يضع الإرهاب العالمي دول العالم كافة أمام معادلة صعبة، رهان معقد، وتحدٍّ كبير وضروري: كيف نتمكن من الانخراط في الحرب على الإرهاب بكل حزم وصرامة، ونكسب بالتالي رهان القضاء على قوى الفوضى والفتنة والدمار في المنطقة، لكن من دون أن نفرط في دولة الحق والقانون، ومن دون أن نخرق المعايير الدولية لحقوق الإنسان؟ 

ليس السؤال بسيطًا، لا سيما حين نتذكر -على سبيل المثال- كيف أثرت تداعيات اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر في جودة الديمقراطية داخل معقل الانتخابات الديمقراطية والحريات الفردية في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، ولو لبعض الوقت، وذلك من خلال الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها حكومة جورج والكر بوش، إلى درجة أن كثيرًا من المثقفين الأمريكيين البارزين وضعوا أياديهم على قلوبهم خشية أن تسقط أمريكا في براثن نظام حكم شمولي جديد، على منوال الأنظمة الشمولية التي كادت تبتلع أوروبا في أواسط القرن العشرين. علمًا بأن الاستبداد يمثل شبحًا ملازمًا للديمقراطية، إذا ما استحضرنا رؤية أفلاطون، ومعها تجارب القرن العشرين.

حرب العراق

عقب الحادي عشر من سبتمبر تدهورت جودة الديمقراطية في أمريكا بنحو مروع. ولسنا هنا بصدد التركيز على مآسي جانتانامو وأبو غريب وغيرها، بل نقصد الإشارة إلى عديد من القوانين التي صدرت وقتها ومست بجودة الحريات الشخصية للمواطنين، بدعوى القضاء على الإرهاب، من قبيل قانون باتريوت سيئ الذكر على سبيل الذكر. 

المعضلة أن الحرب على الإرهاب هي حرب أوّلاً، حرب بالأسلحة الخفيفة أحيانًا، وبالأسلحة الثقيلة أحيانًا أخرى، حرب فرضها الإرهابيون بكل تأكيد، لكنها حرب في الحساب الأخير. وبلا شك.

في زمن الحرب تتغير كثير من المعايير الحقوقية والأخلاقية. لكن المؤكد أيضًا أن روح الحداثة تتجه نحو حماية أكبر قدر ممكن من الكرامة الإنسانية حتى في زمن اشتعال الحروب واشتداد القتال، ولأجل ذلك تمت صياغة مفهوم “جرائم الحرب”، وإدراجه ضمن مفاهيم الخطاب التشريعي والأخلاقي المعاصر. 

لعل التحدي مطروح على العالم بأسره، لكنه مطروح بدرجة أكبر على مجتمعات العالم الإسلامي، ولا سيما منها المجتمعات التي تجد نفسها على خطوط التماس مع الفتنة والإرهاب.

طبعًا، في غياب ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، قد نجد هناك من يرفع شعار حقوق الإنسان لمجرد المزايدة والابتزاز.

على سبيل المثال، يسهل على المتطرفين أن يتدرعوا بحقوق الإنسان لفرض معاييرهم القروسطية، لا سيما بعد أن استبدلوا الحريات الجوهرية الأساسية (التنمية، المساواة، المشاركة السياسية، إلخ) بحريات مظهرية، من قبيل حرية ارتداء النقاب، حرية ارتداء البرقع، حرية ارتداء البوركيني، حرية إغلاق الشوارع لصلاة الجماعة مع مكبرات صوت تصدع طيلة الصلاة، وما إلى ذلك.

لكن الذين يزايدون على عباد الله بالتدين المظهري يغفلون أن حقوق الإنسان نسق كامل متكامل، غايته الأساسية أن يكون المواطن عنصرًا فعالًا في تحقيق التنمية البشرية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إن أساس حقوق الإنسان هو الإنسان باعتباره شخصًا، ذاتًا واعية بذاتها، ومستقلة عن وصاية الجماعة، ليس فقط حين يتعلق الأمر بالجماعة التي قد يكون الفرد هاجر إليها، وهذا أسهل ما يكون، بل أساسًا حين يتعلق الأمر بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد بحكم الولادة أو التنشئة. 

يتعلق الأمر بحقوق كونية مشتركة بين الذوات العاقلة كافة، ولا تتضمن أي خصوصيات جماعاتيه كيفما كان نوعها. لذلك بوسعنا أن نلاحظ كيف تمثل كلمة الشخص مفهوما محوريا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ذلك أن الشخص باعتباره ذاتًا واعية بذاتها فهو قادر على الاحتكام للأوامر الصادرة عن ضميره الأخلاقي الخالص، أو هكذا يفترض، بعد أن تكون المدرسة قد لعبت دورها في هذا المجال، وهنا مربط الفرس.

عودة إلى السؤال، كيف ننتصر على الإرهاب العالمي دون أن نفرط في حقوق الإنسان؟ 

يقال، السؤال الجيد هو نصف الجواب. لذلك نحتاج إلى صياغة جيدة للسؤال: 

كيف يمكن للدولة أن توازن بين القوة التي لها والحق الذي عليها، بين الأمن الذي تحميه والحرية التي تضمنها، بين هيبة الدولة وكرامة الإنسان؟

يجب أن ننطلق بكل تواضع من أن الإجابة الكافية الشافية غير متوفرة، أو ليس بعد. لكن رغم ذلك كله ثمة شيء مؤكد، وعلينا أن نتمسك به، وهو أن روح العصر تتجه نحو كسب الرهان ولو تدريجيًا، ونسبيًا، وبالتعايش مع قدر كبير من التعثرات. 

لقد كانت تداعيات اعتداءات 11 من سبتمبر أكبر فرصة لنقاش لا يزال يعتمل داخل الفكر السياسي الغربي: كيف يمكننا القضاء على الإرهاب دون أن نقضي على الحريات الشخصية والدينية؟.

هنا يتعلق الأمر بالتفاصيل، بل يتعلق الأمر بتفاصيل التفاصيل، من قبيل نوع التدابير الأمنية، والإجراءات الاستخباراتية، والمساطر القانونية والقضائية، وبرامج المدرسة والإعلام، إلخ.

لكننا فوق ذلك كله نحتاج إلى تعبئة مجتمعاتنا لأجل الشفافية والانفتاح والنقاش العمومي، والابتعاد قدر الإمكان عن ثقافة التقية والتوجس والكتمان، ذلك أن من طبيعة المجتمعات المغلقة أن تمثل بيئات حاضنة لكل أشكال التعصب والتشدد والإرهاب العالمي. 

دور الدولة احتكار العنف كما تقول أبرز النظريات السياسية في العصر الحديث، وتحتاج الدولة في بعض الحالات إلى استعمال أقصى درجات العنف، لكن هناك شيء مؤكد في كل الأحوال: أساس مشروعية عنف الدولة هو حماية الإنسان من عنف الإنسان، بدء من الفئات الأكثر هشاشة: الأطفال، النساء، الأقليات، إلخ. عندما تفرط الدولة في حماية حقوق الفئات الهشة تفقد مشروعية احتكار العنف، ومن ثمة قد تنتهي إلى فقدان مشروعيتها أيضاً.