لا أستطيع أن أحدد متى أحببت الإذاعة ووقعت في غرام الراديو؟، لو طلبت مني أن أفعل ذلك سيكون ذلك أشبه بأن تسألني: “متى عرفتي أن اسمك هو فاطمة!”.

ربما لأنه وكما أخبرتني أمي رحمها الله، أنني بدأت النوم على صوت الموسيقى منذ ولادتي، ففي إحدى المرات دار حوار حول كوني لا استطيع النوم دون تحريك مؤشر الراديو نحو البرنامج الموسيقي، وأتركه طوال اليوم.

أخبرتني أمي أنها عودتني على ذلك منذ مولدي، ولكم أن تتخيلوا تأثير ذلك علي حتى الآن.

أذكر أنني منذ سنوات طويلة كنت أبيت ليلتي في المستشفى عقب إجراء جراحة لإزالة الزائدة الدودية، عندما علمت بأنه سيتم احتجازي طلبت من أهلي بعض الأشياء للمبيت، ذهبت مع والدي للكشف لا أكثر، لكنني لم أتردد في إجراء الجراحة عندما أخبرني الطبيب بضرورتها. وحدي كنت أدرك مدى تدهور الوضع، الذي تأكد منه الطبيب بنفسه بعد الجراحة، حيث كانت الزائدة على وشك الانفجار، وأذهله توصيفي للألم بدقة فقد كان وضعي سيئًا للغاية ولم يتوقع أحد صحة وصفي في الوقت الذي ذهبت فيه للمستشفى على قدمي.

طلبت من أهلي جهاز الراديو والكاسيت، وبالفعل جاء ما طلبت مع شريط (كاسيت) لفيروز، نعم استمعت للبرنامج الموسيقي ولفيروز، ونمت بعمق بعد الجراحة، لكنني أفقت لأن طبيبًا أطفأ الجهاز، ثم أُصيب بالذهول عندما أفقت من نومي العميق لأنني انتبهت لذلك! ضحكنا وطلبت منه إعادة تشغيل الجهاز.

يشبه ذلك كثيرًا علاقتي بالراديو، فلا يوم في حياتي دونه،

لا يمكن أساسًا أن أتذكر بيتنا دون جهاز الراديو والكاسيت الكبير الذي حملناه معنا حين عدنا من العراق، كان يعمل بلا توقف، جهاز الراديو الخاص بأبي، جهاز الراديو الخاص بي والذي كنت أنام وأنا أضعه على أذني ما سبب لي مشكلة امتدت للأبد.

الراديو هو رفيق رحلتي دون مبالغة، كنت أطلبه كهدية حين يسألني أحد ماذا أطلب، وكنت أشتريه بأول راتب بعد فترة ضنك، في الحقيقة هو لايزال طلبي حتى الآن ولايفارقني حرفيًا؛ لذا فمن العادي جدًا أن أتذكر حوارات العائلة وأحداث يوم أُسري وفي الخلفية “ربات البيوت” و”أبلة فضيلة” صباحًا، “لغتنا الجميلة” و”قال الفيلسوف” مساءً، لا يمكن أن أفصل هوسي بالحكايات الإنسانية والبحث عن حلول للمواقف الصعبة دون أن أتذكر “ماذا تفعل لو كنت مكاني؟”.

لا يمكن أن أنسى “من الجاني”، وبرامج المسابقات، وفوازير ما قبل إفطار رمضان، “ع الناصية” يوم الجمعة، أنا مدينة للإذاعة المصرية بثقافة حقيقية ولغة عربية سليمة، مدينة لها بذوق موسيقي راقي أفتقده الآن وأنا أحاول تعليمه لأبنائي.

نحن الذين تربينا على إذاعة أم كلثوم، نسمعها مرتين في الخامسة عصرًا ثم التاسعة مساءً، بعدها يغني عبدالوهاب، ثم وردة، نجاة، عبدالحليم، فايزة أحمد، كل هؤلاء يوميًا في عدد محدود من الساعات، فما بالكم ببقية اليوم!

أندهش كثيرًا من شعوري حين أسمع “كلمتين وبس” بصوت الفنان فؤاد المهندس، يبدو أن الزمن لا يؤثر في المشاعر الحقيقية، لذا فأنا منحازة تمامًا للإذاعة المصرية، وأحب الراديو كثيرًا، أحب المساحة التي يحتلها في فضاء حياتنا، الراديو لا يمكن استبداله، حضور لطيف ونفوذ ممتد، ولنا في إذاعة “صوت العرب” أبرز دليل، أما إذاعة “البرنامج الأوروبي” فهي وجبة متنوعة فريدة وممتدة التأثير لأكثر مما يعتقد الرائي.

ربما لا يعرف الجيل الحالي مدى المتعة التي كنا نشعر بها حين ننتظر بث أغنية معينة كإشارة أو علامة للتفاؤل بالنجاح ربما أو بقرب مقابلة الحبيب، وهذا ليس بالتأكيد حنين إلى الماضي بغرض الاستغراق، هو اعتداد به وامتنان له ومحبة كبيرة نرسلها للإذاعة في يوم عيدها.