بجُمل قصيرة رد ساكن البيت الأبيض الحالي على صحفي تساءل إذا ما كان الرئيس سيتابع محاكمة سلفه العنيد دونالد ترامب. “لا لن أفعل.. مجلس الشيوخ لديه وظيفته.. متأكد من أنه سيتصرف بشكل جيد”؛ قال جو بايدن دون أن يحدد ما إذا كان ينبغي على أعضاء مجلس الشيوخ إدانة ترامب بتهمة التحريض على التمرد أم لا. كما امتنع عن التوصية بإطار زمني للمحاكمة. ولا يظهر حتى أنه قد يتخذ موقفًا مماثلاً لما فعله الرئيس الأسبق جيرالد فورد، حينما أصدر عفوًا عن سلفه نيكسون. مؤكدًا -آنذاك- أنه لن يواجه اتهامات جنائية بارتكاب أخطاء في فضيحة ووترجيت. ذلك بحجة أن البلاد بحاجة إلى تجاوز فترة الانقسام المريرة.

الثلاثاء، بدأت المحاكمة التاريخية الثانية لعزل دونالد ترامب. ذلك بعد شهر من اقتحام حشد من أنصاره مبنى البرلمان. وبينما يسعى الديمقراطيون بشراسة لإسقاط الرئيس السابق تاريخيًا بمحاولة إدانته في أحداث يناير، يضغط الجمهوريون لإنقاذه، ومن ثم لم شمل حزبهم. فيما يفكر بايدن الرئيس فيما هو بعد ترامب وحقبته التي خلفت للسياسة الأمريكية أزمات كبرى.

بايدن واجتماع العشرة.. جو يستغل الحزمة للتقارب السياسي مع الجمهوريين

في مسألة ترامب، ينقسم مجلس الشيوخ الأمريكي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بـ 50 عضوًا لكل منهما. وهو أمر يفرض على الديمقراطيين طلب دعم 17 جمهوريًا على الأقل لإدانة ترامب خلال محاكمته المتوقع أن تتواصل لأيام. وفي مسألة السياسة بعيدًا عن دونالد العنيد يسعى الديمقراطيون لتمرير حزمة تحفيز اقتصادية بقيمة 1.9 تريليون دولار بدلاً من الحزمة الجمهورية المقترحة بـ600 مليار دولار.

هذا الاتساع في الفجوة بين الحزمتين، حاول بايدن معالجته بعقد اجتماع مع 10 جمهوريين من أعضاء مجلس الشيوخ. وهو اجتماع لم تكشف تفاصيله كاملة. لكنه حمل مفارقة أخرى. “بايدن كان منخرطًا بشكل كامل في مناقشة سياسية خلال الاجتماع الذي استمر لنحو ساعتين. بينما لم يكن ملتزمًا بجدول الاجتماع حول حزمة الإغاثة الاقتصادية”؛ صرح سيناتور جمهوري حضر الاجتماع، لشبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية. بينما رد الرجل على سؤال لـ”سي إن إن” عما إذا كان بايدن أشار إلى استعداده للتخلي عن الحزمة الاقتصادية المقدرة بـ1.9 تريليون دولار أو تقليلها، فقال: “أعتقد أنه هو نفسه يريد تخفيض قيمتها ويرغب في العمل معنا، لكنني لا أعرف ماذا عن فريقه”.

وصف المشرعون العشرة الاجتماع بأنه “كان وديًا وصريحًا ومفيدًا”. بينما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي، إن هناك مجالات اتفاق. وإنه كان اجتماعًا حول “كيف يجب أن تعمل الديمقراطية” فيما يتعلق بالشراكة بين الحزبين. هذا هو ما يسعى له بايدن طوال الوقت، وفق ما يتبين من سياسته.

بساكي أشارت أيضًا إلى أن هناك بعض “الخطوط الأساسية” التي يريد بايدن أن يناقشها في جولة ثانية بشأن حزمة الإغاثة الاقتصادية. بما في ذلك المدفوعات المباشرة التي تصل إلى الأمريكيين.

الديمقراطيون يريدون حزمتهم الاقتصادية

استعداد بايدن لإدخال تعديلات على الحزمة الاقتصادية مقابل تفاهم سياسي مع الجمهوريين أكده أيضًا زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. لكنه أشار إلى أن هناك فجوة واسعة بين الحزمتين الإغاثيتين.

وقد أصدر أعضاء مجلس الشيوخ العشرة، بيانًا عقب الاجتماع، جاء فيه أنهم سيواصلون التحدث مع إدارة بايدن وغيرهم من أعضاء المجلس “في الأيام المقبلة”. ذلك من أجل التوصل إلى اتفاق على حزمة إنقاذ يوافق عليها الحزبان. فهل يشهد هذا الملف انقسامًا بين بايدن والديمقراطيين. هذا سؤال مفتوح ينتظر إجابة.
بدوره، أفاد البيت الأبيض أن الحزمة التي عرضها الرئيس “صُمّمت بعناية لتكون على مستوى المخاطر في هذه المرحلة ومن شأن أي تغيير فيها أن يحرم البلد من احتياجاته الملّحة”. ويستثني المقترح الجمهوري بحسب خطوطه العريضة، المساعدات للولايات والسلطات المحلية. وهو أمر يصر الديموقراطيون على أنه ضروري في أي حزمة. كذلك تمنح الخطة الجمهورية شيكات تحفيز بقيمة ألف دولار بدلاً من 1400 دولار اقترحها بايدن، وتشدد شروط استحقاقها.
ورد الديموقراطيون عبر الإعلان بأنهم سيمضون في محاولة لتمرير خطة الرئيس في الكونجرس من دون الحاجة لأصوات الجمهوريين. فيما دافع بايدن عن خطته على “تويتر”، فقال: “نواجه أزمة اقتصادية ناجمة عن أزمة صحة عامة ونحتاج إلى تحرّك عاجل لمكافحة الأزمتين. ستنتشلنا خطة الإنقاذ الأميركي التي اقترحتها”.

الجمهوريون يضغطون لإنقاذ ترامب

فيما يتعلق بمحاكمة ترامب، يتوقع شومر، أن يطرح الفريق القانوني لترامب مرة أخرى نظريات المؤامرة حول الانتخابات السابقة. ويقول إنه يأمل أن يرى الجمهوريون في مجلس الشيوخ ذلك ويدركون أنه ليس لديهم أي حجة ضد التهم الموجهة من قبل مديري مجلس النواب”.

هذه الرسالة من شومر ربما لاقت صدى لدى زعيم الجمهوريين بالشيوخ ميتش ماكونيل، الذي قرر أن يهاجم السيناتورة تايلور جرين المعروفة بهوسها بنظريات المؤامرة قبل يوم واحد من اجتماع بايدن والجمهوريين العشرة. وهو أمر فسره الصحفي الأمريكي كريس سيليزا بأنه يحمل رسالة حول رؤية الجمهوريين حاليًا لأزمة ترامب.

ماكونيل لا يفعل شيئًا دون قدر كبير من التفكير. ولا شك أن هناك خطة من هجومه على جرين في مثل هذا التوقيت. كما يرى الصحفي في “سي إن إن”. وهذا كله يبرز أن قطاعًا جمهوريًا مهم يرفض تكرار التجربة الترامبية في أي صورة، وجرين صورة لهذا بترديدها نظريات المؤامرة، وتشجعيها الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين.

وقد دعم ماكونيل صراحة السيناتورة الجمهورية ليز تشيني بعد تصويتها لعزل ترامب. وهي ثالث أبرز شخصية في الحزب الجمهوري. إلا أن هذا لا يعني أيضًا أن الجمهوريين مع قرار محاكمة ترامب. فصحيح أن العديد من الجمهوريين مع ضرورة ضمان عدم ترشح أو تولي ترامب مناصب في المستقبل، لخطورته بأفكاره على الحزب نفسه. لكنهم كذلك لا يدعمون محاكمته بعد عزله ويرون الأمر يخص الحزب ولا يجب أن يتم خارجه.

أوراق ضغط قد تعرقل أحلام بايدن

وسط إجراءات المحاكمة ومناقشات حزم التحفيز وجلسات التصديق على مرشحي بايدن للإدارة الجديدة، لا يزال ماكونيل وشومر يتباحثان بشأن التفاصيل النهائية لاتفاقية تقاسم السلطة. هذه قضية أخرى ذات تأثير حقيقي وورقة ضغط جمهورية جديدة، لأن الديمقراطيون لا يمكنهم رئاسة اللجان حتى يقر مجلس الشيوخ قواعد جديدة لهذا الكونجرس. وإلا فإنهم سيعملون بموجب قواعد الكونجرس الأخير عندما كان لدى الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ الأغلبية ويسيطر على اللجان.

وبينما يتمتع ماكونيل بالنفوذ يحتاج شومر إلى 60 صوتًا للتغلب على أي معطل لدفع اتفاقية تقاسم السلطة. كما أنه بحاجة إلى موافقة بالإجماع لتحديد موعد التصويت.

في موجز قانوني من 80 صفحة عرض مديرو مجلس النواب قضيتهم ضد ترامب قبل المحاكمة التي بدأت الثلاثاء. واتهموا ترامب بإثارة العنف ضد الكونجرس في محاولة لإلغاء التداول السلمي للسلطة. كما قدموا دفاعًا دستوريًا لإجراء محاكمة عزل لرئيس سابق.

وبدورهم، قدم محامو ترامب ردًا من 78 صفحة على ادعاءات مجلس النواب، وذكروا أن مجلس الشيوخ لا يمكنه التصويت على عزل ترامب لأنه لم يعد يشغل منصبه. بالإضافة إلى أن خطاب ترامب حول الانتخابات قبل أعمال الشغب في 6 يناير الماضي محمي بموجب التعديل الأول من الدستور الأمريكي.

لماذا صمت بايدن حينما حارب الديمقراطيون؟

وسط ذلك كله، بقى بايدن صامتًا يفسر هدوءه هذا آخر تصريحات أدلى بها، قال فيها إنه لا يركز على محاكمة سلفه، وإن مجلس الشيوخ لديه وظيفته، وإنه متأكد من أن أعضاء المجلس سيديرون أنفسهم بشكل جيد.

ويليام هاول، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاجو، يقول إن الرئيس له حسابات أخرى غير محاكمة ترامب. وإن سعي بايدن إلى عدم إقحام نفسه في الحديث عن محاكمة ترامب يكمن في كونه يحتاج إلى تكريس كل رأس ماله السياسي وموارده لدفع جميع أنواع أجنداته السياسية.

وهذا يلزمه تهدئة ما مع الجمهوريين، تجعل من الإصرار على مطاردة ترامب أمر غير هام لبايدن مقابل تمرير أجندة قراراته عبر مجلس الشيوخ.

ويرى هاول وينقل عنه موقع “usa today” أنه بالرغم من أن دعوة بايدن لمحاكمة ترامب قد ترضي بعض الأطراف. إلا أنه سيفتح حينها على نفسه باب النقد لأنه سيكون اختار الانخراط في قتال شديد الحزبية على حساب تعهدات حملته.

ويقدم بايدن نفسه على أنه معتدل سيوحد البلاد لمواجهة التحديات الاقتصادية والصحية. إذن فكيف يتورط في محاكمة ترامب؟ هذه محاكمة يضر ببايدن اتخاذ موقف منها قدر إضرار ذلك بخطة القوانين التي يريد تمريرها عبر الكابيتول. وهو أمر يفسر الموقف الحالي لبايدن إزاء المساءلة التي وافق المجلس على دستوريتها أمس. الأمر لا يتوقف عند الثقة في مجلس الشيوخ بقدر ما هو النأي عن أي معرقل للخطوات السياسية الأهم، ومحاولة خلق تقارب ما مع الجمهوريين. فهل يصل التقارب إلى حد عفو رئاسي من بايدن لصالح ترامب؟

كتب – محمد سالم: