تنتظر والدتها للذهاب لعيادة طبيب النساء، للكشف وتحديد موعد ولادتها مع الطبيب التي تتابع معه منذ بداية الحمل، استقبلتهما الممرضة ودخلا حجرة الكشف معا، وبدأ الطبيب في توقيع “كشف نسا” عليها دون الرجوع إليها، أو الاستئذان منها، ترى والدتها الأمر طبيعيا، وترفضه هي وتعتبره نوعا من أنواع الإساءة والعنف.
ما تعرضت لها حنان عبد الظاهر في عيادة طبيب النساء، يتكرر في عيادات ومستشفيات عدة، يكشف الطبيب على السيدة دون الرجوع إليها، أو إجراء جرح قطعي عند الولادة الطبيعية دون إخبارها أو شرح الأمر لها بالإضافة لتعرضها للإهانات اللفظية أثناء الولادة.
تلك الممارسات التي تبدو “عادية” للبعض، ويجرى التعامل معها كنوع من أنواع طقوس المهنة، تعتبرها منظمة الصحة العالمية “عنف أثناء الولادة”، وفي المقابل يدرس الطلاب في مقررات كلية الطب حقوق المرأة أثناء الإنجاب، ويصطدمون بواقع مختلف عند التجارب العملية في المستشفيات.
جسدي ليس ملكي هو ملك طبيب النسا
روت حنان “لما الدكتور كشف عليا نسا، وفجأة لقيته بيدخل إيده جوايا، وأنا اتخشبت لأني فجأة حسيت إن جسمي مش ملكي، هو بدأ ينفعل عليا، ويقولي افتحي رجلك يا مدام، لو مفتحتيش رجلك هكتفك، ومعايا مامتي كل اللي كانت بتقوله بلاش فضايح وطي صوتك في عيانين بره، وأنا كل اللي كنت بقوله، انت بتعمل إيه إزاي متستأذنش مني”.
بعد الكشف، ذهب الطبيب لمكتبه، وحدد لحنان موعد الزيارة المقبلة، بينما ظلت هي في السرير غير قادرة على الحركة من وهل الصدمة.
“قال لماما إن لسه قدامي شوية على الولادة وهنستنى أسبوعين كمان ونكشف تاني وساعتها نحدد هولد طبيعي ولا قيصري، أنا مكنتش سامعه أي حاجة حواليا ولا شايفة غير مشهد الكشف عليا بالعافية، والتعنيف، وكأني مش من حقي أقول لأ ولا اتوجع”.
“كفاية دلع”
تعامل الطبيب مع السيدة بنوع من التعنيف، ووصف رد فعلها بأنه “دلع”، وصدقت والدتها على الأمر “لما اتحركت من على السرير وأنا لسه هسأله ليه مسألتنيش أنه ممكن تكشف نسا ولا لأ، ملحقتش ولقيته بيكمل تعنيف وبيقولي انت متدلعة أوي يا مدام، أمال اتجوزتي إزاي، وماما كانت بتصدق على كلامه، وتقوله معلش هي بنت وحيدة”.
روت حنان ما حدث لزوجها عند عودتها للمنزل، وجاء رد فعله مشابها لرد فعل والدتها “هو عارف شغله أكيد، انت اللي خوافه شوية”، فطلبت منه تغيير الطبيب والبحث عن آخر للولادة، لكنه رفض بسبب ضيق الوقت.
“قالي مفيش وقت وخلينا نخلص بقى، كمان هو دكتور معروف إنه شاطر ومشهور، وأنا علشان ده أول حمل ليا، مكنتش قادرة أفهم هو ده عادي ولا لأ”.
جاء موعد الكشف الثاني وذهبت حنان بصحبة والدتها مجددا للكشف، هيأت نفسها لما سيحدث “كنت عارفه إنه هيمد إيديه ويدخلها جوا جسمي وأنا مش هعرف اعترض، وزي ما قال جوزي وماما مفيش وقت، وحدد لي ميعاد الولادة وإنه مش هينفع أولد طبيعي ولازم أولد قيصري، ووقتها حسيت إن ده أرحم علشان أتخدر ومحسش بأي حاجة منه، وطلبت منه أخد بنج كلي يوم الولادة”.
في اليوم المحدد للولادة، غاب عن حنان مشاعر استقبال مولود جديد، وسيطرت عليها فقط مشاعر الخوف من التعامل مع طبيب يستخف بآلامها، ومحيطين يؤدون أفعاله “معرفتش في اليوم ده أحس إني مستنية مولد جديد بفرحة، كل خوفي من الدكتور اللي بقى مصدر رعب ليا، ومصدر خوف من إني أقول له أي آلام حاسه بيها علشان ميعنفنيش أو يستخف بيا، وبقيت حاسة إن يوم الولادة كل حاجة بتم أوتوماتيكي بدون مشاعر، مريضة بتدخل أوضة بطنها تتفتح ويخرج بيبي ويستقبل اللي بعدها وهكذا، وأول ما جه الدور عليا لبست هدوم الولادة من المستشفى، ودخلت أوضة الولادة، لقيت الدكتور ومعاه دكتور تخدير وممرضات، ولقيته بيقول لدكتور التخدير باستخفاف المدام بتخاف فهنديها بنج كلي، وبص لي وقالي مش انت لسه بتخافي يا مدام، وأنا كل ده مش برد، مش بنطق عاوز اختفي عن المكان ده بأسرع وقت”.
خرجت حنان من غرفة العمليات وبدأت في الإفاقة من تأثير البنج، تسمع صوت يأتي من بعيد تهنئة ومباركات من الأسرة بقدوم المولود، لا تستطيع النطق أو التعبير أو المشاركة، ترى مشاهد كأنها من فيلم صور قبل قليل، كانت هي إحدى بطلاته من المعنفات.
عنف الولادة مصطلح معروف عالميا، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، التي أعدت دراسة أوضحت خلالها تعرض 42% من النساء للعنف خلال الولادة في 4 دول، هي غينيا وغانا، ونيجيريا ومينامار، تتمثل في الصفح عند الولادة، والتعنيف اللفظي، وفي مصر أعدت دراسة على 1875 سيدة، ما بين 18 لـ43 عاما، أثبت أن 44.1% من السيدات تعرضن للعنف أثناء الولادة، وتزايد الأمر في الطبقات الأقل تعليما، والأكثر فقرا، وجاء شكل العنف المشترك بين السيدات، وهو تعرضهن للركل أثناء الولادة.
حركات اجتماعية للمطالبة بحقوق المرأة
الأمم المتحدة ذكرت أن النساء تعاني من انتهاكات تتراوح بين الإساءة اللفظية والسلوك الجنسي والإهانة العميقة، إلى العنف البدني مثل الإجراءات الطبية غير الضرورية والإلزامية والروتينية التي تنفذ دون موافقة كاملة ومستنيرة، وقالت المقررة الخاصة بالأمم المتحدة، إن بعض النساء يخضعن للعلاج الجراحي دون تخدير، والإزالة الجراحية للمشيمة والخياطة ما بعد الولادة، مشيرة إلى أنهن قد يتعرضن أيضا لانتهاكات الخصوصية والإيذاء البدني. وأضافت “غالبا ما يتم إسكات النساء بسبب مخاوف من المحرمات والخزي والاعتقاد بأن الولادة هي الحدث الذي يتطلب معاناة من جانبهن”.
ومنذ عام 2015، نشأت حركات اجتماعية جديدة تطالب بحقوق المرأة في خدمات الصحة الإنجابية وأثناء الولادة في العديد من البلدان وكسرت المحظورات وألقت الضوء على أنماط سوء المعاملة والعنف التي تعاني منها النساء، مما يدل على أن سوء المعاملة والعنف أثناء الولادة متأصلة في أنظمة الصحة في جميع أنحاء العالم، وفي مصر نشأت حركات مماثلة للمطالبة بحقوق المرأة في كل مناحي الحياة، ومنها أيضا حقوقها في غرف الكشف والولادة.
تجربة حنان الأولى سببت لها ندبا كبيرا لن يندمل بسهولة بحسب قولها، ولكن ما حدث مع علا عبد السلام، يؤكد ما وصفه الأطباء بالثقافة الذكورية في المجتمع “ولدت مرتين وكنت متابعة مع دكتور نسا وعمره مسألني وخد رأيي في كشف النسا، وفي الولادة اللي كانت طبيعية في المرتين كان بيفتح فتحة ويديني فيها غرزتين أو 3، وأنا كل السنين دي متخيلة إن ده اللي بيحصل وده العادي ومش من حقي أسأل”.
أصيب طبيب النساء التي كانت تتابع معه علا بوعكة صحية، فلجأت للبحث عن طبيب أو طبيبة أخرى عند حملها الثالث، وبعد ترشيحات الأصدقاء والأقارب، ذهبت لطبيبة مشهود لها بالكفاءة “طول متابعة الحمل كانت بتستأذني في كل خطوة بتعملها سواء كشف بالسونار أو النسا في أواخر الحمل، وكنت مستغربة أوي، وهي مصرة تشرح لي كل حاجة ممكن تقابلني في الحمل، وبتسألني لو عندي استفسارات، وفي مرة سألتها هو ليه كل ده، وليه كل خطوة لازم تسألني عليها إذا كنت موافقة ولا لأ، ولقيتها بتقولي إن ده العادي، وعكس كده هو اللي مش عادي”.
في اليوم المحدد للولادة، أخبرت الطبيبة علاء إنها قد تحتاج لفتح غرزة أو 2 لتسهيل عملية نزول الجنين، وسألتها عن موافقتها عن الأمر عند الحاجة له، وهو ما لم تحتاجه علا عند الولادة، وخرج الجنين دون فتح أو غرز “التجربة دي كانت مختلفة أوي، وحسيت وقتها قد إيه بالإهانة وأنا محدش بياخد رأي في قرار خاص بجسمي، حتى لو كان الحد ده الطبيب بس في النهاية ده جسمي أنا”.
ثقافة ذكورية
مروة رفعت طبيبة أمراض النساء والتوليد، ترى أن هناك ثقافة ذكورية تسيطر على قطاع كبير من الأطباء، وهي ما تدفعهم لممارسات العنف عند الولادة بحق السيدات “الست من حقها تعرف كل حاجة هتم في جسمها، وتكون بموافقتها، لكن للأسف ده مش بيحصل في كل العيادات، وبيتم التعامل مع النساء وخاصة من جانب الأطباء الذكور، إنه مش من حقها تعرف ولا تعترض ولا تختار، وأحيانا بيتم توجيه الأمور دي وشرحها للزوج مش الزوجة اللي هو أصلا مش صاحب القرار”.
بجانب الثقافة الذكورية التي تدفع الأطباء لممارسة العنف ضد النساء باعتبارهم الأضعف، والتي تسيطر أيضا على عدد كبير من النساء فلا يسعين للاعتراض والمطالبة بحقوقهن، تضيف الرفاعي للمنصة، أن هناك جزء من التعليم بكليات الطب يؤكد تلك النظرية، وهو التضارب بين الدراسة العلمية والعملية “في الكتب بيكون في حاجة الطلبة بيصطدموا بعكسها عند التجارب الواقعية، وهنا بيطلع كتير من الدكاترة بيطبق اللي شافه في الدراسة العملية في المستشفيات اللي تمت على إيد أساتذته”.
تصدق على حديث طبيبة النساء، سارة زكي، طالبة بالفرقة النهاية بكلية الطب بجامعة الإسكندرية، “درست في السنة الخامسة النساء، وفي الكتب الطبية اللي هي المقررات اللي بتتدرس للكل، فيها حقوق واضحة أوي للستات، وإنه مش الأساس في الولادة الطبيعية تفتح فتحة لتسهيل الأمر ولو كانت مطلوبة يبقى لازم نقول للمريضة ونشرح لها هنعمل ده ليه لو البيبي مثلا راسه كبيرة، وكمان إنه الدكتور لازم يوضح للمريضة الفرق بين الولادة القيصري والطبيعي، والمريضة ليها الحق في الاختيار”.
ما استمعت إليه سارة في المحاضرات جاء مخالفا لما رأته في التدريب العملي “في المستشفى الجامعي لقيت عكس ده بيحصل واحنا بنحضر ولادات طبيعي عملي، الدكاترة نازلين تعنيف في الستات من غير سبب، لأن كمان تدريبنا بيكون في مستشفيات حكومية، اللي بيلجأ لها الطبقة اللي مش معاهم فلوس تروح مستشفى خاص، ولو الست حاولت تفرد رجلها وده تصرف لا إرادي منها مع ألم الولادة، كان في دكاترة بتضربها والزغيق لها لو صوتت، ومفيش أي محاولة لاستأذانها قبل فتح الجرح اللي بيحصل كأنه شكل روتيني، وفي كمان دكاترة كانت بتفتح من غير حقنة بنج وده طبعا غير آدمي، وبيتنافى تماما مع اللي موجود في الكتب واللي بندرسه”.
اقرأ أيضا:
“مشرط الاستسهال”.. حكايات الإجبار على الولادة القيصرية
أدبيات الطب
الدكتور مجاهد الحمامي، استشاري أمراض النساء والتوليد، يقول إنه وفقا لأدبيات ممارسة الطب، للمريض حقوق، منها عدم إجبار السيدات على الكشف أو الفحص المعين “على الطبيب قبل القيام بأي إجراء تشخيصي أو علاجي أخذ موافقة شفهية والأفضل خطية من المريضة بعد أن يشرح لها بالتفصيل ما هو الكشف أو الفحص، ويترك لها القرار بعد توضيح تأثير رفضها على صحتها أو على سير التشخيص والعلاج وبالتالي الشفاء، وتحميلها مسؤولية هذا الرفض، فلا يحق للطبيب إجراء اأي فحص أو علاج قبل أن يستأذن من المريضة”.
العنف اللفظي والتعنيف أثناء الولادة أمر مرفوض، كما قال حمامي، ومن حق المريضة اللجوء لنقابة الأطباء عند تعرضها لهذا الأمر، ومقاضاة الطبيب “هذه التصرفات تعد خرقاً للقسم الطبي الذي أقسم عليه الطبيب عند تخرجه وقبل مزاولة المهنة اللذي ينص على رعاية وعناية المريض، وتقديم اأضل الخدمات الطبية له بإنسانية واحترام، وأيضا منحه حقه بالخصوصية والسرية”.
يتسبب العنف التوليدي في أضرار عدة على السيدات بعد الولادة، ومنها الدخول في فترة طويلة من الاكتئاب، وعدم القدرة على التفاعل مع الطفل أو الرضاعة الطبيعية، مع الهروب من فكرة الحمل مجددا، للبعد عن مواجهة نفس المصير، وفقا لما أكده حمامي.
الخوف من الوصم
ويضيف حمامي أنه يمكن مقاضاة الأطباء الذين يقومون بتلك الأفعال، ولكن كثير من السيدات لا يتقدمن بالإبلاغ عن تلك الوقائع، وذلك لغياب التوعية الخاصة بالأمر، ومنهم الكثيرات يعتبرن الأمر طبيعي ويتم وليس لهن الحق في الاعتراض، ومنهن أيضا من يخافن من وصم المجتمع عند الحديث عن أي شيء يخص أجسادهن، فلا يلجأن للمقاضاة.
ربما ما دفع كلا من علا وحنان للعيش في تلك التجربة، عدم معرفتهم بحقوقهن في غرف الكشف والولادة، وهو ما أشارت إليه طبيبة النساء والتوليد ، فعند البحث عبر موقع وزارة الصحة، تجد السيدة المقبلة على الحمل، معلومات كثيرة عن فترة الحمل والولادة، وصولا لطرق دفن الجنين إذا تعرض للوفاة، ولكنها لا تجد معلومات حول حقوقهن، وكيفية الإبلاغ عن تعرضها لأي انتهاك يخالف تلك الحقوق، فتجهل العديد من السيدات تلك الحقوق، حتى تتحول تلك الانتهاكات لأمور عادية، بل روتينية تتم في العيادات والمستشفيات.