“أصحاب الجلابيب أفخر بصحبتهم.. فهم أبهروا العالم باكتشافاتهم”؛ هذا ما يعتقده وزير السياحة والآثار الدكتور خالد العناني، حيث أبدى إعجابه الشديد وتقديره لعمال الكشف عن الآثار، في كلمته الأخيرة أمام مجلس النواب يوم 4 فبراير الجاري. مستندا إلى حديث مديرة منظمة اليونسكو التي أثنت بشدة على التغييرات وعمليات التطوير التي طرأت على الآثار المصرية خلال الفترة الماضية بفضل العمالة المصرية.

إشادة وزير الآثار هذه بـ “أصحاب الجلابيب” جاءت تزامنًا مع اتهامات طالت مؤخرًا العاملين في مجال ترميم الآثار. ذلك بعد ما تم الكشف عنه من حالات ترميم خاطئة لعدد من التماثيل الشهيرة. كان أشهرها ما وقع لذقن الملك “توت غنخ آمون” ومعبد الكرنك. وهو أمر يطرح تساؤلات عدة حول إشادة الوزير الذي لم يتطرق إلى الأخطاء -الكوارث في بعض الأحيان- التي طرأت على الترميم المصري للآثار المصرية وأثرت سلبًا على سمعة العاملين بهذا المجال. وذلك ليس ببعيد عما تلعبه شركات المقالاوت -مقاولو الباطن- من دور سلبي في إهدار قيمة الآثار المصرية.

كوارث الترميم المصري للآثار

رغم كون مصر واحدة من أكثر دول العالم امتلاكًا للقطع والتماثيل. إلا أنه لا تكاد تمر فترة دون توجيه الاتهامات والانتقادات لمرممي الآثار المصرية. ذلك بسبب حجم الأخطاء التي تُرتكب والطرق البدائية غير العلمية التي يتم اتباعها في الترميم وإصلاح المشكلات الموجودة في المعابد والتماثيل. من حيث استخدام الأسمنت والطوب الأحمر والجير في ترميم المعابد. وكذلك إهمال عدد من الآثار وسوء استخدامها.

ميثاق فينيسيا الصادر سنة 1964 حدد بعض الضوابط الخاصة بعمليات الترميم. منها أن التدخل يجب أن يكون في أضيق الحدود. وفي حال وجود جزء ناقص يُترك على حاله دون تدخل. وإلا فقد كان من باب أولى أن نستكمل نقوش المعابد والأعمدة الأثرية.

عدد من خبراء الآثار أكدوا، لـ “مصر 360″، أن كوارث ترميم الآثار تبدأ من مخالفات المقاييس الخاصة بواجهات المعابد والتماثيل. خاصة ذات التفاصيل الدقيقة. وكذلك مخالفة الأصول الفنية والأثرية والمعمارية لنوع ولون الحجر الأثري.

الخبراء أضافوا أن عددا من المعابد الأثرية شهدت أخطاءً جسيمة في استخدم الحجر الأزرق بدلاً عن الحجر الأحمر الأثري. وأن بعض المسؤولين عن عمليات الترميم  يستسهلون استبدال الأحجار الأثرية بأخرى حديثة، وفي ذلك مخالفة للأصول الفنية، فالثابت عند الترميم هو استخدام نفس المادة ودرجة اللون ونوع الحجر الأصلي، لكن ذلك لا تتم مراعاته عند الترميم.

أحد صور الكوارث الترميمية ما تم الكشف عنه من فشل إدارة الترميم في إصلاح أحد أهم الأهرامات وأقدمها في مصر؛ هرم زوسر. فبحسب تقرير لمنظمة اليونسكو، هناك أخطاء بترميم الهرم في الأوجه الخارجية، وكذلك بعض المخالفات الفنية كاستخدام الحجر الجيري.

مخالفة الضوابط العلمية والتعدي على حرمة الآثار

يؤكد أستاذ ترميم الآثار بجامعة القاهرة، الدكتور محمد عبدالهادي، أن جزءًا كبيرًا من عمليات ترميم الآثار في مصر تفتقر إلى الأساس والضوابط العلمية الواجب توافرها في مُرممي الآثار. ما قد يصل في بعض الحالات إلى محو الصفة الأثرية للمعابد أو التماثيل أو غيرها.

ويشدد أستاذ الترميم، في تصريحاته لـ”مصر 360″، على بعض الضوابط الواجب اتباعها، ومنها: عدم جواز استخدام أدوات التكسير والآلات الحديدية أثناء الترميم. فقد يتم تشويه أجزاء كبيرة من الأثر بسبب الآلات التي لا يتم الاعتماد عليها دوليًا. وهذا فضلاً عن أن المواد المستخدمة في الترميم لابد أن تكون من “المونة الأثرية” المُعترف بها دوليًا. وهي خليط من “الرمال والجير والمياه” فقط. بالإضافة إلى وضع ألوان تشبه لون الأثر على الطبقة الخارجية، وليست مادة الأسمنت الذي تم منعه في التسعينيات.

ويشير عبدالهادي أيضًا إلى بعض المراحل الواجب اتباعها قبل التعامل مع الأثر. ومنها إجراء بعض التحاليل والفحوصات وتوثيق حالته الأثر قبل وخلال وبعد الانتهاء من الترميم. إضافة إلى ضرورة التعامل الآثار على أساس إصلاح التالف منها، وليس على أساس تجديدها، ويوضح أن بعض تلك الضوابط لا يتم الاعتداد بها أثناء الترميم، ومن ثم خروج المظهر الأثري بكم الأخطاء التي تظهر كل فترة.

سلسلة من الأخطاء لا تنتهي وانتهاكات لحرمة الآثار المصرية والنيل من سمعتها حول العالم، سواء من ترميمها بشكل خاطئ أهدى إلى تحطم بعضها، وتشوه البعض الآخر، بداية من دقن الملك “توت عنخ آمون” ومرورًا بتشويه هرم سقارة ونهاية بعدد من المعابد الأثرية المصرية.

ذقن توت وقدمه

ترميم ذقن قناع الملك “توت غنخ آمون” بعد كسره كان أحد أشكال الترميم الذي انتهك حرمة الأثر. إذ تم لصق الذقن الأثري بمادة “الإيبوكسي”. وعند محاولة إدارة الترميم لمعالجة التشويه استخدم “مشرط” سبب خدوشًا جديدة بالأثر.

حينها، خرجت الإدارة المركزية للصيانة والترميم بوزارة الآثار لتؤكد على أن قناع الملك سليم بنسبة 100%. وأن الذقن لم يكسر وكان يركب قديمًا عند صناعة القناع بـ”كاويلة”، على طريقة العاشق والمعشوق. وبالتالي لم يكن جزءًا أصيلاً من القناع كي يكسر منه، وأنه خضع للترميم من قبل.

ولم يكن ذلك أخر ما تعرض له الملك الشاب بعد آلاف السنين من سكونه، إذ شهد تمثاله في معبد الكرنك صورة جديدة من التشويه وصلت السخرية منها إلى مواقع التواصل التي تداول روادها صورًا لقدم أسمنتية تم تركيبها بديلة للقدم الأصلية المكسورة.

تحطيم سيتي الأول

الأمر لم ينته داخل معبد الكرنك، إذ تم تداول صور أخرى لتدمير تمثال سيتي الأول بالمعبد جراء الترميم الخاطئ. الأمر الذي أشعل موجة انتقادات لإدارة الترميم المسؤولة عن الآثار المصرية. وقد تحطم تمثال “سيتي الأول” باستخدام الإزميل والشاكوس لمعالجة شرخ في القدمين ما نتج عنه تحطم القدم إلى عدة قطع. وعلقت الوزارة على ذلك -آنذاك- بأنه “سلوك أعمى”.

إهانة زوسر وحورس

الوضع لم يختلف كثيرًا في التعامل مع هرم زوسر. خاصة بعد الكشف عن فشل إدارة الترميم في إصلاح الأثر المصنف كأحد أهم الأهرامات وأقدمها في مصر. وبحسب تقرير لمنظمة اليونسكو، فإن هناك أخطاء بترميم الهرم في الأوجه الخارجية للهرم التي تعاني من انعدام صيانة. بالإضافة إلى بعض المخالفات الفنية كاستخدام الحجر الجيري في سد الفتحات التي ظهرت في الهرم.

كما لم ينجو معبد الإله حورس بإدفو من أيدي مُرممي الآثار. حيث خضع المعبد لترميم بالأسمنت والجير وبعض الخامات غير المطابقة لمواصفات الترميم. وبعد تهدم بعض أعمدة المعبد وأحجاره تم ترميمه باستخدام الأسمنت والمحارة من الخارج، فأصبح مبنى خرساني لا يمت للمباني الأثرية بصلة.

تمثال رمسيس بمعبد الأقصر

منتصف 2019، سادت حالة من الغضب بين الأثريين بسبب أعمال ترميم تمثال رمسيس الثاني أمام معبد الأقصر. وكانت انتهت بقرار من الآثار بإعادة تفكيك التمثال وترميمه من جديد. ذلك بعد أن كشفت صور له استخدام دعامات الحديد في عملية الترميم.

صور أعمال التفكيك تكشف تكسير الخرسانة التي تمثل نحو 70% من الأثر. ما يخالف المواثيق الدولية. حينها أكد مرمّمو المعبد أن ما يجري هو محاولة “تدارك خطأ” بعد الهجوم الذي تعرضوا له بسبب أخطاء جوهرية في التنفيذ.

الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الدكتور مصطفى وزيري، قال آنذاك في بيان، إن التمثال تم إخضاعه لأعمال ترميم دقيقة بعد أن كانت قطعه تتناثر في معبد الأقصر، وتزن 60 طنًا، وقد جرى جمعها وترميمها وإعادة تركيبها مجددًا.

وزيري -بصفته مسؤولاً- نفى وجود أخطاء في اختيار موقع التمثال، وأخرى في الترميم أدت لوضع ستار فوقه. وذلك عكس ما أثير حينها بشأن تكسير التمثال.

الكارثة تبدأ عن مقاولي الترميم

برزت مشاكل ترميم الآثار في مصر بشكل واضح خلال العقدين الأخيرين بعدما أُسند لبعض شركات المقاولات ترميم عدد من المناطق الأثرية. ذلك بالمخالفة للضوابط والقواعد الدولية المتعارف عليها في هذه العمليات الدقيقة. ويصل الأمر حد أن شركات المقالاوت الكبرى تُسند هي الأخرى بعض الأعمال لمقاولين من الباطن لتنفيذ جزء من مهام الترميم. ما يوصل عملية الترميم إلى الوضع الكارثي الذي تظهره بعض النماذج سالفة الذكر.

يقول مفتش الآثار بالقلعة، محمد عباس، إن شركات المقاولات تسببت في خسائر آثرية كبيرة. ذلك بسبب بدائية الأعمال التي تُنفذها، ومن ثم عدم القدرة على استعادة أثرية تلك القطع التي لا تحظى في الأخير بقبول السائح الأجنبي المتردد على منطقة الأثر.

ويضيف عباس، لـ”مصر 360″، أن بعض المقاولين حطموا الأحجار الأثرية واستبدلوها بأخرى حديثة. مع عدم مراعاة المواصفات الفنية في تركيبها. ما أفقد المعابد أثريتها. في حين لجأ البعض الآخر لاستخدام “مونة” أسمنت في الترميم. الأمر الذي نتج عنه ثقوبًا وهدم أجزاء كبيرة من واجهات المعابد، ومعبد الأقصر شاهد على ذلك، على حد قوله.

من جانبها، مصادر مسؤولة بوزارة الآثار شددت على أن الأزمة التي يعاني منها القطاع فيما يتعلق بعمليات الترميم، تبدأ من التعاون مع شركات المقاولات؛  السبب الرئيسي وراء إهدار الموازنات الاستثمارية للقطاع. وأوضحت المصادر أن “المشروعات الأثرية التي تم إسنادها إلى شركات المقاولات لم تخلو من الأخطاء والمخالفات المالية حتى أن غالبية تلك المشروعات تمت إحالتها إلى النيابة للتحقيق”.

سرعة الإنجاز على حساب الآثار

“عبدالعظيم. م” صاحب شركة مقاولات، أكد لـ “مصر 360″، أن عمليات ترميم المناطق الأثرية يتم إسناد غالبيتها إلى المقاولين للإسراع في إنجاز أعمالها. لكن أشار إلى أن غالبية هذه الأعمال تفتقد إلى الكفاءة المطلوبة. “المقاولين متعودين يشتغلوا في المباني العادية عشان كده الشركات بتعتمد على أدوات تقليدية في ترميم الآثار فتحصل الكارثة”.

ويحتاج ترميم الأثر بشكل علمي إلى مرحلة الدراسة قد تستغرق وقت طويل من المراقبة وملاحظة التأثيرات المميزة التي أدت إلى تدهوره، ليصبح لدينا تصور كامل لطريقة علاج وترميم المنشأ.

مع ذلك لا يتفق “عبدالعظيم” مع ضرورة إبعاد شركات المقاولات عن عمليات الترميم الأثرية. لكنه يقترح إسنادها إلى كبريات الشركات ممن لها سابقة أعمال جيدة في هذا المجال. على أن تكون الأعمال المسندة إليها محدودة، وتحت إشراف لجان مختصة من وزارة الآثار. سواء كانت تلك الأعمال ترتبط بالترميم أو معالجة التربة أو حقن الحوائط والأساسات والصيانة.

معاناة خريجي الآثار

يعاني الدارسون للترميم في مصر خلال الحقبة الراهنة كثيرًا، وتبدأ هذه المعاناة من كليات الآثار التي تفتقر لمعامل التدريب المؤهلة، كما توضح أخصائية الترميم عزة محمد. تقول عزة إن غياب التدريب العملي للطلاب بالأماكن الأثرية والالتزام بالدراسة النظرية أفقد خريجو كليات الآثار في مصر الكفاءة اللازمة للتعامل مع مشروعات ترميم الآثار. “الطلاب أول مرة يشوفوا آثار بعد التخرج ولم يتعاملوا مع قطع مشابهة خلال الدراسة.. فازاي هيتعاملوا معاها ويبقى عندهم الإحساس بأهميتها ودقة التفاصيل الموجودة بها”؛ تضيف لـ”مصر 360”.

تطالب “عزة” بحتمية عقد دورات تدريبية لطلاب الآثار في حضور ممثلي البعثات الأجنبية بمصر، حلاً أوليًا تتحقق معه أقصى استفادة لهؤلاء الطلاب. ومن ثم إكسابهم المهارات مؤهلة للعمل بالسوق المصرية.

البعثات الأجنبية

كانت البعثات الأجنبية تتوافد على مصر بشكل دوري حتى بداية الألفية الحالية. لكن مع تزايد عدد شركات المقاولات التي دخلت مجال ترميم الآثار تضاءل تواجد هذه البعثات. وأثر ذلك على مستوى جودة وكفاءة الآثار التي تخضع للترميم، كما تشير مصادر مسئولة بالآثار لـ “مصر 360”.

وترى المصادر أن التكلفة الباهظة التي تتحملها وزارة الآثار على البعثات الأجنبية لم تعد تتحملها خزينة الوزارة. لذا فقد لجأت لزيادة الاعتماد على الكفاءات المصرية وكبريات شركات المقاولات في عمليات الترميم. هذا أمر جعل الاعتماد على البعثات الأجنبية مقتصرًا على ترميم آثار مُعينة ذات أهمية تاريخية كبرى،

للبعثات الأجنبية ميزات تفتقر إليها مثيلتها في مصر، إذ أن هذه الوفود تعتمد خاماتذات مواصفات عالية ولا تعترف بالخامات المصرية. كما أنها تعمل وفق وسائل أمان، وأسلوب محافظة على الأثر لا تجديده. وذلك بشكل علمي دقيق يستعين بمعامل الترميم وتحليل الأثر وتوثيقه قبل بدء العمل. وهو أمر تفتقر إليه بعثات الترميم المصرية.

آثار مصر غير المسجلة

لدينا أيضًا أزمة أخرى فيما يتعلق بتوثيق الآثار. فمصر وإن كانت بالفعل من أكثر الدول التي تمتلك تاريخًا أثريًا لا يزال حاضرًا رغم مرور آلاف السنوات. إلا أن آثارها التي تتجاوز -وفق بعض الآراء- ثلث آثار العالم لن تجدًا لأغلبها ذكرًا في أي وثائق تاريخية. بل على العكس 7 مواقع مصرية فقط هي المسجلة بقائمة التراث العالمي لليونسكو. وهي: منطقة الأهرام من الجيزة إلى دهشور – القاهرة الإسلامية – مدينة طيبة القديمة ومقبرتها – معالم النوبة من أبو سمبل إلى فيلة – مدينة أبو مينا – منطقة القديسة كاترين – وادي الحيتان.

في أكتوبر 2018، قال وزير الآثار الأسبق، الدكتور زاهي حواس، إن مدينة الأقصر لا تحتوي على ثُلث آثار العالم كما هو شائع. لكن بها أهم هذه الآثار على الإطلاق. وأضاف حواس، في حوار مع برنامج “الحياة اليوم”، أن الصين بها آثار أكثر من مصر 10 مرات. بينما تبقى الأهمية في قيمة آثار مصر واكتشافاتها التاريخية. كما تطرق إلى أن لمصر كثير من الآثار التي سرقت وتم تهريبها تحديدًا في يناير 2011.

وقد خرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) لتكشف حقيقة الأمر. وتوضح أن بياناتها حول الآثار المتواجدة بالعالم تذكر أنّ مصر تمتلك 6 مواقع أثرية تاريخية وموقع واحد طبيعي بخلاف العديد من البلدان الأوروبية والآسيوية. إذ أن إيطاليا على سبيل المثال تمتلك 44 موقعًا تاريخيًا و3 مواقع طبيعية. بينما تمتلك إسبانيا 39 موقعًا تاريخيًا و3 مواقع طبيعية وموقعان مختلطان. فيما تمتلك الصين 30 موقعًا تاريخيًا و9 مواقع طبيعية و4 مواقع مختلطة.

كتب – محمود السنهوري: