يزخر التاريخ المصري بنماذج نسائية مشرفة، لعبت دورًا مؤثرًا في الحياة السياسية والاجتماعية. كان لبعضهن الريادة والفضل في فتح الباب أمام الكثيرات لنيل حقوقهن، والاعتراف بحريتهن. من هذه النماذج الحية عزة سليمان سند النساء في مصر، صاحبة الابتسامة التي لا تنسى، التي حملت على عاتقها مهمة تحريرهن، فكانت من أولى المحاميات اللاتي أسّسن مركزًا حقوقيًا لمساعدة المرأة المصرية عام 1995. وعملت من خلاله على مناهضة العنف ضد المرأة، والمناداة بأول قانون للأحوال الشخصية للمرأة المسيحية، وحق التطليق.

تخرجت في كلية الحقوق عام 1989 إلا أنها لم تكن محامية عادية. فهي بنت حي إمبابة الشعبي الذي أكسبها صفات الجدعنة، وخدمة الناس، ففضلت لقب محامية حقوقية، ونشطت في العمل التطوعي، والعام، في وقت مبكر جدًا، ولم تنقطع عنه رغم زواجها، وانشغالها بولديها نديم ومهند.

أمومة.. “عزة دي السند”

عزة دي السند، والحضن الحقيقي، ممكن نختلف معاها بس منقدرش نبعد عنها، دايما مجمعانا” هكذا أسرّت لي إحدى الصديقات عندما علمت بلقائي معها.

تستذكر عزة بدايتها مع الأمومة حين كانت تصطحب أطفالها، وتتجول بهم في المحافظات. لم تكن تملك القدرة المادية للاستعانة بمدبرة منزل، فكانت تحملهم على حمالات بينما تمارس مهام عملها. أثار ذلك نظرات السخرية والاستهجان، وهو ما تجاهلته كثيرًا؛ إذ لا تملك الاختيار.

تحكي عزة عن ذلك: “تجاربي مع أطفالي، خلتني أحس بالأمهات، وازاي إنهم ميقدروش يستغنوا عن أطفالهم، في السن الصغير دا”. أنشأت عزة في المركز غرفة صغيرة، بالتعاون مع فريق العمل، ما حفز هؤلاء الأمهات على العمل والإنتاج، واستئناف العمل سريعًا في أعقاب الولادة. ذلك دعمته سياسات المركز التي استهدفت وضع قوانين تخص حقوق النساء، بما فيها إجازات الوضع.

عزة بنت الجنوب

لم يغب الجنوب عن بال عزة، فهي ابنته نسبًا ورحمًا، لذا يممت وجهها مطلع التسعينيات شطر قرى ونجوع الإقليم البعيد، مستعينةً ببرامج الأمم المتحدة آملة أن تذود عنهم بعض ما يثقلهم من بؤس، وترفع عنهم بعض ما يضنيهم من عذاب؛ فالجنوب يمثل لعزة حالة شديدة الخصوصية وتاريخًا من الإنجازات.

حول علاقتها بالصعيد، تقول عزة “علاقتي بالصعيد قديمة وحبي لأسوان خاص جدًا فهي واحة الراحة، والأمان بالنسبة لي، إلا أن الأوضاع هناك في باقي الأقاليم تختلف تماما عن الصورة النمطية المعروف بها المكان، كبيئة محافظة وآمنة، فهناك تعرفت للمرة الأولى على زنا المحارم، والتحرش، واكتشفت التواطؤ المجتمعي الرهيب ضد المرأة، فالجميع يلقي باللوم عليها، ويحاصرها بالاتهامات، بينما الذكر “الفاعل الأصلي” معفى من الحساب، المرأة هي المخطئة في كل الاحوال، بينما يبرر الجميع أفعال الرجال حتى إن كانوا متحرشين”.

لكن مع كل الأحزان والمشاكل التي يعج بها المكان. إلا أن اهتمام مؤسسات التمويل العالمية بالصعيد كان مضاعفًا. هذا الأمر ساعد عزة وفريق العمل على تحقيق إنجازات مهمة في القضايا الاجتماعية والنسوية، ومكنهم من كسر تابوهات عدة، واكتشاف مصطلحات جديدة على البيئة؛ كالعنف ضد المرأة، الذي جبل الجميع على إنكاره.

ترى عزة أن غياب الدولة في الصعيد وقتها، فيما يخص البنية التحتية، جعل من المنطقة مركزًا لجهات التمويل. حيث بدأت القضايا في اتخاذ منحى جندري لأول مرة. مثال ذلك يظهر في مشروع الصرف الصحي الذي تم إنشاؤه، بناءً على دراسات أرجعت إصابة أغلب النساء هناك إلى مشاكل الكلى وامتناعهم عن دخول الحمام أوقات طويلة.

ازدواجية الدولة

رغم الإنجازات والانتصارات، يظل الثمن فادحًا. إذ تواجه عزة ملاحقات أمنية مستمرة، كما أدرجت على قوائم الممنوعين من السفر وتجميد الأموال في القضية 173 الخاصة بمؤسسات المجتمع المدني. لكنها تستقبل الأمر بابتسامتها المعهودة، تتعامل معه كفرصة لتحقيق أهداف جديدة في ميادين مختلفة.

تحكي عزة عن قضيتها والمنع من السفر. فتقول: “استقبلت خبر منعي من السفر وأنا خارج البلاد، ولم يمنعني هذا من العودة، لم أرتكب خطأ كي أهرب، كنت مستعدة للمخاطرة بسجني، لكنني لا أستطيع مغادرة مصر والبعد عن أهلي مهما حصل، أنا حلمي في بلدي”.

الغضب الذي غالب عزة فغلبته

عن المنع من السفر تقول: “شعرت بالغضب الشديد في البداية، خاصة بعد أن رأيت رموز مبارك يفلتون من العقاب وينعمون بالحرية، والإفراج عن أموالهم، في مقابل الطعن في سمعتي من قبل الإعلام الحكومي، حتى أن أحد البرامج زعم أن رصيدي في البنك 54 مليون جنيه، في حين تشير الأوراق الرسمية إلى 34 ألف جنيه فقط”.

تستطرد عزة: “تغلبت على غضبي شيئًا فشيئًا، وحولت إحباطي إلى إنجاز، فاستكملت مسيرتي، عدت للعمل بالمحاماة بعد توقف طويل، فتحت مكتبي الخاص، وشعرت بأن وجودي فارق، في حياة الكثير من النساء والشابات الصغيرات، وحتى الرجال، والمعتقلين في السجون وذويهم، فجميعهم حاولت دعمهم في محاولة النجاة”.

حول أزمات المجتمع المدني والخطاب الإعلامي المشكك والمشكلات الداخلية التي يمر بها، تؤكد عزة على دور المجتمع المدني وأهميته، بعد أن “طلقت” الدولة المجتمع سنوات طويلة، إلى جانب انفصال الخطاب الديني عن الناس. في وقت عملت الجمعيات على تنفيذ الكثير من المشروعات الخاصة بالبنية التحتية والتعليم والصحة، وحققت إنجازاتها في قضايا ساقطي القيد، وحق المرأة في تجنيس أطفالها، وتطوير قانون الأحوال الشخصية بما فيه الخلع، وغيرها.

تستنكر عزة ازدواجية التعامل مع المجتمع المدني من قبل النظام السياسي. فمن ناحية يعمل إعلام الدولة على تشويه الجمعيات الأهلية، ويعمل النظام على تقييدها بالقوانين، ومطاردة العاملين فيها. بينما يتعامل خارجيًا مع كافة المنظمات الأممية ويمدها بالتقارير. على اعتبار مصر عضوًا في الأمم المتحدة.

أرجعت عزة المشكلات الداخلية التي تواجه مسيرة العمل الأهلي إلى غياب المحاسبة الداخلية للعاملين، و”لبعضنا البعض” على حد قولها. وكذلك الفردية في العمل، وحب الظهور على حساب تحقيق الهدف. هنا تشدد على ضرورة إعادة تقييم الوضع ككل.

“مي تو”

عن البوح والنجاة وحركة “مي تو” المصرية، تؤكد عزة أن الحركة حققت الكثير من الاختراقات. خاصة في ظل مفهوم “المجهولية”، الذي حفز الكثير من الضحايا على الاعتراف، فخلقت حالة من الجدل والتصحيح، غير مسبوقة، حول مفاهيم كالتحرش، والانتهاك، وكذلك الرضائية. كما كسرت حاجز الصمت عند كثير من الفتيات اللاتي تم إساءة استغلالهن لوقت طويل سواء في بيئة العمل، أو من قبل الأصدقاء”.

ترفض عزة استخدام لفظ “ناجيات” وتعتبر الجميع ضحايا، لم يتجاوزن ما مر بهن من صدمات. ومع ذلك تعبر عزة عن مخاوفها من التطرف في استخدام تلك الآلية في ذبح الأفراد، وإغلاق الباب أمام أي محاولات للتراجع أو الاعتذار.

تعد عزة إحدى الشخصيات الضالعة في عدد من لجان التحقيق الخاصة بحالات التحرش والانتهاكات. مما عرضها للهجوم أحيانًا، من قبل أطراف في الأزمة، وكذلك بعض النشطاء الذين يشككون في عمل تلك اللجان، ومدى جديتها.

في السياق نفسه، تعتبر عزة لجان التحقيق اختيارًا متاحًا للضحايا. وكذلك المؤسسات بهدف تبرئة ساحتها. لكنها غير ملزمة ولا تمنع من الاستعانة بالقانون في حال قبلت الضحايا الأمر. تقول “إن التشكيك بعمل هذه اللجان غير موضوعي، فالأمر يختلف من حالة لأخرى، ولا يجب التعميم”.

وحول ردود الفعل السلبية تجاه الضحايا، ومحاولة تشويههن، ووصمهن بالجنون، تشير عزة إلى وجود حالة من الإنكار المجتمعي لمشاكلنا، ودفن الرؤوس في الرمال. وهو ما يحدث دائمًا في بداية أي تغيير. كما أن البعض “على راسه بطحة”، ولا يحبذ ثقافة البوح التي تساهم في فضح تصرفاته”.

وشددت عزة على ضرورة وضع قوانين داخلية واضحة تحمي المرأة من تلك الانتهاكات داخل مختلف المؤسسات، ومحاسبة الجميع على حد سواء. كما يجب العمل على السلامة النفسية للمجتمع بدلاً من تجاهل المشكلات، وتغيير الخطاب الديني، والإعلامي، بما يتواءم مع أزماتنا.

“لما مسكنا السما بايدينا”

شاركت عزة في ثورة يناير عام 2011، من بدايتها. أعلنت موقفها بوضوح منذ اليوم الأول. حلمت بالتغيير أو على حد قولها “شوفت الأمل”.

ترقرقت عيناها بالدموع بينما تتذكر تلك الفترة. “لم أتردد لحظة في المشاركة بالثورة، كانت الأمل المنتظر، شاركت أولادي الحلم، رأيت الدم لأول مرة، وهي اللحظة التي هانت فيها نفسي وأبنائي علي، وتقدم الحلم بالتغيير على كل ما دونه”.

العلاقة بين الثورة والمرأة تاريخ طويل، وصفحات مضيئة من الكفاح، وخلال الثورة المصرية ارتفع سقف التوقعات، ولعبت دورا محوريا فيها وانتظرت ثمار هذا النضال، فماذا حدث؟

“مسكنا السما بايدينا” هكذا تصف عزة المراحل الأولى للثورة. تضيف “عشنا حماسًا غير مسبوق، ظهرت وجوه نسائية عديدة لم يسبق لها خوض العمل السياسي، عملن بجرأة وحماس على تحقيق التغيير إلا أن الأحداث اللاحقة ساهمت في إحباط الجميع”.

وبالرغم من التراجع الثوري، ترى عزة أن لـ “يناير” فضلاً كبيرًا في تحريك المياه الراكدة. إذ خلفت تغييرًا اجتماعيًا كبيرًا. كما أثارت جدلاً لم ينتهِ بعد، حول حقوق النساء، والخطاب الديني، وغيرها من القضايا الملحة.

إلا أن عزة ترى تدهورًا في أوضاع المرأة، وارتفاع وتيرة العنف خلال السنوات القليلة الماضية. خاصة في ظل وباء كورونا. وهو ما كشف عنه بحث صدر عن مركز قضايا المرأة حديثًا.

كما حملت هذه السنوات رجعية ملحوظة في قرارات الدولة عادت بالزمن إلى الوراء. خاصة بعد صدور قوانين فضفاضة وغير منطقية مثل قانون “القيم الأسرية”. الأمر الذي يتم استغلاله على مستوى واسع، في الحد من حرية المرأة، وانتهاك خصوصياتها.

تنتقد عزة أيضًا أداء المجلس القومي للمرأة، ومواقفه المتماهية مع الرجعية، والتعدي على الحريات، فمنظومة حماية المرأة، والحفاظ على مكتسباتها معطلة تمامًا، ولا تساعد النساء، بل تساهم في تراجعهن بشدة.