مضى عامين على ترك “محمد عمر” العمل بالشركة. لكنه لا يزال يتذكر الحادثة التي تسببت في تركه العمل. لقد تعرض للتحرش من أحد زملاء العمل، في تجربة يوصفه بـ”القاسية التي لا يمكن أن تمحى آثارها”.
الأيام الماضية القليلة الماضية لم تخلو من حديث عدد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي عن حوادث مماثلة، إلى جانب شهادات لفتيات تعرضن للتحرش. وقائع مرت عليها سنوات عدة، من تعرضوا لها جاهدوا أنفسهم قبل أن يقرروا البوح بها، وهم على حد السواء هنا نساءً كانوا أو رجالاً. هو أمر يصعب الاعتراف به في مجتمعاتنا حتى وإن كنت أحد الضحايا.
كان “محمد” يعمل محاسبًا لأحد الشركات، حيث جمعته علاقة صداقة بزملاء في العمل، منهم هذا الذي كان يشاركه تناول الإفطار يوميًا، ويذهب للعمل معه في سيارته لقربهما في محيط السكن. “اعتبرته صاحب بجد، وهو مش متجوز، وفي مرة في الكافتيريا بتاعت الشركة، بدأ يتلمسني بشكل غريب. وقتها ما تخيلتش إنه اللي في بالي. وقلت أكيد غصب عنه أو مش واخد باله”.
إنكار التحرش
لم يكن يتصور “محمد” أن يتعرض لفعل تحرش من قبل زميله هذا، إلا عندما تكرر الأمر أكثر من مرة. “الأمر بدأ يتكرر واحنا مروحين أو جايين الشغل أو في أوقات البريك. بدأت أحس إن في حاجة غلط، بس برضه مش قادر أصدق أو اعترف بالأمر”.
تواجه الفتيات ما يمكن وصفه بـ”صدمة التعرض لحوادث التحرش”، وفق ما يؤكد الطبيب النفسي نبيل القط. فالفتاة يصعب عليها التمييز وتحديد الأمر هل هو تحرش أو ملاطفة أو مغازلة، وغيرها من المفاهيم المختلطة اجتماعيًا. أما “محمد” فبمنطق الإنكار والثقة في صديقه لم يكن يستوعب هذا الفعل منه، حتى مع تكرره لأكثر من مرة.
بعد عام من العمل في الشركة وتكرار الفعل من نفس الصديق، قرر “محمد” ترك العمل. “سنة كاملة، والأفعال بتتكرر وأنا مش قادر، لحد مقررت أبعد عنه وأحجم علاقتي بيه، ومروحش معاه الشغل وأبعد عنه في أوقات البريك، لحد مبدأ يلاحقتي في التليفون والرسايل، ووقتها اتأكدت إن اللي بمر بيه ده تحرش، ومكنش قدامي رد فعل غير إني أسيب الشغل، مش هقدر أكمل في البيئة دي، ولا أبص في وش صاحبي تاني”.
التحرش بالرجال.. وصمة عار
سبق أن سجلت وحدة الدراسات الاجتماعية لمركز حماية المجتمع، التابعة للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، في بحث ميداني في القاهرة الكبرى على ألف رجل، نُشر عام 2013، أن نسبة 9% من الرجال تعرضوا لتحرش جنسي من نساء. بل 4% من الرجال الذين أجري عليهم الدراسة اضطروا لإقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج. بناءً على ضغط من سيدات كن معظمهن مديرات أو مالكات لشركات، يعمل بها الرجال.
جاء في البحث أن 23% من عينة الرجال التي خضعت للبحث، أشاروا إلى أن معظم النساء اللواتي تحرشن بهم جنسيًا، كن من المطلقات أو من غير المستقرات في حياتهن الزوجية.
داليا عبد الحميد، مسؤولة برنامج النوع الاجتماعي وحقوق النساء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ترى أن اعتراف الرجل بالتحرش أصعب من اعتراف المرأة في مجتمع ذكوري. إذ يوصم الرجال عند اعترافهم بهذا الأمر، ويعتبر الرجل الأمر جرحًا لصورته. وبسبب عدم وجود حملات لمناهضة التحرش بالرجال كما يحدث مع النساء، يصبح الأمر بمثابة وصمة عار في المجتمع عن اعترافه بهذا الأمر.
اللوم تتعرض له الفتاة عند تعرضها للتحرش بسبب ملابسها، أو وجودها في مكان لوقت متأخر، بينما اللوم الموجه للرجال في وقائع مماثلة يكونون فيها ضحايا هو لوم يمس رجولتهم. “شوف ماشي ازاي، ولا شعرك شكله إيه، واسترجل وانت بتتكلم”، وغيرها من العبارات التي تدفع الرجال لإنكار إعلان تلك الحوادث.
رد فعل مختلف
تعرض “عمر السيد” أيضًا لواقعة تحرش مماثلة لتلك التي عايشها “محمد”. إلا أن ردة فعله كانت مختلفة. يقول “عمر” ويعمل مندوب مبيعات: “في مرة روحت محل ملابس بعرض على صاحبه بضاعتي ومكنش في حد في المحل غير راجل كبير -عرفت بعد كده إنه صاحبه- لما دخلت قالي إنه هيشتري مني، وقالي تعالى جوه نختار، ودخلنا جوه في المحل على أساس إنه هيشتري مني، ولقيته بيقولي أنا ممكن أشتري منك كل اللي معاك وفجأة مد إيده عليا”. حينها عبر “عمر” عن صدمته بأن دفع صاحب المحل وركض إلى خارج المحل حيث علا صوته في وسط الشارع بسب هذا الرجل قبل أن يغادر المنطقة.
“عمر” أيضًا رأى في هذا التصرف انتقاصًا من رجولته. وهو ما يؤكده الدكتور محمد سامي، الطبيب النفسي. فيقول: “في مجتمعنا يشعر الرجل بالفخر حينما يتحرش بفتاة.. هو هنا يحاول إثبات ذكوريته وقوته. بينما على العكس تمامًا يكون شعوره إذا ما تعرض هو للتحرش من رجل مثله. هنا تتأثر رجولته ويتحول في رد الفعل إلى أمر من اثنين؛ إما أن يصدم كما يحدث للمرأة أو يثور ويغضب لإثبات أنه رجل”.
يتعرض الرجال للصدمة إذن، كما يؤكد الطبيب محمد سامي. “منهم اللي بيصاب بتروما زي الستات، ودول بيكونوا محتاجين جلسات تأهيل نفسي زي الستات بالضبط، وده للأسف مش متعارف عليه، والراجل كمان بيرفض ده لأن احنا عندنا ثقافة ذكورية مسيطرة على الكل، وإنه الراجل مينفعش يتأثر أو يتوجع أو يشتكي، وده لازم له حل، لأن في النهاية الراجل زي الست، ولازم يكون في تأهيل للاتنين بعد وقائع التحرش”.
الأسباب والدوافع
الخبيرة النفسية أية جاد ترجع أسباب التحرش لاختفاء الوازع الديني والضغوط النفسية. وتشير إلى أن أسباب انتشار التحرش بالسيدات هي نفسها أسباب التحرش بالرجال. وتتفق في أن الرجال لا يحررون بلاغات تحرش مثلما تفعل السيدات لشعور الرجال بالخجل عند الاعتراف بهذا الأمر. وهو ما يجب تغييره في وسائل الإعلام والبرامج، إذا ما أردنا مواجهة الظاهرة بشكل عام.
ترى الدكتورة هالة حماد استشاري الطب النفسي والعلاقات الأسرية، أن تحرش الرجل بالرجل له أسباب عدة. منها تعرض الشخص لنفس الفعل في الصغر، فنسبة كبيرة من الرجال المتحرشين تعرضوا لنفس الأمر في طفولتهم. ذلك إلى جانب الميول الجنسية الشاذة، التي تدفع الرجل للتحرش ببني جنسه، وفي النهاية يخجل المتحرش به من الاعتراف بهذا الأمر بسبب الاعتبارات المجتمعية التي تضع الرجل في مركز القوة، وتوصمه عند الاعتراف بالتعرض لتلك الواقعة.
تتفق الدكتورة هالة حماد مع جملة أن الرجال يتعرضون لنفس الصدمات التي تتعرض لها السيدات بعد وقائع التحرش. ومنها إنكار الأمر، والهروب منه، وعدم الاعتراف بحدوثه.
العقوبة متساوية
عقوبة التحرش بالرجال هي نفسها التي تطبق على السيدات، لأن القانون يطبق على المتحرش وليس المتحرش به. وينص القانون في المادة 306 على أن عقوبة كل من يتعرض للغير فى مكان عام أو مكان خاص بإيحاءات أو تلميحات يعاقب عليها بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه.
قضية طبيب الأسنان الشهير في منطقة الدقي شمال الجيزة هي الأشهر في هذا النوع من التحرش وقد تصدرت مواقع التواصل والأخبار. ذلك مع انتشار شهادات ضحاياه، وما قررته النيابة العامة من إحالته محبوسًا إلى محكمة الجنايات، بتهم هتك عرض رجال بالقوة والتحرش بهم.
قال المتهم في دفاعه أمام النيابة، إنه يعاني من اضطراب في الميول الجنسية، وأن هذا الاضطراب وإن كان لا يسلبه وعيه وإدراكه فإنه زيَّن له ارتكاب سلوك خاطئ. وأوضح محاميه كمال يونس، أن هناك تراخيًا في تقديم البلاغ. موضحًا أن مقدموا البلاغات وهم 4 رجال لم يقدموا البلاغات منذ سنوات طويلة، واصفًا إياها بـ”الاتهامات الكيدية والملفقة لموكله”.
يشير استطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) والشبكة البحثية “البارومتر العربي” في عشر دول عربية والأراضي الفلسطينية، إلى أن عدد الرجال الذين يقولون إنهم تعرضوا للتحرش الجنسي في الأماكن العامة في العراق يفوق عدد النساء – إذ بلغت النسبة 20% لدى الرجال و17% لدى النساء.
ويشير الاستطلاع أيضًا إلى أن نسبة الرجال العراقيين الذين يقولون إنهم تعرضوا للعنف الأسري تزيد قليلاً عن نسبة النساء. بينما في كل الدول التي شملها الاستطلاع -باستثناء العراق وتونس- تفوق نسبة النساء نسبة الرجال في هذا الشأن. وعلى عكس العراق، فإن الفرق بين النسبتين لا يتعدى واحدًا بالمئة في تونس.