تبدأ الحكومة السودانية الجديدة أعمالها تحت مظلة مشكلات تقليدية عرفها التاريخ السياسي السوداني، في فتراته الانتقالية التي تعددت خلال النصف قرن الماضي. ذلك بسبب ثوراته المتعددة ضد النظم العسكرية. لكن الجديد في معركة إعادة البناء التي يحاولها السودانيون حاليًا أنهم لأول مرة يقدمون علي إزاحة نظام له طبيعة أيدلوجية تنتمي إلى أدبيات الإخوان المسلمين، وإن كان بتصرف محدود بلوره حسن الترابي، فيما سمي بالجبهة القومية الإسلامية. حيث تواجه قوى الثورة السودانية أيضًا على الأرض نظامًا له قواعده الاجتماعية التي لايستهان بها، وأذرعه الاقتصادية المؤثرة، سواء تلك المملوكة للمؤسسة العسكرية التي تم أدلجتها أيضًا أو لقطاع الأعمال الخاص، والذي أزاح عبر ثلاثين عامًا من حكم الثنائي البشير والترابي رجال مال وأعمال كانوا نتاجًا طبيعيًا وشرعيًا للمنظومة الاجتماعية والسياسية التقليدية في السودان.
المشهد التفصيلي لمكونات النظام القديم في السودان “الفلول” يشير إالي أربعة مكونات لتيار الإسلام السياسي الأول هو لتنظيم الجبهة القومية الإسلامية ونخبه السياسية، والمستوى الثاني هو التنظيم السري للجبهة الذي مارس أعمالاً عنيفة تصل إلى درجة الاغتيال الممنهج، وهو التنظيم الذي أعلن عن وجوده وجاهزيته لمواجهة الثورة السودانية علي عثمان محمد طه، النائب الأول لرئيس الجمهورية لفترة غير قليلة والمحبوس حاليًا. أما المستوى الثالث فهو حزب المؤتمر الشعبي الذي تزعمه الترابي حتي عام 2016، وحركة الإصلاح التي يتزعمها غازي صلاح الدين أحد تلاميذ الترابي، الذي خرج عن طاعته في مذكرة العشرة ضده عام 1999، والذي خرج عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم أيضًا عام 2013 على خلفية سقوط 200 قتيل في الاحتجاجات الشعبية ضد النظام وقتذاك.
يضاف إلى هذه المستويات قطاع من النخب السياسية والإعلامية الذين خرجوا عن التنظيم ورفضوا أداء حزب المؤتمر الوطني بقيادة البشير. بل أدان بعضهم مجمل تجربة حكم الإسلاميين في السودان ونعتوها بالفساد المالي والسياسي على عهد البشير وقبل الثورة. لكن هؤلاء جميعًا لهم انتماءتهم الدينية المحافظة وتحفظاتهم القوية على باقي القوى السياسية، خصوصًا قوى اليسار التي يمارسون معها متوالية ثأرية عبر التاريخ السوداني الحديث.
فيما يخص الجماعات السلفية، فإنها تحوز على 10% تقريبًا من الخريطة الدينية للسودان والتيارات التي تكفّر الحكام والمجتمع منهم، وهي محصورة في مناطق قليلة ومتباعدة مثل منطقة (أبو قوتة) في ولاية الجزيرة، ومنطقة (الفاو) شرق السودان، وبعض الجيوب الصغيرة في الدمازين ومنطقة كوستي، بالإضافة إلى وجود في العاصمة.
إلى وقت قريب، كانت السلفية السودانية محصورة بجماعة أنصار السنة المحمدية إلى أن أتت موجة ما يعرف بالأفغان العرب، وتوافدت هذه المجموعات، بينهم أسامة بن لادن، للاستقرار بالسودان بداية التسعينيات مع انتهاج البشير ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.
وبطبيعة الحال، لا يعني هذا التمايز بين المستويات الأربعة من الإسلاميين السودانيين غياب حالات من التفاعل بينهم تسهم في بلورة موقف متقارب خصوصا في قضايا الحداثة والتطور التي يقودها المعسكر الثوري بتأثير واضح من قوي اليسار عمومًا. وفيما يخص موقف الإسلاميين من ثورة ٢٠١٩ فإنه لا يمكن إنكار أن القواعد الشبابية للإسلاميين السودانيين، خصوصًا في حزب المؤتمر الشعبي الذي كونه الترابي أو حركة الإصلاح قد شاركوا في الحراك الثوري وانخرطوا في المواكب الجماهيرية وقت قمع النظام لها بدليل سقوط شهداء منهم في هذه الأحداث، خصوصًا أن هذه القواعد الحزبية كانت تطالب بفك التحالف مع حزب المؤتمر الوطني قبل ثورة السودانيين، ولعل هذه الفاعلية من جانب هؤلاء وراء شكوك في الشارع السياسي السوداني بشأن مدى انخراط الجيل الثالث من الجبهة القومية الإسلامية في التخطيط لإزاحة البشير بعد انسداد الأفق السياسي بالسودان حتى يتم ضمان وجودهم السياسي في مرحلة ما بعد البشير.
خلال العامين الماضيين من عمر الثورة السودانية نجح الإسلاميون المنتمين إلى نظام البشير الترابي في إيجاد مساحة تفاهيم وتأثير داخل منظومتين؛ الأولى منسوبي المؤسسة العسكرية في المجلس الانتقالي، وكذلك في بعض المستوزرين الجدد في الحكومة الحالية وهم القادمين على جناح اتفاق سلام جوبا ولهم تاريخ في الجبهة القومية الإسلامية. من هنا يمكن تفسير دعوات المصالحة مع الإسلاميين عمومًا ومع حزب المؤتمر الوطني خصوصًا شرط ألا يكون من يتم التصالح معهم ممن مارسوا فسادًا ماليًا أو سياسيًا أو انتهاكًا لحقوق الإنسان، وهي الدعوات التي تنطلق حاليًا في المجال العام السوداني من مصادر ساسية متعددة المستويات والتأثير.
في هذا السياق، فإن ساحات المواجهة التي يختارها الإسلاميون لضعضعة الحكومة الجديدة تتبلور في أمرين؛ الأول الملف الاقتصادي، حيث يلامسون عصب عار عند جموع السودانيين بعد أن انهارت العملة المحلية في مواجهة الدولار بخمسة أضعاف خلال العام الأخير ليصل الجنيه السوداني إلى مايقارب 400 جنيه سوداني. وهو ما أسفر عن ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار لتصل إلى حوالي 300٪، وتحت مظلة هذه الأزمة الإقتصادية الخانقة تتحرك حاليًا قواعد النظام القديم لتغذي الاحتجاجات الشعبية ضد غلاء الأسعار وأحيانًا تصنعها. بل ويتم تدبير أفعال تخريبية بعمليات تدمير وحرق للمباني ولوسائل المواصلات العامة، وذلك في مناطق الهامش السودانية سواء في شرق السودان بولايتي القضارف ومناطق كسلا وبوسودان أو في الغرب بدارفور. فضلاً عن مدن أخرى كالأبيض، ويبدو أن الهدف النهائي من تغذية الاحتجاجات هي إسقاط الحكومة الجديدة، وربما الوصول إلى هدف إنهاء الفترة الانتقالية قصرًا، بما يعني أن أي عملية انتخابية مبكرة سوف تنتج ببساطة نفس النظام القديم الذي لم تنته أدواته الفاعلة في التأثير على المعادلة السياسية الراهنة.
أما الملف الثاني الذي يوظفه الإسلاميون ضد الثورة فهو ملف الحداثة والتطوير المفارق للمفاهيم الإسلامية التقليدية، وذلك على صعيد البنية الاجتماعية السودانية سواء في ملف المناهج التعليمية أو في ملف قانون الأحوال الشخصية، وقد انطلقت الرصاصة الأولى في هذه المعركة المزدوجة في محطة المناهج، حيث نجح الفلول في إفشال اكتمال التنصيب الوزاري للحكومة الحالية وتأجيل تسمية وزير التربية والتعليم القابض على عملية المحتوى التعليمي والمناهج للأجيال الجديدة، وذلك بعد معركة تضاغط فيها الإسلاميون واليساريون على خلفية محاولة د. عمر القراي مدير إدارة المناهج في الحكومة المنتهية ولايتها، والذي حاول تطوير المناهج التعليمية وتخليصها من إرث الإسلاميين على مدار ثلاث عقود.
لكن وجود صورة آدم العاري للفنان مايكل أنجلو في مناهج مراحلة الأساس كانت كفيلة بأن تكون معركة تم الحشد فيها ضد الحكومة من على منابر المساجد، وهي المنابر التي مارست تكفيرًا للدكتور عمر القراي.
كما حشدت قوتها ضد الحكومة وإتجاهاتها التي أسموها علمانية على وسائط التواصل الاجتماعي. وقد نجح الإسلاميون في هذه المعركة، حيث قام رئيس الوزراء عبدلله حمدوك بتجميد العمل بالمقترحات المطروحة من إدارة المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، وإعلانه عن تكوين لجنة تضم تربويين من كافة الأطياف لضمان أكبر توافق اجتماعي في عملية تغيير المناهج، ونتيجة لذلك أقدم عمر لقراي على تقديم استقالته، وفشل رئيس الوزراء في تسمية وزير التربية والتعليم حتى الآن، رغم أن عملية تشكيل هذه الحكومة قد إستغرقت أربعة أشهر كاملة. ولم تعلن إلا بعد تهديد الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الإنتقالي أنه سوف يشكل حكومة طوارئ إذا لم يتم توافق سريع بين القوي السياسية على إعلان الحكومة.
إجمالاً تبدو التحديات ممتدة أمام الحكومة الجديدة، وأن المعادلة السياسية السودانية، ربما تكون قيد تشكل يشمل إسلاميين ممن ثار ضدهم الشعب السوداني.
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتبة.. اضغط هنا