انطلقت الإذاعة عام 1920 قبل أن تظهر عيوب ومشكلات التشغيل لتبدأ مرحلة من تحسين طرق البث والاستقبال، ومن أبرز رموز هذه المرحلة الأمريكي “إدوين أرمسترونج”.
ولد “أرمسترونج” في نيويورك 18 ديسمبر عام 1890م لأب ناشر وأم معلمة، وظهر عليه منذ صغره الشغف بالأجهزة والأدوات الميكانيكية والكهربية، وفي 14 من عمره قرر أن تكون الاتصالات اللاسلكية مهنته.
من هو إدوين أرمسترونج؟
ومثل غيره من عشاق الراديو -آنذاك- صمم بيديه دوائر كهربية خاصة بهدف إلتقاط إشارات تلغراف “موريس” الغامضة والبعيدة.
التحق بجامعة كولومبيا وفي عام 1912م نجح في تحسين كفاءة أنبوب “أوديون” المفرغة أو “الصمام الثنائي المفرغ” الذي اخترعه لي دي فورست قبل سنوات.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان لا يزال طالبًا في عامه الأول بجامعة كولومبيا، أنجز أول مخترعاته دائرة التكبير -أو التغذية المرتدة- (Feedback Circuit)، والتي أتاحت تكبير الإشارات لمئات المرات، ومن ثم سمحت بالاستغناء عن سماعات الأذن التي كانت تستخدم لالتقاط الإشارات الواردة عبر الأطلنطي، وحسنت من جودة وحساسية أجهزة الاستقبال اللاسلكية.
أرمسترونج والحرب العالمية الثانية
أثناء الحرب، كان مجندًا في الجيش الأمريكي، طلب منه سلاح الإشارة أن يجد طريقة لاعتراض إشارات الجيش الألماني التي كانت تبث بترددات أعلى من قدرة أجهزة الاستقبال المتاحة لدى الحلفاء، ونجح في اختراع دائرة التكبير الفائق (super-heterodyne) وابتكار المستقبلات الفائقة.
كان ديفيد سارنوف، الذي أصبح لاحقًا مديرًا لمؤسسة الراديو الأمريكية، أحد الذين حضروا عرض أرمسترونج لابتكاره الجديد، بعدها أصبح الرجلين صديقين.
وصعد اسم أرمسترونج كمخترع، بينما صعد سارنوف في سلم البيزنس والإدارة، حتى وصل إلى رئاسة مؤسسة الراديو الأمريكية.
في يوم من أيام عام 1922م أعلن سارنوف لأرمسترونج شعوره بالإحباط بسبب مشكلة “التداخل الاستاتيكي” بين الأجهزة وبين البث الإذاعي، وأعرب عن أمله في أن يأتي أحد ما يوما بـ”صندوق أسود” للقضاء على هذه المشكلة.
ترددات الـ”AM”.. أرمسترونج ينجح مجددًا
كانت إشارات الراديو تنقل عبر تقنية التضمين أو التشكيل السعوي (AM) التي تعتمد على تغيير سعات موجات الرديو، وتوفر هذه التقنية إمكانية وصول البث للمناطق البعيدة والنائية. لكن جودة الصوت كانت تتدهور كلما زاد بعد المسافة عن محطات البث.
كان أرمسترونج على علم بالمشكلة، فالكهرباء الساكنة، مثل تلك التي تنشأ عن البرق أو الأجهزة الكهربائية الأخرى، تتداخل مع موجات الإرسال التي تبث بطريقة التحميل السعوي (AM)، وتؤثر سلبًا على جودة البث وكفاءة الصوت ووضوحه.
كان أقصى طموح مهندسي الراديو آنذاك هو الحد من هذا التداخل لتقليل تأثيره، وليس التخلص الكامل منه. وعلى الرغم من اعتقاد البعض بأن “مشكلة التشويش” التي رافقت البث الإذاعي بأنه لا يمكن القضاء عليها، وجد أرمسترونج حلًا نهائيًا لها.
ترددات الـ”FM”
ابتكر أرمسترونج تقنية جديدة للبث تقوم على تغيير الترددات (FM) بدلًا من تغيير سعة الموجات (AM)، وفي عام 1933م حصل على براءة اختراع عن هذه التقنية.
وفي العام التالي أجرى أول اختبار عام وعلني للمقارنة بين البث بتقنية FM مع تقنية AM من فوق مبنى “إمباير ستيت”، يومها أصيب المستمعون بالدهشة عندما لاحظوا الفارق الهائل في جودة الصوت بين نمطي البث.
كان الصوت في حالة FM صافيًا ونقيًا خاليًا من أي شوشرة، وتعتمد هذه الطريقة في البث على تعديل -أو تغيير- تردد الموجات، بدلًا من سعاتها.
واكتشف أن الكهرباء الساكنة لا تتداخل مع هذا النمط الجديد من البث، ومن ثم لا تؤثر في جودة الإشارة، ويمتاز بث FM بكونه يعمل ضمن حزمة ترددات واسعة.
الأمر الذي يسمح بإعادة إنتاج معظم الأصوات التي تقع ضمن مدى الاستماع للأذن البشرية، وتسمى هذه الخاصية “الدقة العالية”- هاي فاي- وتكتب اختصارًا- HF.
المحكمة تنحاز لـ”لي دو فورست”
كما يتيح إمكانية الإرسال المتزامن ومتعدد الإشارات، ما جعل من تكلفة تشغيل المحطات FM أرخص من تكلفة محطات AM، حيث يمكن لمحطة بقدرة ما أن تخدم منطقة أوسع مما يمكن لمحطة AM لها نفس القدرة أن تغطيها، أو أن تخدم نفس المنطقة بقدرة وطاقة وكلفة أقل.
بالإضافة إلى أن المحطات لا تتداخل، ولا تؤثر على بعضها البعض، ما يسمح بتجاور المحطات جغرافيًا، دون خوف من تأثر جودة الاستقبال، فغالبًا ما نستمع للمحطة الأقوى.
ومن النادر أن نستمع لمحطتين حتى لو كان ترددهما متقاربًا، وهو عكس ما يحدث في نمط بث التضمين السعوي AM.
بدأت أولى المشكلات عندما خسر دعواه القضائية حول براءة اختراع دائرة التكبير، كان “لي دي فورست” حصل على براءة الاختراع نفسها، وباع حقوق استخدامها لشركة “AT&T “، وبدأ نزاع قانوني مرير استمر لأكثر من 20 عامًا، تصدى خلالها للقضية 30 قاضيًا، أصدروا 13 حكمًا ابتدائيًا قبل أن تصل القضية إلى المحكمة العليا.
ورغم ثقة المجتمع العلمي في أن أرمسترونج هو المخترع الحقيقي للدائرة، يبدو أن المحكمة لم تفهم التفاصيل الفنية الدقيقة، أو وربما انحازت لأسباب مجهولة ضد أرمسترونج، فحكمت بأحقية “دي فورست” في براءة الاختراع، واسقطت حقوق أرمسترونج.
مرحلة الكساد الكبير
في عام 1934م كان العالم قد سقط في قبضة الكساد الكبير، انتشرت البطالة وأفلست شركات في أوروبا وأمريكا، ودخلت شركات أخرى في صراع شرس من أجل البقاء، لكن صناعة الراديو والبث الإذاعي كانت استثناء من هذا الكساد بفضل ابتكارات أرمسترونج.
ربح مالكو محطات البث أكثر من ملياري دولار، بينما لم يجن أرمسترونج سوى القليل.
قبل الحرب العالمية الثانية بقليل طلب أرمسترونج من هيئة الاتصالات الفيدرالية تخصيص مدى الترددات من 42 إلى 50 ميجاهيرتز من أجل البث الإذاعى بتقنية التشكيل الترددى، وأقام محطة تجريبية وبرجًا للبث بارتفاع 410 قدمًا في ألبين-نيوجيرسي بتكلفة 300 ألف دولار.
وبدأ في تنفيذ شبكة صغيرة من محطات الإف إم عالية الطاقة في نيوإنجلاند وأطلق عليها “شبكة اليانكي”، وبدأ تصنيع أجهزة الاستقبال لالتقاط البث.
شبكة اليانكي
كانت جودة البث مذهلة، بثت المحطات برامجها بأصوات تضمنت مدى واسعًا من الترددات السمعية تراوحت بين 50 هرتز و15 كيلوهيرتز، وكانت الأصوات المسموعة عالية الأمانة (HF) (هاي فاي)، بمعنى أنها تتضمن أوسع مدى ممكن من الترددات مقارنة ببرامج البث بتقنية التشكيل السعوي.
برهن أرمسترونج عمليًا على تفوق طريقة البث الجديدة، وواصل جهوده حتى نجح في تطوير تقنية للبث المزدوج أو ما عرف باسم البث ثنائي القناة، ليظهر للوجود ما عرف باسم صدى الصوت، أو “الصوت ستيريو”.
وتمكن هذه التقنية من بث برنامجين منفصلين ومتزامنين دون صدى، وإرسال رسائل متزامنة عبر الفاكسيميلي والتلغراف في عملية واحدة أطلق عليها الإرسال المتعدد، كما نجح بواسطة هذه التقنية في إرسال إشارة إلى القمر واستقبالها، وهو ما لم يكن ممكنا عبر تقنية البث بالتشكيل السعوي AM.
استثمارات بالمليارات
استقطبت صناعة الرديو استثمارات بمليارات الدولارات، وكان من مصلحة ذوي المال والسلطة والنفوذ أن تمضي الأمور على ما هي عليه، وحجب أية ابتكارات جديدة يمكن أن تهدد أرباحهم الطائلة، وفي ذلك الزمان لم يكن هناك من هو أقوى نفوذًا وأوسع تأثيرًا في عالم الإذاعة من “ديفيد سارنوف” أحد مؤسسي “مؤسسة الراديو الأمريكية” الذي عرف باسم “الجنرال”.
سيطر سارنوف على جميع الجوانب التقنية للإذاعة، فأسس شبكتي تليفزيون ABC وNBC، وساهم بدور بارز في تأسيس اللجنة الوطنية وقواعد ونظم البث التي سارت عليها الشركات في الولايات المتحدة لمدة 60 عامًا تقريبًا.
سارنوف لم يكن مهندسًا ولا عالمًا، لكنه حقق ثروة هائلة من ازدهار سوق الراديو في القرن الماضي.
ديفيد سارنوف
سعى سارنوف لقتل راديو إف إم في مهده وقبل أن ينتشر حتى لا يهدد أرباح شركاته، ونجح بأمواله ونفوذه في الضغط على “لجنة الاتصالات الفيدرالية” حتى تنقل طيف ترددات الإف إم من المدى 42-50 ميجاهرتز، إلى مدى جديد بين 88- 108 ميجاهرتز، وهو المدى الذي لا تزال محطات الإف إم في الولايات المتحدة تستخدمه حتى الآن.
وفي 27 يونيو 1945م قررت لجنة الاتصالات الفيدرالية أن نطاق الترددات 40-50 ميجاهرتز سيخصص لمحطات البث التلفزيوني الجديد آنذاك.
وكان لسارنوف ومؤسسة الراديو الأمريكية التي يمتلكها نصيب الأسد في هذه المحطات التلفزيونية، ورحبت شركة التلغراف والهاتف الأمريكية AT&T بقرار تغيير مدى ترددات البث لمحطات إف إم طمعًا في أرباح بيع المزيد من الأجهزة.
“براءة الاختراع”
بسبب هذه الخطوة، أصبحت شبكة الـ”يانكي” التي أسسها أرمسترونج، وعددًا من المحطات الأخرى، خارج المنافسة تمامًا، لأن إعادة تجهيز المحطات وأجهزة الاستقبال للترددات الجديدة، كانت تحتاج لتكاليف باهظة فوق ما يمكن أن يتحمله أرمسترونج الذي زادت أعباؤه المالية عندما وجد نفسه مضطرًا لمقاضاة شركات كبرى مثل مؤسسة الراديو الأمريكية وشبكة NBC، اللتان اخترقتا قوانين حماية براءات الاختراع، باستخدامهما لتقنية الإف إم دون سداد الحقوق المالية المترتبة على ذلك.
وبحلول عام 1953، كانت فصول المآساة قد اكتملت: ضغوط مالية هائلة، دعاوى قضائية متعددة لم تنصفه فيها المحاكم، تدهور صحته وسوء حالته النفسية، ولم تنصفه المحاكم في قضاياه ضد الشركات التي انتهكت حقوقه.
خرج أرمسترونج من كل هذه المعارك مهزومًا، مفلسًا، ووحيدًا، خصوصًا بعد أن تركته زوجته- التي كانت تعمل سكرتيرة سابقة لديفيد سارنوف!- بعد زواج دام أكثر من 31 عامًا.
صار الرجل حطامًا تقريبًا، وفي آخر ليلة من ليالي يناير الباردة عام 1954م، وصل إلى حافة اليأس، فألقى بنفسه من شرفة شقته الكائنة بالطابق الثالث عشر ليلقى حتفه.
انتحار أرمسترونج
وبعد 13 سنة من وفاته قضت المحاكم لزوجته السابقة بحوالي 10 ملايين دولار تعويضًا عن الأضرار بسبب انتهاك مؤسسة الرديو الأمريكية وشركات أخرى لحقوق حماية براءات اختراع لزوجها الراحل.
مات أرمسترونج معتقدًا أنه فشل، وأن لا مستقبل لراديو الإف إم، فمحطات التلفزيون الجديدة التي أخذت في الانتشار، لدرجة دفعت البعض للقول بانتهاء العصر الذهبي للإذاعة، وبدا لوهلة كما لو أن الراديو في طريقه إلى الزوال، لكن شيئًا من هذا لم يحدث.
محطات الإذاعة بدأت في بث قنوات إف إم، جنبًا إلى جنب مع قنوات إيه إم، وتأكد للجميع ما لهذه التقنية من كفاءة وجودة، وأفضلية، خصوصا في البرامج الموسيقية والغنائية.
بعد وفاته زاد عدد المحطات زيادة هائلة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها توجد أكثر من 2000 محطة إف إم، ولا توجد دولة في العالم الآن لا تستخدم تقنية الإف إم في اتصالاتها، ولا تخلو سيارة في العالم من راديو إف إم.
كذلك تستخدم على نطاق واسع في برامج التتبع بواسطة الموجات القصيرة والاتصالات الفضائية.
لا يهدف هذا المقال- بالطبع- إلى الترويج لفكرة الانتحار، بل إلى لفت الانتباه إلى كيف تمكن تحالف الشركات والإدارات الحكومية والقوانين، من تدمير حياة مخترع عظيم، وتأجيل دخول البث بطريقة إف. إم. للخدمة -لسنوات- حتى لا تتأثر أوضاعهم الاحتكارية وأرباحهم الطائلة.