أقل من شهر واحد ذلك الذي فصل ما بين قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تصنيف جماعة الحوثيين في اليمن كجماعة إرهابية، ثم قرار الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن رفع الجماعة من قائمة الإرهاب، ووقف المساعدات الأمريكية للسعودية في حربها ضد الحوثيين، وتجميد مبيعات الأسلحة إلى السعودية والإمارات. تغيير السياسة الأمريكية من النقيض إلى النقيض وفقا لحسابات ساكن البيت الأبيض هي أمر وارد، لكن هل تغيرت سياسة واشنطن بالفعل؟
في تغريدة له على تويتر، وصف بايدن الحرب في اليمن بأنها كارثة إنسانية لابد أن تتوقف، قائلا إن الحصار المفروض على الحوثيين يعاقب الملايين من اليمنيين الجوعى أكثر مما يفعل مع المتمردين.
أكثر من 80% من اليمنيين يعيشون في مناطق يسيطر عليها الحوثيون، ويهدد الحصار المفروض على هذه المناطق بمجاعة وشيكة، تصفها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم منذ عقود.
لكن هل الدوافع الإنسانية وحدها هي ما تحرك صناعة القرار في البيت الأبيض؟
يتساءل الكاتب اليمني عبد الكريم الأنسي، المدير التنفيذي لمنظمة اليمن أولا،: لماذا تنجح المنظمات الإنسانية في إيصال مساعداتها إلى مناطق نفوذ حزب الله والقاعدة وداعش، المصنفين جميعا كجماعات إرهابية، بينما ينتظر العالم موافقة الحوثيين لإدخال مساعداته إلى اليمن؟ ولماذا تتجاهل الولايات المتحدة تصريحات المسؤولين، اليمنيين والأمميين على حد سواء، والتي تؤكد أن الحوثيين ينهبون المساعدات الإغاثية المقدمة للمدنيين، ويتم توزيعها على المقاتلين التابعين لهم، أوبيعها في السوق السوداء؟
في الوقت نفسه، يؤكد الأنسي أن الحوثيين لم يعودوا الجهة المسلحة الوحيدة في اليمن، فهناك القوات الانفصالية في الجنوب، وهناك الميليشيات الخاضعة لسلطة طارق صالح، ابن شقيق علي عبد الله صالح، وهناك أكثر من 30 جبهة قتال مسلح وانقسامات عميقة الجذور تشهدها اليمن، وبالتالي فقد كان من الأولى بالولايات المتحدة أن ترعى نهجا شاملا لإنهاء هذا الصراع، إذا كانت الاعتبارات الإنسانية في حساباتها بالفعل.
وتابع الأنسي أن قرارا كرفع جماعة ما من قائمة الإرهاب هو قرار مؤسسي ينبغي أن يمر عبر وزاتي العدل والمالية، فكيف يمكن لرئيس يزعم سعيه لتعزيز الديمقراطية في الولايات المتحدة أن يقدم على قرار كهذا بشكل منفرد، ومن دون تقديم أي دليل لمؤسسات الدولة على أن هذه الجماعة لم تعد إرهابية؟
وسائل الإعلام الأمريكية بدورها لم تخف دهشتها من قرار بايدن وتوقيته، جريدة النيويورك تايمز كتبت أن القرار ربما كان مبررا في عام 2016 عندما قصفت الطائرات السعودية بقنابل أمريكية الصنع جنازة في العاصمة اليمنية صنعاء مما أسفر عن أكثر من 140 قتيلا. أو ربما في عام 2018 بعد أن ضربت طائرة سعودية حافلة مدرسية يمنية بقنبلة أمريكية الصنع ، مخلفة ورائها 44 قتيلا من الأطفال. لكن القرار جاء في وقت تشن فيه جماعة الحوثي هجوم عنيف على محافظة مأرب، آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليا في شمال اليمن، بينما يطلق الحوثيون الصواريخ يوميا على المدنيين في السعودية، ويهتفون في كل يوم “الموت لأمريكا”.
أما عن تحذيرات الأمم المتحدة من أسوأ أزمة إنسانية يشهدها البلد العربي الأفقر فهي تجوب وسائل الإعلام منذ سنوات، ولم تختلف حدتها خلال الشهر الماضي، وهي الفترة التي تم فيها تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية. فلماذا هذا القرار الآن؟
أكدت الصحيفة أن القرار الأمريكي، وإن كان له دوافع إنسانية، فقد تأخر لسنوات، إلى الدرجة التي لن يكون له معها تأثير يذكر، فدول الخليج لديها بالفعل الكثير من الأسلحة، الأمر الذي لن يتم معه تعليق العمليات العسكرية في الوقت القريب.
إذا، فالاحتمالات الأرجح تشير إلى أننا أمام “قرار رمزي” يخفي من الدوافع أكثر مما يعلن.
ربما هذه هي طريقة بايدن في الانتقام من سياسات “ترامب” الذي اهتم أكثر بجعل السعودية المشتري الأكبر للأسلحة الأمريكية لمواجهة الحوثيين، إضافة إلى تحويل اليمن إلى جبهة في حملة الضغط على إيران.. أو ربما هي رغبة في استرجاع سياسات باراك أوباما في المصالحة مع جماعات الإسلام السياسي في المنطقة، أو ربما محاولة لمغازلة إيران صاحبة النفوذ الأكبر على الحوثيين الشيعة، خاصة وأن القرار تزامن مع تعيين “روبرت مالي” مبعوثا للولايات المتحدة لدى الجمهورية الإسلامية.
اقرأ أيضا:
بايدن في الشرق الأوسط.. حملات ضغط سعودية ومخاوف من “أوباما جديد” في إيران
وروبرت مالي هو أحد مهندسي الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، ويتهمه صقور اليمين الأمريكي المحافظ بتعاطفه مع النظام الإيراني وعدائه تجاه إسرائيل. وربما لابد أن نشير هنا إلى أن مالي ذو أصول مصرية، فوالده هو الصحفي اليهودي “سيمون مالي”، المولود في مصر من عائلة سورية، حيث عمل في صحيفة “الجمهورية” في عشرينيات القرن الماضي، وكان من المدافعين النشطين عن قضايا العالم الثالث في مواجهة قوى الاحتلال الأجنبية.
في تغريدة له، كتب السناتور الجمهوري توم كوتون أن “المسؤولين في إيران لن يصدقوا مدى حسن حظهم بتعيين مالي”.
وفي أفضل الأحوال، فإن مالي”قد يكون “جزرة” بايدن في تحريك الدبلوماسية مع إيران، لكن صحيفة “إسرائيل هيوم” بادرت بالهجوم والتشكيك، وقالت صراحة إن بايدن يتجاهل مخاوف شركائه في الشرق الأوسط ، محذرة من نية واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وأكدت الصحيفة أن الجمهورية الإسلامية خطت بالفعل خطوات واسعة في برنامجها النووي بعد عام 2015، وأنها لا يمكن أن تعود إلى الوراء. ونقلت الصحيفة عن السيناتور الجمهوري “تيد كروز” قوله “أن سياسة بايدن تجاه إيران هي تهديد وجودي لإسرائيل”.
وصدق أو لا تصدق.. دعت الصحيفة الإسرائيلية إلى توحيد الصف بين إسرائيل وحلفائها الجدد من الدول العربية في مواجهة سياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه إيران، العدو المشترك.
لكن من جهة أخرى، فهناك قرار أمريكي بتجميد صفقة بيع طائرات إف 35 إلى الإمارات، وهي الصفقة التي وافق عليها ترامب في مقابل موافقة الإمارات على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. الإمارات بموجب هذه الصفقة كان من المفترض أن تصبح أول دولة عربية تحصل على هذا النوع من المقاتلات، وثاني دولة شرق أوسطية بعد إسرائيل.
لكن ترامب أعطى باليمين، وبايدن أخذ باليسار، وبقي اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل رغم أنف كل معترض.
وزارة الخارجية الأمريكية ترحب باتفاقات التطبيع التي انتزعها ترامب من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، لكنها تشير إلى أنها ستنظر في الالتزامات التي قطعتها واشنطن لانتزاع هذه الاتفاقات. الخارجية الأمريكية أيضا تعلن صراحة أن الحوثيين مسئولون عن الهجمات التي تستهدف السعودية بدعم إيراني، وأن قادة الحوثيين سيظلون مصنفين كإرهابيين، ولا تعتزم واشنطن تخفيف الضغط عنهم.
وتلفت نيويرك تايمز إلى أن قرار وقف تسليح السعودية والإمارات هو مجرد “تجميد ومراجعة” وليس إلغاء. وتؤكد أن الكثير لا يزال غير واضح بشأن هذا القرار. فلا تفاصيل عن الأسلحة والذخائر التي سيتم وقفها، وتلك الأخرى التي ستعتبرها الولايات المتحدة حيوية للدفاع عن أمن السعودية، خاصة مع تأكيد الخارجية الأمريكية التزامها بالاستمرار في مساعدة المملكة في الدفاع عن نفسها.
إنها إذا سياسة السير على الحبل الرفيع، للموازنة بين استعادة صورة الولايات المتحدة الخارجية التي شوهها ترامب، والحفاظ على علاقاتها الإقليمية باللاعبين الأساسيين في المنطقة، مع الميل نحو إجراء تسوية متوازنة مع إيران، والظهور بمظهر الحكيم الذي يحاول إصلاح ما أفسده الحمقى. أما حديث المكاسب فيبدو حديث غير ذي قيمة مع بلد يجلس في أقصى غرب الكوكب، ويحرك بخيوط مصائر الشعوب البعيدة.. يبدل أوراق اللعب لا أكثر، لكنه لا يخسر أبدا.