كان للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الرسمية منها وغير الرسمية الفضل الكبير في استمرار الحياة العادية أثناء ثورة يناير عام 2011، والفترات الانتقالية الحرجة التي أعقبتها، في ظل غياب الاقتصاد الحكومي. كما لعبت تلك المشروعات دورًا محوريًا في النزول بمعدلات البطالة والفقر، وإن اختلفت المعايير في بعضها عن السياسات الحكومية.
تكمن أهمية المشروعات المتوسطة والصغيرة في كونها أحد خطوط التماس مع ريادة الأعمال في أغلب البلدان. لاسيما النامية منها. إلى جانب كونها متنفس يستطيع المواطن البسيط من خلاله الحصول على عمل ملائم في حال انعدمت فرصه في القطاعين الحكومي والخاص. فضلاً عن كونها داعم بشكل أساسي، للأنشطة الاقتصادية الحكومية والخاصة كبيرة الحجم.
على مدار سنوات اختلفت السياسات الحكومية تجاه تلك المشروعات. إلا إنها فشلت في احتواء تلك الأنشطة بشكل كامل. فخرج منها ما يسمى بالنشاط غير الرسمي، الذي تعاظم وجوده، وتضخم في كثير من الدول ومنها مصر. ليصل إلى ما يزيد عن 45% من إجمالي اقتصاد الدول النامية، وفقًا لإحصائيات نشرها البنك الدولي من قبل.
اقتصاد الظل.. تاريخ وتعريف
رغم التعريف الشائع للنشاط غير الرسمي بأنه “إجمالي قيمة الأنشطة الاقتصادية التي تجرى بمعزل عن التسجيل القانوني لدى الدولة”. إلا أن الأمر يمتد إلى العمل بلا أجر، كما في المشاريع العائلية، التوظيف الذاتي كالباعة الجائلين، وأصحاب الحرف، وكذلك العمالة غير الرسمية التي لا تمتلك أي ضمانات اجتماعية لحمايتها.
لطالما كان الانشغال الحكومي بدمج تلك الاقتصاديات، بهدف جمع الضرائب والرسوم. إلا أن ضرورة هذا الدمج تشمل حماية العمالة من النساء والأطفال، إلى جانب ضمان حقوق العمال الذين يشكلون أكثر من 70% من حجم العمالة.
تاريخيًا، ظهر هذا النشاط في السبعينيات وبزغ نجمه في أوائل الثمانينيات، ومع اختفاء السياسات الناصرية الاشتراكية. وتواري التدخلات الحكومية في الاقتصادية، في مقابل تدشين الحقبة الليبرالية، وسياسة السوق المفتوح التي مارسها الرئيس الراحل أنور السادات.
تشير إحدى الدراسات التي أعدها اتحاد الصناعات المصرية، إلى أن حجم الاقتصاد السري أو غير الرسمي يصل لنحو 4 تريليونات جنيه. بما يعادل 60% من حجم الاقتصاد القومي، والمقدر بنحو 400 مليار دولار. أي ما يزيد على 7 تريليونات جنيه.
يقول هيرناندو دي سوتو، رئيس المعهد الدولي للحريات والديمقراطية، حول الاقتصاد غير الرسمي في مصر “لا يثق المصريون في حكومتهم، ولن يقوموا بتوفير المعلومات والأسماء الخاصة بالعاملين في القطاع غير الرسمي، لذا عليك البدء في بناء الثقة”.
محاولات الإدماج الحكومية
من جهتها، تحاول السياسات الحكومية مؤخرا استغلال هذا المورد، وإدماجه بمنظومة الاقتصاد الرسمي للاستفادة من حجمه الكبير. ويعتبر القانون 152 لعام 2020 بشأن تنظيم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، باكورة تلك المحاولات. ذلك بعد سنوات إهمال وغياب للرقابة، ساهمت في صعود ضخم لتلك الأنشطة. بالإضافة إلى عدد من الاجراءات الخاصة بالتعداد الاقتصادي والتحول الرقمي.
في إطار ذلك، ناشدت لجنة المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر بمجلس النواب، وزارة التنمية المحلية وجهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة، التواصل مع جميع المحافظين بالجمهورية. ذلك من أجل تنفيذ خريطة لتلك الأنشطة، وإعداد دراسات جدوى بها. حيث شمل قانون تنمية المشروعات إعفاء الصغيرة والمتوسطة منها، والخاضعة لأحكامه من ضريبة الدمغة، لمدة 5 سنوات، من وقت قيدها بالسجل التجاري.
عدم دستورية
عضو مجلس الشيوخ محمود سامي الامام يؤكد أن الأرقام المعلنة للنشاط غير الرسمي في مصر غير دقيقة. وهي تتجاوز الاثنين تريليون جنيه. وهو مبلغ غير خاضع للضريبة الحكومية، نتيجة صعوبة الدمج في الاقتصاد الرسمي، على حد قوله.
ويضيف الامام أن التغيير الحاصل في بعض القوانين بأثر رجعي، أثر بشكل فادح في ثقة المواطنين بالقرارات الحكومية. فما حدث بقوانين مثل التصرفات العقارية والتصالح، أجبر بعض المستثمرين الرسميين على الهروب للنشاط غير الرسمي. لافتًا إلى تجاوز تلك القوانين لمواد الدستور المعترف بها، والتي تنص على أن سن القوانين يجب أن لا يكون بأثر رجعي.
ويوضح عضو المجلس أن تجنب الماضي، والعمل بالقوانين مستقبلاً، دون أثر رجعي أمر ضروري لجعل الأمر أكثر استقامة، ولكي نسترجع ثقة الناس في المنظومة الحكومية، ونقنعهم بالدمج في الاقتصاد القومي.
أيضًا، يوضح الامام أن إشكالية النشاط غير الشرعي تتجاوز مسألة جب الضرائب وإنفاذ القانون إلى مدى صلاحية تلك المنتجات، وتأثيرها على جودة حياة المواطن؛ فسلع كالأدوية والمكملات الغذائية والأطعمة، يتم تداولها في الأسواق من دون أن تخضع لأي رقابة أو إشراف صحي.
ويشير الامام إلى أهمية تقديم الحوافز الاستثمارية الكافية، لحث المواطن على اللحاق بالاقتصاد الرسمي. بينما يعتبر القانون الأخير قد عمل في بعض مواده على تسهيل عملية الإدماج. خاصة في ظل إنشاء جهاز خاص يخص المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وذلك بعيدًا عن بيروقراطية الأحياء وفسادها. إلى جانب إعفاء المستثمرين الصغار من ضريبة خمس سنوات.
محفزات حكومية
لذلك، يقترح الامام تكوين مجموعات من الشباب تذهب بنفسها إلى تلك المشروعات، وتقوم بتسجيلها، لتسهيل الأمر عليها. على أن يكون ذلك بعيدًا عن الإجراءات الطويلة والمعقدة. كما يشدد على أهمية وجود نظام ضريبي بسيط يخص تسجيل العمالة وتيسير الرسوم وتثبيتها.
ويلفت إلى ضرورة تخصيص مناطق خاصة بتلك المشروعات وتوفيرها لهم. بما يساهم في تحفيزهم على الانضمام لركب الدولة، ويسهل الإشراف عليهم، وكذلك التسويق لمنتجاتهم.
في السياق نفسه، أشارت النائب في مجلس النواب أميرة العادلي إلى أن تقنين الاقتصاد غير الرسمي خطوة ضرورية لابد من المضي فيها. لافتةً إلى أن الأمر يحقق الاستفادة للأطراف كافة.
وأوضحت العادلي أن الاقتصاد غير الرسمي أو الموازي، يمثل نسبة لايستهان بها من حجم الاقتصاد الكلي. وهو بمثابة موارد غير مستغلة. مضيفةً أن تنظيمها يحقق عوائد في موازنة الدولة، يمكن توظيفها في تحقيق خطة التنمية المستدامة. كما أن الطرف الآخر يستفيد من تقنين عمله وتحقيق عائد أكبر بالعمل تحت مظلة الدولة، على حد قولها.
وأبدت العادلي تفهمًا لمخاوف بعض صغار المستثمرين من شرعنة أنشطتهم، وانخفاض العائد منها نتيجة ذلك. وهنا تشير إلى وجوب وجود محفزات للتشجيع سواء استثمارية أو ضريبية.
في المقابل..
حول الثقة في الحكومات وعقبات تحول دون احتواء الاقتصاد غير الرسمي، يقول الخبير الاقتصادي إلهامي الميرغني: “المشروعات الصغيرة هي أكثر المشروعات تحملاً لأعباء الدولة، فهي التي تدفع الضرائب والتأمينات، والدفاع المدني، والبلدية، في حين يمتنع الجميع عن مساعداتها وإقراضها إلا عبر مجموعة من القيود والحسابات البنكية المنتظمة، التي لا تتوفر لأغلبها، فكيف لها بالانضمام لمظلة الدولة؟”.
ويؤكد الميرغني أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة غير الرسمية مورد غير مستغل. وأن العقبات الحكومية القائمة تساهم في استمرار هذا الوضع. لافتًا إلى الإجراءات الطويلة والمبالغ فيها لاستخراج تراخيص وسجلات تجارية تخص أي مشروع. هذا فضلاً عن التكلفة المالية التي لا تتحملها تلك المشاريع.
وتكشف الدراسات ﺃﻥ ﻣﺼﺮ ﺗﺘﺄﺧﺮ ﻋﻦ ﻛﻞ ﺃﻗﺎﻟﻴﻢ ﺍلعالم ﺗﺄﺧﺮًا كبيرًا، ﻓﻴﻤﺎ يخص ﺇﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺍﺳﺘﺨﺮﺍﺝ ﺍﻟﺘﺮﺍﺧﻴﺺ ﺳﻮﺍﺀ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻋﺪﺩ ﺍﻹﺟﺮﺍﺀﺍﺕ، ﺃﻭ ﺍﻟﻮﻗﺖ المستغرق لانتهاء من ﺗﻠﻚ ﺍﻹﺟﺮﺍﺀﺍﺕ الخاصة ﺑﺘﺴﺠﻴﻞ الممتلكات، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺰﻳﺪ ﺃيضًا ﻋﻦ ﻣﺜﻴﻠﻪ في أغلب البلدان.
ويشير الميرغني إلى أن الدولة التي تدعم كبار المستثمرين ورجال الأعمال، تخص تلك المشاريع البالغة الصغر بفواتير ورسوم مبالغ فيها، وليس ببعيد ما حدث أثناء فترة وباء كورونا، حين سارعت الدولة بدعم فواتير “الكبار” من الكهرباء والغاز بمبلغ 22 مليار جنيه. في حين ارتفعت أسعار المرافق نفسها بالنسبة للأفراد وصغار التجار، كما ألزموهم بتركيب محولات للكهرباء باهظة الثمن.
ويوضح الميرغني أن هناك 2.6 مليون مشروع رأسماله أقل من 100 ألف جنيه، منها 3.4 منشأة فردية، و3.3 منشأة فيها أقل من مئة عامل. وهي مشروعات أولى بالدعم، لتحفيزها على الاستمرار بشكل رسمي، كذلك لضمان جودة منتجاتها.
واعتبر الميرغني أن إعفاء تلك المشاريع من الضريبة لمدة خمس سنوات، خطوة جيدة، ولكنها غير كافية، مشددًا على أهمية العمل على تسهيل إجراءات استخراج التراخيص، ودعم أسعار المرافق، وكذلك السماح بعمل تعاونيات، من شأنها تسهيل تبادل مواد الانتاج، وتسويق المنتجات.