رغم كونها حلم البشرية القديم وضالة الشعوب التي لا تخمد إلا أنها لا تزال حلما بعيد المنال وغير متحقق ربما في أغلب بلدان العالم. ويستقطب مفهوم العدالة الاجتماعية مدرستين رئيسيتين، المدرسة الليبرالية والليبرالية الجديدة، والمدرسة الاشتراكية، ولكل منهما منظوره لماهية العدل الاجتماعي وآليات تحقيقه مما لا يتسع المقام لمناقشته هنا.

في منظورنا، تمثل العدالة الاجتماعية، أو على الأقل الحد الأدنى منها، منظومة كاملة من السياسات الاجتماعية، فلا يمكن مثلا اختصارها في العدالة القانونية فحسب وإن كانت تتطلب حزمة تشريعات خاصة لتحقيقها، ولا يمكن أيضا اعتبارها (تكافؤ فرص بين المواطنين) لأن تكافؤ الفرص يظل بلا معنى لو لم يكن هناك تكافؤ – على الأقل تقارب – في المراكز الاجتماعية.

بل ويمكن الذهاب إلى ما هو أبعد أنها تتطلب وجود ثقافة اجتماعية تؤمن بالحقوق العامة والخاصة للمواطنين، وبالتساوي الأدبي والقانوني بين الجنسين، بل وتؤمن كذلك بحقوق المختلفين جنسيا، وهي عملية لا يحسمها القانون بمفرده، وأن أحد الشروط الهامة لتحقيقها.

وتمثل المرأة (حوالي نصف سكان العالم) مثالا صارخا على غياب العدالة الاجتماعية، وبالقطع يمكن بل ويجب إضافة الفئات المهمشة وأغلب قطاعات شعوب الدول الفقيرة، كونها تعاني (باستثناء سيدات الأسر الموسرة نسبيا) كل أنواع الظلم الاجتماعي والتمييز وانعدام الفرص المتكافئة بل والعدوان سواء من جهة الدولة والتشريعات المجحفة، أو من جهة المواطنين المرتبطين بثقافات وعقائد تقوم على التمييز ضد النساء.

نركز هنا على قضايا النساء بوصفها تمثيل وتجسيد مكثف لغياب العدالة الاجتماعية في مصر – وفي أغلب دول الشرق الأوسط – من خلال مجموعة من الإشارات السريعة.

الإطار الثقافي لعدم المساواة

تتسم بلدان المنطقة – ومنها مصر – بهيمنة بارزة للثقافة الذكورية المستندة الى مرجعيات دينية، ينظر إلى المرأة على أنها مخلوق ضعيف وقليل الذكاء لا يمكن الاعتماد عليه أو قبول رئاسته أو احتلاله لمواقع قيادية، وإن الرجل يملك سمات وخصائص أعلى من المرأة. وتعبر تلك الثقافة عن نفسها في صور عديدة أبرزها شيوع تبرير التحرش بالمرأة مطالبة إياها إما بالمكوث في المنزل او ارتداء أزياء محتشمة (النقاب أو الحجاب) إن خرجت، بل وتطالبها بأن لا يكون خروجها لسبب عادي بل لضرورة قصوى. وإن دورها الاجتماعي الرئيسي أو الوحيد هو الإنجاب وخدمة الزوج ورعاية الأطفال.

كما تبرر تلك الثقافة أيضا العنف المنزلي ضد النساء، سواء من الأب أو الأخ أو الزوج، باعتباره عنفا تربويا مشروعا ويساعد في تقويم المرأة، وأنها كائن خبيث لا يمكن تقويم سلوكه دون استخدام عنف تربوي، وتميل النساء المتأثرات بتلك الثقافة، وهن الأغلبية، إلى قبول هذا العنف باعتباره حق للرجل القيم عليها، بل ويعد عيبا في المرأة أن ترد العدوان أو ترفضه.

وتتحمل النساء أعباء أكبر، وصور أجحف وعدوان أشد، في ظل جائحة كورونا.

التصدي لآفة العنف ضد المرأة: أمر حاسم لتحقيق التعافي المستدام، يشير الباحث  أكسيل فان تروتسنبيرغ – /axel-van-trotsenburg-5b3b8a86، في مقال نشر بموقع أصوات في 12/08/2020 إلي الواقع التالي:

عندما ضربت جائحة كورونا جميع البلدان، فإن 243 مليون امرأة كن قد تعرضن للعنف الجنسي أو الجسدي من جانب الشريك في العام السابق وحده. والإحصاءات الأخرى صارخة بالقدر نفسه: فقد تعرضت 15 مليون فتاة في سن المراهقة على مستوى العالم ممن تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عاماً لممارسة الجنس بالإكراه، وتتعرض 137 امرأة للقتل على يد أحد أفراد أسرتها كل يوم.

لقد تعلمنا من الجوائح السابقة أن العديد من العوامل مثل الضغوط الاقتصادية وقلة القدرة على التنقل والوصول إلى الخدمات الصحية والحجر الصحي والعزلة الاجتماعية والعلاقات الاستغلالية، تتضافر مع بعضها بعضاً لتغذي تصاعد العنف ضد المرأة.

ونشير هنا إلى تعريف العنف الممارس ضد النساء الذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة ( تتضمن أشكال العنف ضد المرأة والفتاة العنف الممارس من الشريك الحميم؛ وزواج الأطفال والزواج المبكر والزواج القسري؛ والحمل القسري؛ وجرائم الشرف؛ وختان الإناث؛ والعنف الجنسي من غير العشير؛ والتحرش الجنسي؛ والاتجار؛ والعنف الذي تتغاضى عنه الدولة؛ والعنف ضد المرأة والفتاة في حالات النزاع.) وبطبيعة الحال نصيب النساء الشرقيات من هذا العنف أكبر بكثير مما تتعرض له النساء في المجتمعات الأوروبية والدول الأكثر تقدما، حيث تهيمن الأفكار التقليدية الخاصة بختان النساء وزواج الصغيرات وجرائم الشرف التي للأسف تجد تعاطفا مع الذكر الجاني في التشريعات العربية وكذلك في الأعراف والعادات الشرقية بوجه عام.

ويمكن أن نضيف ما تتعرض له النساء من تقييد حقهن في الانفصال عن الشريك / الزوج بإرادتها الحرة وما تتعرض له من تعقيدات قانونية وقضائية في حال رغبتها في الانفصال بجانب النظرة السلبية التي يحملها المجتمع للمرأة المطلقة وهذا كله يمثل ضغوط قصوى على النساء وعلى حريتهن لا يعاني نظيره الذكور الشرقيين الذين يباح لهم في عقائدهم الدينية الجمع بين أكثر من زوجة والطلاق الحر وتقييد حق انتقال شريكته لدولة أخرى.

لا شك أن الفقر وانخفاض مستوى التعليم يقع في خلفية أغلبية تلك الصور من الإجحاف والعدوان ضد النساء، فهو الذي يدفع الأسر الفقيرة لتزويج بناتهم مبكرا للتخلص من أعبائهن أو لزوج ثري عجوز ينتشلهم من الفقر، إذ ينتشر زواج القاصرات في المحافظات الفقيرة والقرى الأشد فقرا في ريف مصر، ويتعرض الكثير من تلك الفتيات الصغيرات إلى عمليات اتجار فعلى بالبشر عن طريق سماسرة زواج محليين أو سماسرة تخديم أو غير ذلك العمليات التي تقع ضحيتها الصغيرات من الأوساط الأشد فقرا في مصر.

اقرأ أيضا:

الثقافة والعقلية الذكورية وراء تنميط صورة المرأة فى المناهج التعليمية

المرأة والمشاركة الاجتماعية

من الملاحظ أن نسبة النساء في المراكز القيادية في مصر ضئيلة للغاية في أغلب القطاعات والمؤسسات، وكذلك نسبتهم في المناصب التمثيلية سواء الرسمية (برلمان او محليات) أو الاهلية مثل النقابات بجناحيها المهني والعمالي. فواقع المرأة والقيود الثقافية والاجتماعية بالإضافة لنظرة الانتقاص اجتماعيا وثقافيا يحد بشدة من فرص المشاركة المتكافئة او تمثيل النساء بنسبة تعادل أو تقارب وزنهم الاجتماعي. إذ ترفض الثقافة الشعبية السائدة فكرة قيادة النساء لأسباب عقائدية إلى درجة خوض قضاة مجلس الدولة المصري حرب عنيفة ضد تولي النساء وظائف قضائية.

وتشير دراسة شاملة، عن وضع المرأة المصرية في العمل، وضعها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2018، تحت عنوان “تمكين المرأة بمجال العمل في ظل أهداف التنمية المستدامة”، إلى أن نسبة مشاركة الإناث في وظائف الإدارة العليا عام 2017، هي 15.9%، مقابل 84.1% للذكور.

وعلى مستوى التمثيل السياسي منذ أول مشاركة سمح بها للنساء في الانتخابات البرلمانية عام 1957 كان وجود نائبات من النساء ضئيلا للغاية، الأمر الذي دفع بالدولة عام 1979 غلى تخصيص نسبة معينة من مقاعد البرلمان (30 مقعد)  إضافية للنساء تحت اسم نظام الكوتة الأمر الذي ارتفع بتمثيل المرأة من 4 أو 5% إلى 8%. وألغت السلطات المصرية نظام الكوتة عام 1986 وحملت القوائم الحزبية مرشحات نساء بنسبة محدودة لكنها أفضت لتمثيل أكبر من نسبة الكوتة، وبإلغاء القوائم الحزبية عادت النسبة إلى الانخفاض.

 

الانتخابات المرشحات الفائزات
1987 22 14
1990 45 7
1995 71 5
2000 109 4
2005 127 4

وعادت الدولة مجددا للكوتة النسائية بعد أن رفعت المقاعد المخصصة لهن إلى 64 مقعدا في 2009 بعد أن كانوا لا يتجاوزون 2% من برلمان 2005 / 2010 (9 عضوات فقط منهن 5 معينات) واستحدثت دوائر مغلقة على مرشحات فقط تصل إلى 32 دائرة. وبلغت أعلى نسبة تمثيل للنساء كانت في انتخابات 2018 حيث وصلت الى 15% من إجمالي عدد المقاعد مقابل 85% للرجال، وأخيرا وصلت نسبة النساء من المقاعد 25% وفقا للتعديلات الدستورية في 2019.

إلا أن الملاحظ هو أن الدولة في حالات تدخلها لتعيين نساء في المجالس التمثيلية غالبا ما تختار نساء يدينون بالولاء إلى أجهزة الحكم ولا يولون اعتبارا لقضية العدالة أو ما تتعرض له النساء من أجحاف وتفاوت. ومن ثم لا يعتبر هذا مؤشرا على تقدم في تمكين النساء إلا من الناحية الشكلية فقط.

واللافت للنظر أيضا هو احتكار الرجال لقيادة الأحزاب والمنظمات النسائية – فبالكاد يمكن العثور على امرأة واحدة ترأست حزبا سياسيا في جميع الاتجاهات السياسية. وطبعا لم يشهد تاريخ مصر الحديث امرأة واحدة تولت مقعد رئيس الوزراء.

العمل

في إطار العمل والنشاط الاقتصادي نشهد تمييزا واضحا ضد النساء في فرص التوظيف والأجر فضلا عن أنواع أخرى من الاستغلال تتعرض لها المرأة من زملائها أو رؤسائها الرجال، مثل التحرش والاستغلال الجنسي.

تشير الأرقام الرسمية إلى أن نسبة البطالة بين الإناث تفوق بكثير نسبة البطالة بين الذكور، في دراسة عامة عن وضع المرأة المصرية في العمل في الفترة من 2005 إلى 2017، نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تحت عنوان “تمكين المرأة بمجال العمل في ظل أهداف التنمية المستدامة” نجد عددا من المؤشرات والبيانات التي توضح وضع المرأة المصرية في العمل، تمثل أهمها في:

بالنسبة للإناث فقط، انخفض معدل التشغيل لهن خلال الفترة المشار إليها، وسجل أعلى نسبة بـ 18% عام 2010 مقابل 71.3% للذكور، فيما جاءت أقل نسبة عام 2017 بـ 16.9% للإناث، مقابل 61.3% للذكور.

ينخفض متوسط الأجر النقدي للإناث وفقاً للمهن مقارنة بالذكور.

وتشير الباحثة بالبنك الدولي، آرني هويل إلى وجود فجوة كبيرة بين الجنسين في الدخل والأجور، حتى بعد تثبيت أثَر العوامل الخاصة بنوع الصناعة والمهنة. فدخل النساء في المتوسط يقل ما بين 10% و30% عن دخل الرجال العاملين، ولكن هناك تفاوتات كبيرة بين البلدان في هذا الشأن. وخلص التقرير الذي صدر مؤخرا عن فريق الأمم المتحدة الرفيع المستوى بشأن التمكين الاقتصادي للمرأة إلى أن الفجوة غير المبررة لها في الأجور بين الجنسين تكشف عن التفرقة بين الجنسين في المعاملة.

وإن تأثير جائحة كورونا على النساء العاملات أكبر منه على الرجال، فقد ألحقت الاضطرابات الاقتصادية بالفعل أضراراً كبيرة بتلك الفئات الأكثر احتياجاً على نحو لا يتناسب مع ظروفهم، مما يهدد بسقوط 47 مليون امرأة وفتاة أخرى إلى براثن الفقر المدقع. ويزيد احتمال أن تعمل النساء في الاقتصاد غير الرسمي، الأمر الذي يحول دون استفادة الكثيرات منهن من برامج الحماية الاجتماعية الحيوية، لاسيما في البلدان منخفضة الدخل. علماً بأن النساء يتحملن أيضاً نصيباً أكبر من أعباء أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر في المنزل، وقد ازدادت هذه الفجوة اتساعاً خلال تفشي فيروس كورونا.

بل إن وباء كورونا كشف بشكل كبير عورة النظام الدولي، وتدفع البشرية ثمنا فادحا لتغلب منطق الربح وسياسات الخصخصة في القطاع الصحي أو التعليم والعمل، فعلى صعيد دولي تجلى كورونا ككارثة لا يمكن معالجتها إلا بإحداث تغيير جذري ليس فقط في قطاع الصحة بل في النظام العالمي برمته الذي من المتوقع أن يواجه العديد والأوبئة البيئية في الحقبة القادمة.

ومن العوائق التي تحد من قدرة المرأة على العمل نشير إلى:

تحرش أرباب العمل بالعاملات

التعرض للتحرش والمضايقات في الطريق أو في المواصلات العامة

انخفاض المهارات وانخفاض مستوى تعليم النساء وحرمانهم أو عدم حصولهن على تعليم مناسب

التقاليد وسلطة الزوج

الإرهاق الزائد بالأعباء المنزلية

والكثير من النساء لا يجدن أمامهن سوى أعمال غير مناسبة وخالية من الإبداع أو تطوير المهارات، وكذلك يعمل النساء في أعمال متدنية مثل كنس الطرق أو الخدمة لدى الغير أو العمل في أماكن لوقت متأخر ليلا مما يعرضهن للمخاطر. وبوجه عام يعمل أكثر النساء في اعمال متدنية أو غير مستقرة وبأجور منخفضة.

اقرأ أيضا:

معهد جنيف: “التمييز وعدم المساواة”.. واقع المرأة بالشرق الأوسط

التشريعات والإجحاف

رغم وجود قدر من التقدم في المجال التشريعي المتماس مع النساء والذي يخفض ما يتعرضن له من ظلم وإجحاف، لكن لا تزال هناك حزمة كبيرة من التشريعات تحمل تمييزا صارخا ضد النساء.

على سبيل المثال في قضايا الشرف تخفض العقوبة على الزوج إذا ضبط زوجته مع عشيقها فقتلها أو قتلهم.

الضحية الرئيسية في جرائم الدعارة هي المرأة إذا شهد ضدها شريكها اعتبر شاهدا لا متهما، فضلا عما يتعرض له المتهمات في هذا النوع من القضايا من انتهاك كرامة ومعاملة متدنية من رجال البوليس سواء عند القبض عليهن أو في أماكن الاحتجاز. ولا أثر لشهادة المرأة على شريكها إذ تظل معتبرة مقترفة للجريمة.

أما المواريث فهي مثال صارخ على الإجحاف القانوني ضد النساء، إذ تحصل المرأة على نصف ما يأخذه الرجل من الميراث.

وتعتبر العقوبات البسيطة – مثل عقوبة جريمة التحرش – نوعا من الإجحاف أيضا بل وتشجع على تكرار الجريمة. وحتى الآن لا يوجد نص في قانون العقوبات بشأن الاغتصاب الزوجي. لذلك، لا ينظر إلى الاغتصاب الزوجي باعتباره جريمة أو حتى تصرف منحط إخلاقيا، بل على العكس ينظر اليه باعتباره حق مشروع للزوج.

هذه أمثلة على غياب العدالة الاجتماعية وحجبها عن نصف المجتمع، هذا بغض النظر عما يحدث للفئات الفقيرة وخاصة النساء المعيلات أو المسجونات بسبب ديون صغيرة لعدم القدرة على سدادها. فلا يمكن لمجتمع أن يكون عادلا أو لنظام أن يكون منصفا إذا استمر هذا الإجحاف بحقوق النساء وحريتهن.

توصيات من أجل تحقيق العدالة

العدالة الاجتماعية لا تزال حلما بعيد المنال، والسياسات الدولية – خاصة في ظل هيمنة الليبرالية الجديدة – لا تبشر بخير بل تزيد الأوضاع سوء، وجل ما يمكن التفكير في تحقيقه الآن هو حد أدني من العدالة لن يتحقق سوى بمزيد من الضغط ومزيد من النضال.

1 – تطوير المناهج التعليمية في اتجاه احترام النساء واحترام حقوقهن وحريتهن الشخصية

2 – تشديد العقوبة في جرائم التعرض لأنثى بكل صورها

3 – فرض كوته في مقاعد المجالس النقابية والمحلية لا تقل عن 30 % .

4 – تطوير النظام التشريعي في شئون الأسرة والطفل ليشمل حقوق متساوية بين الجنسين.

5 – تجريم كل صور احتقار النساء في الإعلام.

6 – حقوق عمل متساوية وفرص عمل متساوية.

7 – توفير إرشاد صحي ورعاية صحية تكفلها الدولة مجانا لجميع المواطنين.