يطل العقل الأوروبي (منشيء الفلسفة) عبر دروب معرفية راسخة، يؤسسها، ويمنهجها فترتد عليه، ليكتشف ذاتًا مغايرة تمامًا. فالإنسان قرد يلعب في الغابة (دارون). بينما (العقل) يعجز عن أن يتعدى حدود الظاهرة ليدخل إلى “الشيء في ذاته” “كانط”. والأرض، موطنه، ليست مركز الكون، بل مجرد ذرة في غباره (الكون) “تاريخ الفيزياء”. وأوروبا ليست أصل الحضارة، والجنس الأبيض لا يختلف عن أي جنس آخر.. إلخ.
فانهيار المركزية الأوروبية كلًا ومفردًا، كان ولابد أن يجعل العقل الأوروبي يعيد النظر، ويتوقف ليبدأ من جديد، عبر تكرار الفكر، في لعبة تتسم بالمخاطرة أحيانًا، وبالتأسيس العقلي (وإن كانت لا تخلو من مغامرة) أحيانًا أخرى، عبر عملية إعادة تشكيل عقلية لأنماط من أنساق تخلو من مركز، وأن يصبح هناك ألفة (دائمًا) مع عبور المستقبل دون الوقوع في شرك “اليقين المطلق”، وإن كان هناك إمكانية للوقوع في شرك”الإرجاء”. ما يعني عدم القدرة على “الحسم”.
اقرأ أيضًا.. أحلام الفلاسفة (1) تعثر البدايات وروعتها
الفلسفة والغوص في عمق الضباب
يقول “كارل ماركس“: “يجب أن نغوص في عمق الضباب لكي نبرهن في الواقع على عدم وجود وحوش خرافية، أو أحاجٍ وألغاز مخيفة” ما يدفعنا للتساؤل حول إعادة قراءة الفلسفة، ونقدها، والحديث عنها، بحيث لا تصبح فعلًا متعاليًا، بل طريقًا لأن نغوص في عمقها، لكي نتحقق من أن الظلمة/الضباب خالية من الوحوش الخرافية، الكائنات المخيفة، والألغاز والأحاجي المريبة، ومن ثم يصبح من الضروري الدخول/الغوص في عمق الفلسفة، وممارسة فعلها الرئيس، وهو فعل “التفكير”.
تعني الفلسفة “محبة الحكمة”، وكما قال “فيثاغورس” ويتفق “هيراقليطس” معه في هذه المقولة ورددها، لا يمكن للإنسان/الفرد أن يصبح حكيمًا، فالحكمة صفة من صفات الآلهة، بينما يمكنه أن يصبح “محبًا للحكمة” -الفلسفة- يستطيع أن يصل إلى فهم العالم وتفسيره، حسب ما يفصح عنه العقل الكلي للعالم (اللوغوس)، فتصبح محبًا للحكمة كلما اقتربت أقوالك من التطابق مع (اللوغوس). ومن ثم تتفق مع الحكمة، وهو الطريق الفردي للوصول إلى الانسجام، ومن ثم السعادة، وهي غاية الإنسان.
الفلسفة والتفلسف والذئب الوحيد
نعم. فعل (التفلسف) فعل فردي، والرؤية التي يطرحها الفيلسوف هي رؤية خاصة جدًا، تعبر عنه، وعن طريقه الذي اختار، من خلال ما يطرحه من مقدمات، ومصادرات عقلية بوصفها مسلمات أساسية. ولكن! وهنا المعضلة، الفيلسوف رغم فردانيته، بل وأحيانًا عزلته، هو “الصوت الجمعي”، هو ممثل العقل/اللوغوس المجتمعي، المعبر عن ثقافته/قيمه التي تتجلى من خلال (صوت فردي) هو الفيلسوف.
هذا الفرد المنعزل عن الجماعة مثل ذئب وحيد، تدفعه غريزته نحو الجماعة، ويدفعه عقله نحو الوحدة، ويبقيه العزلة. فهم العالم وتفسيره، النزوع نحو الحكمة من خلال التأمل العقلي، هو نقطة البدء، نحو هذا الطريق الطويل، والبناء الذي يعلو كل يومن حتى عصرنا الراهن، لتتشكل ماهيتها عبر أجيال من الفلاسفة الغاوون للعزلة، والمعبرون عن الهوية الحمعية في اللحظة ذاتها، وعبر عصور متعاقبة شهدت حياة هذه الذئاب المنفردة.
وفي علم الأفكار مثلما في العلوم عمومًا ترتبط سلامة نظرية ما بسلامة منظومتها الفكرية، وقدرة منطقها الداخلي على ردم أية فجوات معرفية قد تضعف من موقفها، وقدرتها على إزاحة التناقضات الداخلية، من ناحية، وتوافقها مع الواقع عبر إمكانية تشغيل المنظومة وقدرتها على تفسير الأحداث الجارية، من ناحية أخرى.
فنتائج التقاء النظرية بالواقع يعد اختبارًا لمدى فاعلية النظرية وصمودها.
فلسفة “مركزية الأرض”
لطرح مثال عملي يمكن الحديث عن نظرية “مركزية الأرض” والتي استمرت قائمة قرونًا عديدة، وتمكنت من الإجابة عن تساؤلات كثيرة، وظلت صامدة فترة زمنية طويلة، ليس فقط لحمايتها من قبل رجال الدين في العصور الوسطى، بل لتمكنها من التفاعل مع الواقع ومعطيات العلم في عصرها، ولكنها تهاوت رغم استماتة الكنيسة ورجال الكهنوت في الدفاع عنها، عندما توقفت عن تقديم تفسيرات منطقية لظواهر طبيعية تحدث حولنا.
فعندما تتزايد الظواهر الخارجة عن تفسير نظرية ما، وعندما تنفلت أحداثًا خارج المنظومة المعرفية يصبح من الأحرى الحديث عن فشلها عبر تعويضات فكرية تمنح فرصًا لنظرية أخرى للتجلي يمكنها الإجابة عن الأسئلة المعلقة وإدخال كافة الظواهر في تفسيراتها المنطقية.
اقرأ أيضًا.. الطاعة العمياء.. عندما يقتل الإنسان أخيه بلا سبب
لما نتساءل حول كنه العالم وجوهره! لما يعنينا تفسيره، وسبر أغواره! إنها الرغبة الملحة، والتي تكاد تصل لحد الغريزة، في إضفاء معنى ما على الأشياء، لقد كانت بداية الإنسان في مواجهته الصعبة بل والشرسة لعالم تكتنفه القسوة، وتلازمه المخاطر، في لحظة تاريخية يبدو فيها العالم وكأنه حلم يفلت من “التعين”، بطريقة تدعو إلى التوتر، وتضع العقل في قلق دائم، فحين يصل إلى نقطة اليأس، يتعين الحلم بكثافة غامضة، مريبة، فيرتد العقل على ذاته فاحصًا، فتستغلق عليه الأفكار، وتتلألأ الأشياء من جديد، وتعيده الدهشة إلى نقطة البدء، التي تعني في اللحظة نفسها “سيلان الصيرورة”، فالعالم في تغير مستمر، لا يوجد ما هو ثابت، فيبحث الفيلسوف عن لحظة ثبات في خضم السيولة، فلا يجدها سوى في المعنى.
“الطبيعة لم تكن دائمًا أمًا حنون
يتبنى (العقل) آليات تفكير تنتمي لزمن التكوين الأول، عندما كان الإنسان في طوره البدائي. وكان يرغب دائمًا في تثبيت اللحظة الآنية، ويتمنى وضع مشهد ما من الصيرورة في متناول يده، ليتعرف عليه ويدرك مغزاه. وربما نجحت طرائق التفكير هذه في إنتاج معارف متنوعة، تطورت عبر الزمان والمكان كان سعيها الأول هو محاولات للتفاعل مع هذا الواقع الخطر الذي يحيط به.
فالطبيعة لم تكن دائمًا أمًا حنون بل أحيانًا كانت قسوتها ترغمه على فعل اشياء تبدو مستحيلة، مثلما دفعت مخيلته تمتلئ بمخاوف لا حصر لها، فالإنسان البدائي (الذي يتلبسنا أحيانًا)، من خلال نظرته “الحيوية” للطبيعة” يضع نسقًا أوليًا للتواصل مع العالم، عبر إضفائه الحياة على كل مفرداته، حيث يقدم ما هو “مادة” على ما هو “فكر”، وما هو “آني” على ما هو “آت”.
فالوجود يتبدى بكثافة في اللحظة الآنية، دون غيرها من اللحظات. حيث الحضور المادي أكثر كثافة من الحضور الممجرد، وغياب المدلول يجعل التواصل مع العالم أكثر يسرًا من التواصل مع “الذات”. فيرى الإنسان ذاته بوصفه مفردة ضمن مفردات الطبيعة، فيتأسس الوعي بالعالم، وينشغل الإنسان به. وفي هذه اللحظة يصبح الحديث عن العالم فوضويًا، يختلط فيه العلم بالخرافة، والخرافة بالمنطق. وجميع هذه المصطلحات تغلف بغلاف ديني مقدس، وعندها يطرح السؤال نفسه من جديد، وتشتد الأزمة المعرفية، وتختلط الأوراق، ويقف العقل حائرًا لا يلوي على شيء.
“دلالات اللغة”
تصبح اللغة أداة الإنسان في اكتشاف المعنى. فمثلما هي وسيلته في التعبير والتواصل، هي أداته في التفكير. وبدونها يصبح التفكير (كتلة سديمية) على حد قول “سوسير”، لا شكل لها، ولا صورة. وهو ما يعني أن اللغة تصبح شكل الفكر وصورته التي يوجد عليها، بحيث تصبح شرطًا (وجوديًا/أنطولوجيًا) للفكر. وهي في الآن ذاته، فعلاً اجتماعيًا. حيث تحدد (الجماعة) دلالات اللغة، وحول هذه الدلالات يلتقي أفراد الجماعة، وتذهب به بعيدًا عن كونه (كائنًا بيولوجيًا)، وتميّزه عبر ماهيته الأساسية بوصفه (كائنًا مفكرًا) يمتلك القدرة على التفكير.
ومن خلال اللغة التي تتراوح بين كونها منتجًا فرديًا، ومنتجًا جمعيًا في اللحظة ذاتها، يسعى الإنسان عبر الفلسفة إلى إضفاء المعنى على وجوده الخاص والعام، فتتحول اللغة برموزها المتنوعة والمتعددة من كونها أداة ذرائعية (نفعية) للتواصل بين أفراد الجماعة، إلى منظومة عقلية متكاملة الأبعاد، يطرح الفرد عبرها رؤيته (الثقافية) للوجود، ويقدم تفسيرًا للعالم، من خلال رموز تضفي الحياة على الأشياء، والوقائع، فيبدو العالم (إنسانيًا) ذو معنى.