للعقيدة المسيحية وتعاليم الكنيسة من خلال شريط كاسيت به نص العظات التي اعتبرتها الكنيسة مخالفة وتعد خروج عن تعاليمها، واستمر هذا السجال القانوني إلا أن قرار الكنيسة بحرمانه كان نافذًا.
لم يستسلم جورج ولم يتوقف عن مسيرته الأكاديمية فقد ظل يعلم ويدرس في أكبر المحافل البحثية والأكاديمية بين إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد أشرف على عشرات الرسائل العلمية وحظي بمناصب أكاديمية عليا لم يحصل عليها لاهوتي مصري معاصر. كذلك فإنه لم ينس دوره كمعلم كنسي وحرص على التواصل مع المصريين باللغة العربية عبر موقعه كبتولوجي الذي خصصه للدراسات اللاهوتية المترجمة ليوفر نافذة إطلاع لجيل جديد من الباحثين والأكاديميين وحتى القراء.
جورج حبيب بباوي وتلاميذه
تمر السنوات ويستقر جورج بأنديانا يدرس ويعيش حياته الأسرية بعيدًا عن الصخب الكنسي وتستقبله الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في كافة محافلها الدينية والأكاديمية باعتبارها كنيسة أرثوذكسية شريكة يستطيع فيها أن يمارس مسيحيته التي حرمه منها أبناء جلدته.
يتواصل جورج مع الأجيال الجديدة من الباحثين ويرى فيهم أملاً جديدًا، يقول مينا فؤاد مدرس اللاهوت بالكنيسة الأسقفية والباحث في تاريخ المسيحية المبكر إن الشهادات التي قدمها معهد الدراسات، والعبارات التي كتبها تلاميذه وقراؤه، والذين تتلمذوا على يديه، تكشف بجلاء عن عمق التأثير الروحي واللاهوتي المُباشر وغير المُباشر الذي تركه هذا الرجل في نفوس أعداد لا يمكن حصرها.
ويوضح فؤاد: “لكن في مصر، نشأ جدل حول الرجل، نتيجة الخلاف مُتعدد الأطراف بين البابا شنودة والأنبا بيشوي مطران دمياط من جهة وبين د. جورج من جهة أخرى”. وقد نشب هذا الخلاف لأسباب لا مجال لذكرها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي؛ والذي آل في النهاية إلى صدور قرار بفرزه وعزله من الكنيسة القبطية دون لقاء فعلي أو محاكمة، على حد قول فؤاد.
جورج بباوي والبابا تواضروس.. إصلاح خطايا الماضي
في 2012 يغادر البابا شنودة إلى السماء. لكن الخلاف قد دب عميقًا في الأرض، وصار جورج بباوي معزولاً بختم المؤسسة الكنسية. ثم يأتي البابا تواضروس الثاني على سدة كرسي مارمرقس في نوفمبر من العام نفسه، ليرث تركة من الأزمات والصراعات يحل بعضها ويصطدم بعقبات في البعض الأخر ويحاول في البقية الباقية.
لم يكن البابا تواضروس يتوقع أن تنشأ في عصره جماعة متشددة كنسيًا تطلق على نفسها “حماة الإيمان”. وقد مارست حربًا إلكترونية ممنهجة ضده وضد التيار الآبائي على رأسه القمص متى المسكين وكل من والاه وتبعه من الإصلاحيين.
تظل قضية جورج بباوي كغيرها من الأزمات التي ورثها البابا تواضروس ملفًا مفتوحًا أمامه حتى مرض جورج. حينها قرر البابا رفع الحرمان الكنسي عنه وأرسل له كهنة ليتمم طقس التناول المقدسة في منزله قبل رحيله بشهور.
جورج بباوي.. جسد موزع بين الأرثوذكس
كان البابا تواضروس ممن وقعوا على قرار حرمان جورج بباوي. ربما أراد تبرئة نفسه من ذنب رجل اتهم في دينه دون محاكمة. ربما هي خطوة ككل خطواته الإصلاحية، لكنها لم تخلو من هجوم تشنه جماعة حماة الإيمان كذئاب منفردة تنهش ضحاياها بعناية.
رحل جورج بباوي وعادت أزمة حرمانه من جديد هل ستصلي كنيسته عليه أم سيظل جسده منتظرًا قرارات الرحمة. غير أن الأنباء الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية تقول إن البابا قد أصدر قراره وسمح بالصلاة عليه بعد أن رفع عنه الحرمان. بينما رأت زوجته إن الكنيسة اليونانية التي كانت تبجله وتحتضنه طوال سنوات إبعاده لها فيه نصيب أيضًا. وهكذا ظل جسد جورج موزعًا بين كنائس عدة انتمى لها بقلبه أو بقلمه وفي انتظار عودة نجله ليودعه إلى مثواه الأخير منطبقا عليه قصيدة البابا شنودة الشهيرة:
غريبًا عشت فى الدنيا نزيلاً مثل آبائي
تركت مفاتن الدنيا ولم أحفل بناديها
ورحت أجر ترحالي بعيدًا عن ملاهيها