“إحنا بنحارب أفكار لا أشخاص” هكذا وصف البابا شنودة الثالث صراعه مع  جورج حبيب بباوي، “1938-2021″ الذي انتهى بإقصاء المفكر اللاهوتي عن الكنيسة القبطية، عقب قرار المجمع المقدس في جلسة طارئة بتاريخ 21 فبراير 2007 بعزل وفرز بباوي من الكنيسة.

يعد الدكتور جورج حبيب بباوي، المدرس السابق بالكلية الإكليريكية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعميد معهد كامبريدج للدراسات اللاهوتية، الذي رحل عن دنيانا قبل أيام، العلامة اللاهوتي الأكثر إثارة للجدل في الكنيسة القبطية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، بسبب صداماته وأفكاره، هذا ما نعرفه، لكن ما هي أفكاره التي جعلته موصوما بأنه أحد هراطقة القرن العشرين؟

قرابة 40 عاما عانى”بباوي” من الهجوم عليه، الذي بدأ عام 1983 حين تم منعه من التدريس في الكلية الإكليريكية بالقاهرة وفروعها، بقرار من البابا شنودة لكونه يقدم “تعاليم خاطئة” على حد وصف الأخير، بل وتبعه وقف راتبه، ما أزاد من شدة الأمور عليه حتى وصل به الأمر إلى أنه لم يجد في بيته رغيف عيش واحد له ولأسرته المكونة من زوجة و3 أبناء.

 الثالوث

وفقًا لأحدث مقطع فيديو خرج من خلاله بباوي يتحدث عن أفكاره التي سببت خلافًا شديدًا مع البابا شنودة، فكانت أولها فكرة “الثالوث” حين قال البابا شنودة إن الثالوث “الأب والإبن والروح القدس” هم الوجود والعقل والحياة وذلك خلال محاضرة للشباب الجامعي، حين كان “بباوي” معيدًا في الكلية الإكليركية.

بمجرد سماع ذلك التعليم، ذهب بباوي إلى البابا قائلًا: “يا سيدنا.. الوجود والعقل والحياة هي صفات كل أقنوم، حيث لم يقل أي من الآباء أن الأب هو الوجود والإبن هو العقل والروح القدس هو الحياة”.. فكانت بداية الشرخ في علاقتهما.

قدسية الزواج عند الكاثوليك والبروتستانت

جاءت الفكرة الثانية حين كان يشغل بباوي منصبًا في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وجاء إليه مجموعة من القساوسة الإنجيليين والكاثوليك وسأله أحدهم: “هو أنا زاني يا أبني؟” وهو ما تبعه ردًا سريعًا من بباوي: “لأ طبعا”.

ذلك السؤال تبعه تقديم صورة من منشور كان قد أرسله البابا شنودة للأساقفة مضمونه أن كل من تزوج خارج الكنيسة القبطية فهو يعتبر زاني، وهو ما تبعه ضيقة من “بباوي” على المنشور وصحبها سخرية من الكلام: “يعني معنى كدا العالم كله زاني ماعدا أحنا!”.

تبع ذلك كتابة بباوي لمقال بمجلة الكرازة تحت عنوان: “قدسية الزواج عند الكاثوليك والبروتستانت” وهو ما نتج عنها استدعائه لمحكمة في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، وحينها هاجم الأنبا بيشوي مطران دمياط الراحل ما كتبه بباوي، فلم يكن أمام الأخير سوى قوله بأن معنى كلامه أنه يتهم الرئيس محمد حسني مبارك بأنه “زاني” لأنه متزوج خارد الكنيسة القبطية، فأدرك الأنبا بيشوي حينها أن تلك الدعوة لها أبعاد سياسية أيضًا.

اقرأ أيضا:

البابا شنودة وجورج بباوي.. خلاف لا يستطيع الموت إخراس صوته

 

 تناول المرأة في فترة الحيض

ازداد الشرخ رويدًا رويدًا بين جورج حبيب بباوي وقيادات الكنيسة القبطية برئاسة البابا شنودة، آنذاك، حين قدم محاضرة في اجتماع عالمي عن حقوق المرأة مع هيئة “اليونسكو” والذي أكد خلالها بباوي عن إمكانية تناول المرأة وقت الدورة الشهرية.

تبع ذلك استدعائه للدير من قبل البابا شنودة، برفقة الأساقفة، حيث قُدم إلى محاكمة كنسية عن تلك الفكرة، والتي تم الرد على بباوي: “بأنه في حال تناول المرأة أثناء الدورة الشهرية، فيسقط دم المسيح مع الدم النازف من المرأة”، وهو الأمر الذي رفضه بباوي قائلًا: “أنه بتناول جسد ودم المسيح، فأننا نتحول إلى المسيح كعنصر حياة ولا يتحول المسيح فينا كعنصر موت”، فتبعها كلمة من بباوي للبابا شنودة: “قدسك مش فاهم الكلام اللي أنت بتصليه”.

كل هذا تبعه قرار عام 1983 ميلاديًا، تضمن منع  جورج حبيب بباوي من التدريس في الكلية الإكليريكية بالقاهرة وفروعها، بالإضافة لوقف راتبه، وهو القرار الذي استند لحجة أن بباوي يقدم تعاليمًا خاطئة.

باحث لاهوتي: أساس المشكلة شخصي وليس فكري أو لاهوتي

يرى الدكتور جورج فرج، الباحث اللاهوتي بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، أن الأزمة الكبرى بين جورج بباوي والبابا شنودة، ترجع في أصلها لهجوم بباوي على البابا في إحدى الإذاعات الأجنبية إبان أزمة الأخير مع السادات، وهو الأمر الذي أشار إليه الأنبا غريغوريوس في خطاب له للبابا، ومن ثم فإن أساس المشكلة شخصي وليس فكري أو لاهوتي.

وتابع: “ما يؤكد ذلك أن الاتهامات العقيدية لبباوي كان يدرسها في الإكليريكية قبل هجومه على البابا شنودة ولكن في اللحظة التي هاجم فيها البابا بدأ الهجوم عليه وإظهار “أخطاء” لبباوي ترجع لفترة السبعينات فلماذا كان السكوت عليه إن لم يكن الأمر شخصي”.

وأضاف فرج لـ”مصر 360″، أن أفكار بباوي لم تكن مناقضة للإيمان السليم، بل كان رجوعًا لتعليم الآباء الأولين، حيث كان يدعمه بقوة الأنبا يوأنس أسقف الغربية، وكذا فإن مذكرات وخطابات الأنبا غريغوريوس لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، تجعل أي محاكمة نزيهة لبباوي تتأكد من أن الدوافع الشخصية لا العقيدية هي سبب الصراع.

أما بشأن انضمام بباوي للكنيسة الانجيلكانية أو للروم الأرثوذكس، فهو ما أكد بباوي بأنه كان أمرًا اضطراريًا، بسبب وقفه عن التدريس بالإكليريكية ومنعه من أي مصدر للرزق.

ووصف “فرج”  قرار حرمان بباوي بكونه “باطل” لعدم تقديمه إلى محاكمة عادلة يواجه فيها بكل الاتهامات ضده، وتعطى له فرصة لدفاع عن نفسه، لافتاً إلى أن ذلك لا يعني بالضرورة براءة بباوي ولكن ببساطة لم يعط له حق الدفاع عن نفسه، وهو ما يتعارض مع الكتاب المقدس والقانون الكنسي والضمير الإنساني لافتاً إلى أن ما قيل عن عدم تقديمه للمحاكمة بحجتي عدم اعتراف بباوي بالكهنوت أو سلطته، أمر غير سليم حيث إن هذا في حد ذاته مجرد ادعاء يحتاج إلى مُساءلة، كما أن القول بأن انتسابه للكنيسة الانجيلكانية،  يحول دون محاكمته أمر مرفوض أيضًا لأن قرار الحرمان أقر بوضوح أن بباوي ما زال يعتبر نفسه منتميًا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، علاوة على مطالبة بباوي بالمحاكمة الكنسية مرات كثير  قبل نياحة البابا وبعدها، وهو الأمر الذي تم تجاهله بدون سبب.

البابا شنودة
البابا شنودة

وبرأي الباحث اللاهوتي، فإن قائمة اتهامات التي اُتهم بها بباوي كانت “هلامية” غير محددة، تؤكد عدم دراية مروجيها إلى علوم اللاهوت. وأن ما علم به بباوي علم به الكثيرون غيره مثل الآب متي المسكين ورهبان دير أبو مقار والكثير من الدارسين، فالأنبا بيشوي مطران دمياط، قدم في إحدى مؤتمرات ما يسمى تثبيت العقيدة محاضرة  بعنوان “الخط المشترك بين متى المسكين وماكس ميشيل وبباوي”، ساوى فيها بين تعليم بباوي والأب متى المسكين، فيبقى التساؤل: “لماذا حرم بباوي ولم يحرم الأب متى إن كان الأمر متعلق بالعقيدة؟”.

نقطة أخرى مهمة وهي الخلط بين الاتهامات الأخلاقية مثل التجاوز في الوعظ بالشتيمة أو التهجم على البابا وبين الاتهامات العقيدية فمن غير المقبول أن تكون اتهامات أخلاقية سبب لحرمان متعلق بالعقيدة والتعليم.

وأختتم أن بباوي أثر في الكنيسة بأفكاره حتى بعد حرمانه، وقد وثق كل ما علم به في كثير من الكتابات ولم يرد عليه أحد. وكتاباته منتشرة بقوة بين الإكليروس ويوجد الكثير يتتلمذ عليها. ولعل أبرز مثال حين هاجم بباوي “ميمر” أي حوار تعليمي يقرأ في الكنائس تحت عنوان “العبد المملوك” ويدور حول العدل والرحمة، ووصفه بكونه غير أرثوذكسي، كان يقرأ في الكنائس حتى عهد البابا شنودة، قبل أن تضطر الكنيسة لمنعه لاحقاً في عهد البابا شنودة أيضاً.

باحث أرثوذكسي: بباوي صاحب ثورة فكرية ولاهوتية

على ذات المنوال، يتفق مارك فيلبس، الباحث الأرثوذكسي، على أن أفكار الدكتور جورج بباوي لم تكن شاذة عن أفكار آباء الكنيسة الأرثوذكسية الأولين، حيث يصفه بكونه الرجل الذي استلم الشعلة من الأب متى المسكين، واستطاع أن يثوَر الأقباط فكرياً ولاهوتياً، وأن يسد الجوع المعرفى والروحى لمئات من شباب الكنائس الذين لم ترضهم التبريرات السخيفة أو القسرية للإيمان، ولا الشروحات الفقيرة لمعانى الطقوس، ولا الاختفاء القسرى لهوية الكنيسة التى ضاع تقليدها وغُيِّب تحت حملات التجهيل التى سادها التراث الشعبى الموروث.

وأضاف فيلبس لـ “مصر 360″، أن جوهر المشروع اللاهوتى لبباوى هو استعادة تقليد الكنيسة الأرثوذكسية من براثن الموروث والمتداول والسمعى الشفاهى، لصالح التأصيل، والترجمة الدقيقة لبعض أهم كتابات الآباء، خاصة القديس كيرلس الكبير، وإعادة محاكمة الأفكار فى ضوء رؤية قويمة لإيمان الكنيسة الأولى، بالنسبة لجيلنا، كان بباوى أقرب إلينا من المسكين، زمنياً ووجدانياً، فبينما كان المسكين راهباً متنسكاً فى أقاصى الصحراء، كان بباوى علمانياً مثلنا، يكتب لنا، نراه ونسمعه، ويقدم نسخة نقية من الإيمان تعتمد الفهم العميق لجوهر الأرثوذكسية، لذلك، كان لنا فى حياته برومثيوس الذى سرق نار الآلهه لينيرنا، وصار لنا بعد انتقاله الأب الأرثوذكسى الرئيس لجيلنا.

وأكد أن استعادته للأرثوذكسية كانت من أجل الإنسان، فهو يفكك نظريات الفداء السادية السائدة فى الوسط القبطى، من أجل الكرازة بعلاقة سوية بين الله والإنسان، علاقة لا يكون فيها الإنسان مُستَبعداً من صراع داخل الألوهه يعاقب فيه الله نفسه، بل يصير هذا الغريب والمُقصَى شريكاً لله فى الخلاص، بل وشريكاً لله فى طبيعته وحياته.

ويصف الباحث الأرثوذكسي أن الانقلاب اللاهوتى الذى أحدثه جورج  فى وعي قرائه، كان بمثابة قيامة للإنسان داخل اللاهوت القبطى، وإعادة إحياء، ليس فقط لتقليد الكنيسة مشروحاً فى آبائها، بل أيضاً للإنسان الذى هو موضوع التقليد وغرضه، لذلك فهو يهتم بإعادة تأسيس مفهوم الكنيسة، ولاهوت الأسرار، وبناء مفهوم الشخص الإنسانى.

ويرى أن صدام الحقيقى كانت فيما قال حبيب فى رده على كتاب “بدع حديثة” للبابا شنودة: “فصل الإنسان تماماً عن المسيح نفسه، اعتبار البابا رأس الكنيسة، فحل محل المسيح نفسه وأصبح هو رأس الجسد، وصار لجسد المسيح رأسين: بابا الإسكندرية والرب يسوع … تعليم يترع كل اختصاصات المسيح باسم رئاسة الكهنوت”، هذا هو جوهر الصراع.

وتابع: كرازة بباوى بعقيدة التأله، وهى عقيدة قويمة كرز بها كل آباء الكنيسة كونها غرض الحياة المسيحية، والتى أصبحت غريبة على الأذن القبطية، لأنها تستعيد للإنسان مكانته فى الله، الإنسان الذى أصبح يزاحم السلطة فى قداستها هو خطر داهم على مراكزها وتجارتها.

حماة الإيمان: لم نجد مخطوطات تساند أفكار بباوي المخالفة

على النقيض، يرى مينا أسعد كامل، الباحث والكاتب القبطي وأحد كبار قيادات رابطة حماة الإيمان، أن بباوي لم يستند في أفكاره على آراء آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل إنه يدعي ذلك.

وقال كامل: “لم يحدث قط أن وجدنا في كتابات جورج بباوي المخالفة ما يسندها في المخطوطات أواليوناني القديم . حتى أنه أدعى وجود مخطوطات لا يملكها غيره وشيخصات لم نجد لها أثرًا في التاريخ الكنسي ناسبا إليهم أقوال واستشهادات”.

وأكد الباحث القبطي، الذي ينتمي إلى التيار المحافظ في الكنيسة، أن الباحث العلمي الذي يدقق خلف ما يكتبه بباوي سيصل وبسهولة ومع أول السطور إلى عدم صحه ما يقول، موضحًا أن بباوي أبتلى على الآباء وقدم تعليما لم يذكروه مطلقًا، وأنه تفنن ويبتدع فى اختراع شخصيات لم تتواجد على الإطلاق.

كل هذا يجعل لقصة بباوي حضورها المستمر داخل أروقة الكنيسة القبطية، وإن مات الشخص فأفكاره ما زالت مستمرة، وهو ما سيزيد الصراع في الوقت المقبل حول ذلك الشخص وأفكاره، الأمر الذي يجعل للمجمع المقدس برئاسة البابا تواضروس الثاني، كلمته العليا لحل تلك المشكلة الجدلية.

كتب- كيرلس بشارة