يبدو أن العلاقات الأمريكية الأفريقية تدخل مرحلة جديدة مع تولي جو بايدن السلطة، حيث برز من تصريحات الرئيس الأمريكي التي استبق بها عقد القمة الأفريقية، أنها مفارقة لسياسيات ترامب من حيث الشكل والمضمون، حيث تحاول أن تتجاوز مرحلة القطيعة مع القارة التي مارسها ترامب بسلوك استعلائي تم وصفه بالعنصرية وقتذاك، وإهماله إعلان سياسيات لإداراته نحو أفريقيا على النحو الذي مارسته الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 2002 حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن أفريقيا ذات مكانة استراتيجية للولايات المتحدة، وهو ماترتب عليه تكوين القيادة الأفريقية في الجيش الأمريكي “أفريكوم” عام 2006.

اقرأ أيضًا.. أثر جو بايدن في إيران.. كيف ينهي أزمة شعب الجمهورية الإسلامية؟

وإذا كان الرئيس بايدن اختار توقيتًا مناسبًا لتوجيه رسالته للأفارقة وحافظ من حيث الشكل على محتوى الخطاب الأمريكي الدبلوماسي  التقليدي، من حيث احترامه للتنوع العرقي والثقافي وقال: “الولايات المتحدة مستعدة الآن لتكون شريكًا في التضامن والدعم والاحترام المتبادل مع الدول الأفريقية”.

كما شرح آلياته بتنامي التجارة والاستثمار الذي يعزز السلام والأمن بالقارة، دون أن يهمل اتجاهات سياسيته القائمة على تعزيز حقوق الإنسان لكل البشر مهما كانت خلفياتهم أو نوعهم الاجتماعي.

ورغم تصريحات الرئيس الأمريكي الدافئة تجاه الأفارقة، تبدو لنا أن الاستراتيجيات الأمريكية حاضرة وبوضوح في توجهات واشنطن الحالية إزاء أفريقيا، ولعل أهم ركائز هذه الاستراتيجية هي منافسة الصين ومحاولة إخراجها من نقاط ارتكازها في أفريقيا، حيث ستكون السودان نقطة الانطلاق الأمريكي لمواجهة الصين، والتي تتمتع بحضور قوي هناك.

وما يرشح السودان لأن تكون نقطة الانطلاق الأمريكي ضد الصين هي طبيعة الارتباط السوداني بالولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة، والمترتب على تفعيل إجراءات ربط السودان بالاقتصاد العالمي وتمكينه من التفاوض على خفض ديونه خصوصًا مع نادي باريس، وفتح الطريق أما للاقتراض السوداني من البنك الدولي.

في هذا السياق يشكل الوجود العسكري الروسي المستجد أمام الولايات المتحدة تحديًا مهمًا خصوصًا مع طبيعة التفاهمات الصينية الروسية في العديد من الملفات، والتي يرقى بعضها إلى مستوى التحالف، فقد شهد نهاية 2020 توقيع اتفاق مدّته 25 عامًا مع السلطات السودانية لإنشاء قاعدة بحرية روسية جديدة في ميناء بورتسودان، قادرة على استيعاب 300 جندي روسي تقريبًا.

اقرأ أيضًا.. من جديد الدب الروسي في أفريقيا

وأتى ذلك عَقِب توقيع موسكو والخرطوم في العام 2019 على اتفاق تعاون عسكري مدّته 7 سنوات يسمح بدخول السفن الحربية والطائرات الروسية إلى السودان، إضافة إلى السماح بتبادل المعلومات والخبرات العسكرية والسياسية بين الجانبين.

وينصّ الاتفاق أيضًا على افتتاح مكتب تمثيلي لوزارة الدفاع الروسية بهدف العمل والتنسيق مع نظيرتها السودانية، حيث أقامت روسيا أيضًا عدة علاقات مع دول القرن الأفريقي بهدف ترسيخ وجودها في البحر الأحمر.

وتشكل الموارد الطبيعية السودانية من الغاز والبترول والمعادن، وفرص الاستثمار فيها دافعًا قويًا لتكون نقطة ارتكاز أمريكي وربما هذا ما  جعل تكتل من الشركات الأمريكية يعقد مؤتمرًا في السودان متوقع له الانعقاد في مارس المقبل، وهذا اتجاه يتوازى مع إطروحات مراكز التفكير الأمريكية في المرحلة الأخيرة والتي طالبت فيها الإدارة الأمريكية بالتركيز على السودان، نظرًا إلى أن السودان هو الدولة الثالثة المصدّرة للذهب إلى دولة الإمارات، بعد ليبيا وغانا على التوالي.

واستمر هذا التبادل الاقتصادي ضمن إطار العلاقات التي أقامتها الإمارات مع الفريق أول محمد حمدان دقلو، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الذي تولّى زمام الحكم في البلاد عَقِب عزل البشير.

ونتيجةً لهذه العلاقات، بلغت صادرات السودان من الذهب إلى الإمارات ما قيمته 16 مليار دولار سنويًا.

اقرأ أيضًا.. بعد الخروج من “رعاية الإرهاب”.. الآن يمكن للسودان حساب المكاسب والخسائر

أما على مستوى مجريات القرن الأفريقي فيبدو أن الإدارة الأمريكية غير مستريحة في هذه المرحلة مع أزمتين مترابتطين هما تصاعد التوتر في ملفي سد النهضة، والحدود السودانية الإثيوبية، لأسباب متعلقة بأن انهيار الأمن الإقليمي في هذه المنطقة من شأنه أن يمثل تهديدًا لأمن البحر الأحمر من ناحية، وتصاعد فرص التنظيمات الإرهابية في التمدد من جهة أخرى، خصوصًا مع الاختراق الأخير الذي حققته داعش لدول شرق أفريقيا بالكونغو وموزمبيق بعد هروب عناصر التنظيم من العراق والشام.

ولعل ذلك ما يفسر زيارة يقوم بها حاليًا وزير الخارجية الفنلندي إلى كل من السودان وإثيوبيا، والزيارة التي قام بها مدير المخابرات الإسرائيلي للسودان، مؤخرًا بهدف تخفيض مستوى التوتر، وأيضًا بلورة سياسيات أمريكية إزاء المنطقة، مع ماهو معروف من تحالفات بين واشنطن وكل من إسرائيل والدول الإسكندنافية.

كما يشكل الاستقرار في إثيوبيا أحد الاهتمامات الأمريكية الرئيسية، فهي منصة للمصالح الأمريكية الإسرائيلية المشتركة، وربما يكون من الأهمية بمكان الانتباه أن دورية فورين بوليس الأمريكية قد أقترحت منهجًا مستقبليًا للتعامل مع هذا التحدي بالاستثمار بكثافة في إقليم تيجراي، مع  تعزيز الخدمة المدنية المحلية بدلًا من إفراغها من مؤيدي جبهة تحرير تيجراي، وأوقفت مضايقات تيجراي في أماكن أخرى، وأدارت المناطق المتنازع عليها بين أمهرة وتيجراي بدلًا من تركها للأمهريين، الذين استولوا عليها حاليًا، فقد يكون هناك بعض الأمل في السلام.

قوات أفريكوم

وسيكون من المهم التحرك نحو حوار وطني لمعالجة الانقسامات العميقة في البلاد داخل تيجراي وخارجها.

وفي هذا السياق، ألغى بايدن قرار ترامب بشأن إنهاء مهام قوات “أفريكوم” الأفريقية كما أنه سيحافظ على الوجود العسكري الأمريكي بالتواجد في القرن الأفريقي، رغم قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من الصومال ولكن ربما بآليات أخرى، حيث من المتوقع أن تحرص واشنطن على عدم ترك فراغ للنفوذين الصيني والروسي المتناميين على حساب المصالح الأمريكية ولكن ربما بآليات أخرى، لأسباب متعلقة بالتحديات الاقتصادية المرتبطة بأزمة وباء كورونا، إذ أدت سجلت الموازنة الفيدرالية في الولايات المتحدة، على خلفية هذه الأزمة، عجزًا قياسيًا بلغ تريليون دولار في نهاية العام المالي المُنقضي، وفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة الخزانة.

ومع استمرار الأزمة، فإن إدارة بايدن ستعمل على تخفيض نفقاتها الدفاعية بالتأكيد.

اقرأ أيضًا.. عن الحسابات المصرية في دعم السودان

وإذا كانت الاستراتيجيات الأمريكية الأفريقية قائمة على إزاحة الصين، فإنها تتضاغط مع فرنسا حاليًا في مناطق نفوذها التقليدي أي المناطق “فرانكوفونية” ذلك أن اعتراف الولايات المتحدة بإطروحات المغرب في الصحراء الغربية، هو عنوان لارتفاع مستويات التضاغط بين البلدين، خصوصًا وأن إدارة بايدن لم تقدم على إلغاء قرار ترامب بهذا الشأن على النحو الذي فعلته مع الكثير من قرارته.

ويبدو السبب الرئيسي لهذا التضاغط الأمريكي الفرنسي مرتبطًا بمسألة أمن الطاقة، فمن ناحية تحصل الولايات المتحدة الأمريكية على ربع استهلاكها اليومي من البترول من منطقة الساحل الأفريقي سواء من منطقة خليج غينيا أو من أنبوب النفط التشادي، بينما يشكل اليورانيوم أهمية استراتيجية لباريس التي تعتمد عليه لتوليد الطاقة الكهربية الفرنسية.

في هذا السياق، تواجه واشنطن تنوعًا لصور التواجد الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، حيث زادت كثافة التحرك الفرنسي بعد محاولة  انفصال شمال مالي في عام 2012، كما تطور موقفها من التطورات التي كانت في أفريقيا الوسطى بداية من نفس العام، وتدهور الوضع الأمني في النيجر، لتظهر بعدها دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتكوين قوة أوروبية، وهي الدعوة التي تزامنت مع أحداث الجزائر، والتطورات السياسية في السودان.

في المقابل، طورت واشنطن وماتزال، أدواتها الأمنية من حيث تواجد وحداتها العسكرية، أوالتدريبات المشتركة مع دول شمال ووسط إفريقيا، الأمر الذي ساهم في التأثير في العقيدة العسكرية لجيوش دول الساحل الأفريقي وتكثيف الوجود الأمريكي في هذا المناطق تحت مظلة مقولات محاربة الإرهاب، وبالتوازي مع ذلك يتم طرح مشروعات استثمارية واقتصادية تخدم ذلك التوجه، والتدخل بصورة مباشرة في مناطق الأزمات، وتحديد سبل التسوية برؤى تقوم على خدمة والحفاظ على المصالح الأمريكية في أفريقيا، في ضوء الاستراتيجية التي أطلقها “جون بولتون” مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي في ديسمبر عام 2018.