مثّل اغتيال الباحث والكاتب اللبناني، لقمان سليم، قبل أيام، في النبطية، جنوب لبنان، لحظة قصوى من الانفلات السياسي والأمني على خلفية الأحداث المتداعية، منذ انفجار مرفأ بيروت، نهاية العام الماضي، والذي تزامن مع ذروة الاحتجاجات الشعبية على الأوضاع الاجتماعية المأزومة. ثم الانسداد السياسي الذي تلى الانفجار. وكذلك فشل المبادرة الفرنسية، وإخفاق الحكومة المكلفة عن تنفيذ مهامها.
الاتهامات التي لاحقت حزب الله عقب الانفجار، بسبب هيمنة عناصره الأمنية على المرفأ، عاودت الظهور والتكرار، للأسباب ذاتها، بعد اغتيال الباحث والكاتب اللبناني، لاسيما وأن الحادث تم في المناطق الخاضعة لنفوذ الحزب وسيطرته.
مشهد الاغتيالات في لبنان، ليس جديداً. إذ إن ذاكرة اللبنانيين متخمة بحوادث دموية مماثلة، بلغت أقصاها، في الفترة بين عامي 2005 و2013. وقد تم استهداف شخصيات سياسية وثقافية وأمنية، انحصرت غالبيتها في رموز قوى “14 آذار”. وهو التيار السياسي الذي ضم معارضي الوجود السوري في لبنان، ورفض هيمنة العناصر الموالية له داخل الأجهزة الأمنية والسياسية للدولة.
ومن بين العناصر التي جرى تصفيتها رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، والقيادي الشيوعي، جورج حاوي، ورئيس تحرير جريدة النهار، جبران تويني، إضافة إلى عناصر أمنية أخرى، كانوا ضمن فريق جمع المعلومات والأدلة، في قضية مقتل رئيس وزراء لبنان السابق، مثل وسام عيد ووسام الحسن. وفي ثمانينات القرن الماضي، تعرضت شخصيات أخرى، كانت لها مواقف على النقيض من حزب الله، إلى التصفية الجسدية، مثل المفكر اللبناني، حسين مروة، وكذا حسن حمدان المعروف بـ”مهدي عامل”.
لم تسفر التحقيقات في غالبية الحوادث والاغتيالات السابقة عن ثمة نتائج. وبينما دانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، نهاية العام الماضي، أحد عناصر حزب الله في مقتل الحريري، رفض الحزب تسليم الشخص المتهم بالحادث.
ولذلك، قالت شقيقة لقمان سليم، الناشرة والأديبة، رشا الأمير، إنها “تعرف جيداً “حقيقة من قتله، وهذا يكفيها.. ولا تنتظر شيئاً من القضاء اللبناني”، الذي وصفته بأنه في “غيبوبة”.
وأردفت الأمير: “لا أريد قضاءً دولياً. حيث إنه أيضاً ليس منزهاً في بعض منه عن التدخلات السياسية”.
وتابعت: “لا أهتم بالتفاصيل البوليسية، ماذا سيخبرني القضاء أي نوع رصاص قتل أخي؟ كيف غدروه وقاومهم؟ هذه تفاصيل مقززة ومقرفة لا أريد معرفتها، تشبه القتلى ولا تنفعني بشيء ولن تقلل وطأة فقدي، أعرف جيداً من قتله، وهذا يكيفيني”.
رافقت الكاتب والسياسي اللبناني، حملات إعلامية تحريضية، قبل تصفيته الجسدية. كما أنها ظلت تتعقبه حتى بعد وفاته. وفاقمت عملية التصنيف المحمومة، ونبذه السياسي والمجتمعي، من قبل المنصات الإعلامية، القريبة من حزب الله، من أثر اغتياله الذي كشف عن تعذيب جسدي.
ففي صحيفة “الأخبار” اللبنانية، المعروفة بالتزامها الخط السياسي لحزب الله، نشرت عدة مقالات تحريضية ضد سليم، تتهمه بـ”العمالة” و”التطبيع مع إسرائيل”. وفي ديسمبر عام 2019، تعرض منزله في حارة حريك، بالضاحية الحنوبية لبيروت، إلى الاعتداء. وكتب على حائط منزله عبارات تهديد مباشرة بقتله بـ”كاتم الصوت”.
وقال سليم حينها في بيان أصدره عقب الحادث: “واستدراكاً على أية محاولة تعرض لفظية أو يدوية لاحقة، لي أو لزوجتي أو لمنزلي أو لدارة العائلة أو لأي من أفراد العائلة، أو القاطنين في الدارة، فإنني أحمل قوى الأمر الواقع (حزب الله) ممثلة بشخص (أمينه العام) حسن نصرالله المسؤولية التامة عما جرى وعما قد يجري”، مضيفاً: “اللهم إني بلغت اللهم فاشهد”.
شيعة السفارة
مصطلح “شيعة السفارة” الذي دشنته صحيفة الأخبار اللبنانية، ضد مجموعة من النخبة السياسية والثقافية الشيعية المعادية لحزب الله، والذين ينبذون سياساته وأفكاره وممارساته، لم يستثن حتى رجال الدين الشيعة ممن لهم مواقف غير ولائية، إضافة إلى الكتاب والصحفيين والنشطاء.
وفي عام 2012، حمل غلاف العدد الخاص بجريدة الأخبار اللبنانية صوراً لـ28 شخصية شيعية، من بينهم سياسيون معارضون لحزب الله، وشخصيات ثقافية مستقلة، وجميعهم يرفضون سلاح الحزب “غير الشرعي”.
وكتبت الصحيفة أسفل الصور أنها تكشف عن “برقيات سرية مسربة للسفير الإماراتي في لبنان حول الأشخاص المحتاجين لدعم وتمويل لمواجهة حزب الله”.
وضمت لائحة “شيعة السفارة”، التي تزامنت مع الرفض الشعبي اللبناني لتدخل الحزب في الحرب السورية، أسماء مهمة في الوسط الشيعي اللبناني. وكان من بينهم لقمان سليم، والصحفي عماد قميحة، وحازم الأمين وديانا مقلد، والكاتب والأكاديمي، زياد ماجد، والصحفي مصطفى فحص، والأخير هو ابن ورجل الدين الشيعي، السيد هاني فحص، والمعروف بمواقفه التجديدية في الدين، ورفضه سياسة حزب الله كذلك، والصحفي علي الأمين مؤسس موقع “جنوبية”.
وفي حديثه لـ”مصر 360″، يرى الصحافي اللبناني، عبد الرحمن أياس، أن “اغتيال لقمان سليم خسارة للبنان. فهو كان باحثاً حراً ومستقلاً عميق الثقافة وناشطاً سياسياً في سبيل تقدم البلاد واستقلالها. ومؤسف أن يكون ثمن الاختلاف في الرأي القتل”.
ويضيف أياس: “الجريمة بحق سليم تبدأ من التحريض العلني الذي تعرض له. وتشبه حملات تشويه السمعة، والاغتيال المعنوي الذي رافق لقمان سليم ما كان يحدث في السابق، مع من سقطوا ضحايا للاغتيال، في العقد الماضي”.
ويكشف الصحفي اللبناني عن مخاوفه من موجة اغتيالات محتملة، بقوله: “أخشى أن يكون اغتيال سليم تمهيداً لسلسلة اغتيالات جديدة. وهو بالتأكيد محاولة لإسكات الأصوات المعترضة على كثير من الأوضاع غير السليمة القائمة في البلد”.
اقرأ أيضا:
شبح الاغتيالات يخيم فوق لبنان.. واتهامات مباشرة لحزب الله في تصفية لقمان سليم
وفي بيان رسمي صادر عن حزب الله، فقد طالب “الأجهزة القضائية والأمنية المختصة بالعمل سريعاً على كشف المرتكبين ومعاقبتهم”.
كما ان وزارة الخارجية الأمريكية، عقبت على مقتل الناشط السياسي اللبناني، لقمان سليم، بضرورة “محاسبة مرتكب هذه الأعمال”.
وقالت الخارجية الأمريكية، في بيانها الرسمي: “تدين الولايات المتحدة اغتيال الناشط اللبناني البارز، لقمان سليم، في جنوب لبنان. وننضم إلى المجتمع الدولي في الدعوة إلى محاكمة قتلته بسرعة..”
وأضافت الخارجية الأمريكية: “كرس السيد سليم حياته لإحداث تغيير إيجابي في لبنان. كما حارب بشجاعة من أجل العدالة والمساءلة وسيادة القانون في بلاده. إن اللجوء إلى العنف والتهديد والترهيب كوسيلة لتخريب حكم القانون أو قمع حرية التعبير والنشاط المدني عمل جبان وغير مقبول. ونحن نحث المسؤولين اللبنانيين، بمن فيهم القضاء والقادة السياسيين، على محاسبة مرتكبي هذه الأعمال الهمجية بدون تأخير أو استثناء”.
كما شددت منظمة العفو الدولية على ضرورة ملاحقة قاتلي الناشط اللبناني. وقالت: “جريمة القتل المروعة يجب ألا تمر بلا عقاب”.
وإلى ذلك، أوضحت لين معلوف، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، أن “لقمان سليم، كان في طليعة النضال ضد الإفلات من العقاب في لبنان.. واليوم، هو ضحية هذا النمط الذي استمر لعقود” في البلاد”.
وقالت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية: “اليوم، يصادف مرور ستة أشهر على الانفجار الذي فجع به سكان العاصمة بيروت، وقبض على روحها، من دون أن يساءل أو يحاسب أحد عنه حتى الساعة”.
كلما تأزمت الأوضاع في لبنان توحش النظام في ملاحقة المعارضة
يشير الأكاديمي والناشط المدني اللبناني، باسل صالح، إلى أنه كلما تأزمت الأوضاع في لبنان، فإن النظام يتوحش في ما يتصل بملاحقة المعارضة، والخصوم السياسيين. وتتعدد عمليات القمع والترهيب، من ملاحقة تغريدات ومنشورات الناشطين، على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التضييق على أنشطتهم الميدانية المختلفة. وذلك بغض النظر عن تباين المواقف السياسية.
ويضيف صالح لـ”مصر 360″: “تتم ملاحقة المعارضين على أكثر من مستوى؛ تبدأ من خلال الخطاب الجماهيري، ثم السياسي الرسمي، وحتى الإعلامي. ومن خلال ذلك تتم تعبئة الأفراد ضد القوى المعارضة والمؤثرة على استقرار النظام. ويمكن ملاحظة ذلك، في خطاب أمين عام حزب الله، عندما أعلن، صراحة، أنه النظام، في أعقاب انتفاضة “تشرين”، العام الماضي، وقال بوضوح أنه “لا يمكن إسقاط العهد”، ووصفه بـ”القوي””.
ومن ثم، فإن “الهجوم على لقمان وبقية الناشطين في الحراك السياسي، وخاصة من الشيعة البارزين، أدى، بالتبعية، إلى تعرضهم لأزمات في مواجهة النظام القائم، لأنهم خارج السرب، ولا يخضع أي منهم إلى الخطاب العام والمتسيد، داخل بيئة حزب الله”.
لذا، لا يقف الأكاديمي والناشط المدني اللبناني طويلاً للبحث أو التساؤل حول التحريض المعلن في الصحف، بخصوص لقمان سليم أو غيره. وذلك في ظل ما يصفه بـ”جهوزية الاتهامات، طوال الوقت، لمن يتبنى الموقف المعارض من النظام، ما يجعله بالنسبة لهم في صف العدو، وهو الأمر الذي يجعل ظهر المعارضين مكشوفاً، والقصاص منهم، مجرد مسألة وقت”.
ويختتم: “القاتل هو ثقافة وجمهور استباح صفحة لقمان بعد مماته، ويستبيح صفحاتنا ونحن أحياء. القاتل هو من عبد ويعبد الطريق أمام هذا القتل، وأمام كل تنفيذ. فلم يعد هناك أي أهمية لدليل حي مباشر يختبئ خلفه، لأن القاتل كان قد أعلن عن نفسه مسبقاً، هو ذلك الذي يخون، ويتهم، ويهدر دماً، ويهدد، ويحاكم. والقاتل هو من يمعن في قتلك، في تصغيرك بحجة الأحلاف الكبيرة. وفي قتلك بحجة المعادلات الكونية. القاتل هو حاقد مسبق، آلة قتل محشوة أمام أي حرارة جسد، وأي شكل من أشكال الحياة.
و”القاتل هو كل من يسمح لجمهوره تهديد الناس، إن في جريدة، أو على منبر ومنصة، وهو دولة لا تحرك أجهزتها الأمنية والقضائية أي ساكن. هذا هو بيت القصيد اليوم. هناك فعل اغتيال يومي، واقع على كل واحد منا، وهناك دولة بوليسية تكثف القمع والترهيب لتتستر على فعل القتل والمجرم حيناً، ولتمارسه هي أحياناً”. يقول صالح.