في تغيير واضح للسياسة الأمريكية تجاه إثيوبيا، أعلنت وزارة الخارجية إلغاء قرار تعليق المساعدات المقدمة لإثيوبيا. وهو القرار الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترامب، على خلفية النزاع حول سد النهضة. لكنها ذكرت أمس أن هذا لا يعني أن جميع المساعدات الأمنية والتنموية التي تبلغ قيمتها حوالي 272 مليون دولار ستبدأ على الفور في التدفق. بل يعتمد ذلك على التطورات الأخيرة. وذلك في إشارة واضحة إلى الصراع الدموي في منطقة تيجراي، وفق ما نقلت وكالة “أسوشييتد برس“.

قالت الخارجية الأمريكية إنها أبلغت حكومة إثيوبيا بذلك. لكن لم ترد متحدثة باسم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على طلب للتعليق من الوكالة الأمريكية.

أزمة سد النهضة.. من 2001 إلى ترامب

كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، أمر العام الماضي بتعليق المساعدات لأديس أبابا، بسبب قضية “سد النهضة”. حيث تؤكد إثيوبيا أن السد الكبير -الذي تبلغ تكلفته 4.6 مليار دولار- ضروري للتنمية وانتشال الملايين من الفقر. فيما تقول مصر إنه يهدد إمداداتها المائية. ويشير السودان إلى ضرره الكبير على الأمن القومي السوداني. فكيف بدأت هذه الأزمة؟

في العام 2001، أعلنت إثيوبيا عن نيتها إنشاء عدد من المشروعات على أنهارها الدولية. وذلك في استراتيجية وطنية للمياه كشفت عنها حكومتها حينذاك. بينما في مايو 2010 وقعت إثيوبيا مع دول (أوغندا – كينيا – تنزانيا – رواندا – بوروندي) اتفاقية “عنتيبي”. وهي الاتفاقية التي أنهت الحصص التاريخية لمصر والسودان وفقًا لاتفاقيات عامي 1929 و1959. وقوبلت هذه الاتفاقية برفض شديد من مصر والسودان.

وفي أبريل 2011، أعلنت الحكومة الإثيوبية تدشين مشروع إنشاء سد النهضة، لتوليد الطاقة الكهرومائية. لتدخل بعدها أزمة السد مرحلة المفاوضات طويلة الأمد والتي استمرت لـ 10 سنوات دون حل.

مسار التفاوض بشأن سد النهضة

في سبتمبر 2011، اتفقت السلطات المصرية والإثيوبية على تشكيل لجنة دولية، تدرس آثار بناء سد النهضة. وفي مايو 2012، بدأت اللجنة أعمالها بفحص الدراسات الهندسية الإثيوبية، ومدى التأثير المحتمل للسد على مصر والسودان.

في مايو 2013، أصدرت لجنة الخبراء الدوليين تقريرها بضرورة إجراء دراسات تقييم لآثار السد على دولتي المصب. وقد توقفت المفاوضات بعدما رفضت مصر تشكيل لجنة فنية دون خبراء أجانب. وفي يونيو 2014، اتفقت السلطات في مصر وإثيوبيا على استئناف المفاوضات مرة أخرى.

في سبتمبر 2014، عقد الاجتماع الأول للجنة ثلاثية، تضم مصر وإثيوبيا والسودان. ذلك للتباحث حول صياغة الشروط المرجعية للجنة الفنية وقواعدها الإجرائية، والاتفاق على دورية عقد الاجتماعات. وفي أكتوبر 2014 اتفقت مصر وإثيوبيا والسودان على اختيار مكتبين استشاريين، أحدهما هولندي والثاني فرنسي لعمل الدراسات المطلوبة بشأن السد.

وثيقة مبادئ سد النهضة

في مارس 2015، وقع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره السوداني عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا هايلي ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة “إعلان مبادئ سد النهضة”. وقد تضمنت الوثيقة 10 مبادئ أساسية. تتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية.

https://www.youtube.com/watch?v=OwOVKwDVfhk

وفي ديسمبر 2015، وقع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على وثيقة الخرطوم. وقد تضمنت التأكيد على اتفاق إعلان المبادئ الموقع من قيادات الدول الثلاث. وتضمن ذلك تكليف مكتبين فرنسيين بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع.

لكن في مايو 2016، أعلنت إثيوبيا أنها على وشك إكمال 70% من بناء السد. وفي مايو 2017، جرى الانتهاء من التقرير المبدئي حول سد النهضة. واندلع خلاف بين الدول الثلاث على التقرير. وفي أكتوبر 2017، أعلنت مصر موافقتها على التقرير المبدئي. وفي نوفمبر أعلن وزير الري المصري عدم التوصل لاتفاق. بعد رفض إثيوبيا والسودان التقرير المبدئي. بينما أعلنت الحكومة المصرية أنها ستتخذ ما يلزم لحفظ “حقوق مصر المائية”.

في ديسمبر 2017، اقترحت مصر على إثيوبيا مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية. وفي يناير 2018، أعلن رئيس وزراء إثيوبيا، هايلي مريم ديسالين، رفض بلاده دعوة من مصر لتحكيم البنك الدولي. فيما أعلنت أطراف الأزمة مجددًا في أبريل 2018 عدم التوصل إلى اتفاق.

آبي أحمد.. مرحلة جديدة من التعنت الإثيوبي

في يونيو 2018، تعهد رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، شفهيًا في مؤتمر صحفي بالقاهرة مع الرئيس المصري، بأن بلاده لن تلحق ضررًا بالشعب المصري، بسبب سد النهضة. وهو ما لم يعكسه في سبتمبر 2018 اجتماع وزراء الري في البلدان الثلاثة. الذين أعلنوا مجددًا عدم التوصل لنتائج جديدة وإرجاء المفاوضات إلى وقت لاحق.

وفي فبراير 2019، التقى قادة الدول الثلاث على هامش القمة الإفريقية في أديس أبابا. إذ أعلنت الرئاسة المصرية -حينها- التوافق على عدم الإضرار بمصالح شعوبهم، كأساس تنطلق منه المفاوضات. بينما أعلنت وزارة الري المصرية سبتمبر 2019 تعثر مفاوضات وزراء الري بين الدول الثلاث بالقاهرة. ما مثل فشلاً جديدًا في الوصول إلى اتفاق لـ”عدم تطرق الاجتماع للجوانب الفنية”.

وفي 22 أكتوبر 2019، أعربت الخارجية المصرية عن صدمتها، إزاء تصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، بأنه “يستطيع حشد الملايين على الحدود، في حالة حدوث حرب.. وأنه لا توجد قوة تستطيع منع بلاده من بناء سد النهضة”.

ترامب يدخل على خط الأزمة

في 6 نوفمبر 2019، دخلت واشنطن على خط أزمة سد النهضة. واستضافت الأطراف الثلاثة، في وجود وزير الخزانة الأمريكية، ورئيس البنك الدولي للمرة الأولي.

وقتها، صدر بيان مشترك جاء فيه أنه “تقرر عقد أربعة اجتماعات عاجله للدول الثلاث، على مستوى وزراء الموارد المائية وبمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي، تنتهي بالتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة خلال شهرين، بحلول منتصف يناير 2020”.

وفق ذلك الاتفاق انعقدت في أوائل يناير 2020، 4 اجتماعات بين وزارة الري والوفود الفنية من الدول الثلاث. وفي ختام الاجتماعات أعلنت مصر وإثيوبيا “لا اتفاق”. وفي 13 و14 و15 يناير، استضافت واشنطن وفود الدول الثلاث، لتقييم نتائج الاجتماعات الأربعة. وخرجت المفاوضات بتوافق مبدئي على إعداد خارطة طريق. على أن تتضمن 6 بنود أهمها بالنسبة لمصر تنظيم ملء السد خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد.

في 19 يونيو 2020 طلبت مصر تدخل مجلس الأمن بالأمم المتحدة من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث التفاوض بحسن نية تنفيذًا لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي، وعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية قد يكون من شأنها التأثير على فرص التوصل إلى اتفاق.

وحددت الرئاسة الفرنسية لمجلس الأمن الدولي جلسة مفتوحة، يوم 29 يونيو، لمناقشة موضوع سد النهضة استجابة للطلب المصري. وخلالها اتفق ممثلو الدول على أن الحوار المباشر هو السبيل الوحيد للتوصل لحل.

تصريحات ترامب وتعليق المساعدات

بعد هذا التصعيد المصري، دخلت قضية السد جولة جديدة من المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي. لكنها أيضًا لم تسفر عن اتفاق حول الملء والتشغيل. وفي 15 يوليو 2020 أعلن التلفزيون الإثيوبي انتهاء المرحلة الأولى من ملء السد. وذلك بعد ساعات من اختتام جولة المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، التي استمرت 11 يومًا.

عقب ذلك، اندلعت حرب تصريحات بدأتها إثيوبيا ورئيس وزرائها الذي قال “إن لا قوة في العالم ستثني بلاده عن مواصلة إكمال مشروع السد”. في وقت استبعد الرئيس المصري لجوء بلاده إلى الحل العسكري للتعامل مع الأزمة.

وفي أغسطس 2020، أعلنت مصر والسودان الانسحاب من أحدث جولات المفاوضات. وفي 22 سبتمبر 2020، لفت الرئيس المصري إلى تصاعد قلق الأمة المصرية البالغ حيال هذا المشروع.

بعد شهر من اجتماع أغسطس قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعليق المساعدات لإثيوبيا بسبب القرار الأحادي بملء السد. بينما أعقب ذلك بتهديد شديد اللهجة لأديس أبابا. ذلك خلال اتصال جمعه برئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك. قال فيه إن مصر قد “تُفجر سد النهضة” في حال عدم التوصل لاتفاق. وهو ما نفته مصر التي أكدت إيمانها بالتفاوض حلاً للأزمة.

تلك التصريحات أثارت غضب إثيوبيا. حيث أكدت رفضها لما وصفته بـ”التهديدات العدائية”. مشددة على التزامها بمواصلة بناء السد، والجهوزية للرد على كل اعتداء يمس سيادتها.

وبعد تصريحات ترامب عادت المفاوضات من جديد. إلا أنها أيضًا لم تسفر عن أي اتفاق. فأعلن السودان انسحابه من المفاوضات. ووضع شرطًا للعودة إلى المفاوضات. وهو إعطاء دور أكبر لخبراء الاتحاد الأفريقي، وتغيير منهجية التفاوض.

وفي 21 نوفمبر 2020، أعلن السودان مقاطعة الاجتماع الوزاري حول سد النهضة. مؤكدًا رفضه لاستمرار المفاوضات وفق النهج القديم. بعدما أثبتت عدم جدواها.

ومع قرب انتهاء عام 2020 أعلن السفير الإثيوبي في القاهرة ماركوس تيكلي، إن بلاده ستحتجز المياه للمرة الثانية لملء خزان السد. معربًا عن أمله في التواصل إلى اتفاق خلال الأشهر الستة المقبلة.

الولايات المتحدة تغير سياستها

مع سقوط ترامب في الانتخابات الأخيرة، خسرت مصر حليف قوي في أزمتها مع سد النهضة. وأكد ذلك ما أعلنته وزارة الخارجية الأمريكية اليوم الجمعة. بعدما أعلنت عن قرار تعليق المساعدات المقدمة لإثيوبيا، الذي أصدره ترامب على خلفية أزمة السد. في إشارة قوية لتغير في سياسة الضغط الأمريكية على إثيوبيا المتعنتة فيما يتعلق بالسد.

ذكرت الخارجية الأمريكية أن إلغاء قرار ترامب لا يعني أن جميع المساعدات الأمنية والتنموية -وتبلغ قيمتها حوالي 272 مليون دولار- ستبدأ على الفور في التدفق. بل يعتمد ذلك على التطورات الأخيرة. في إشارة واضحة إلى الصراع في منطقة تيجراي التي تواجه فيها حكومة آبي أحمد اتهامات دولية بارتكاب مجازر داخلها. ذلك حسب وكالة أسوشييتد برس.

الدماء التي سُفكت في تيجراي

في نوفمبر 2020، اندلع الصراع في تيجراي (شمالي إثيوبيا). عندما شن رئيس الوزراء آبي أحمد هجومًا للإطاحة بالحزب الحاكم في المنطقة. بعد أن استولى مقاتلوه على قواعد عسكرية فيدرالية. واستمر القتال الذي أسقط آلاف القتلى واللاجئين الذي فروا إلى السودان مع حكايات عن المجازر التي نفذتها قوات الحكومة الإثيوبية بمساعدة الجيش الإريتري حتى تمكنت من السيطرة على الإقليم.

وفي 12 فبراير الجاري، قال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إن الأمين العام أنطونيو جوتيريش، لا يزال يشعر بالقلق إزاء محنة اللاجئين في تيجراي. هذا فضلاً عما نُقل من حديث وإفادات من داخل الإقليم حول المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين.

اقرأ أيضًا: رئيس إريتريا يعترف بدعم إثيوبيا في مواجهة “تيجراي”.. من الرابح والخاسر في الأزمة؟

عين بايدن على أزمة الإقليم المدمر

والسلطات الإثيوبية كانت اعترفت في وقت سابق، أن عشرات النساء تعرضن للاغتصاب داخل الإقليم خلال الفوضى، التي أعقبت الصدام الذي أطاح بالحزب الحاكم هناك. وقالت وزيرة المرأة الإثيوبية فيلسان عبد الله: “تلقينا التقرير من فريقنا على الأرض في منطقة تيجراي وقد أكد الفريق للأسف أن الاغتصاب حدث قطعًا ودون شك”.

بينما قالت لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية التي عينتها الدولة، إنه تم الإبلاغ عن 108 جرائم اغتصاب في تيجراي في الشهرين الماضيين. وقد وقع ما يقرب من نصفها في مقلي عاصمة الإقليم. وجميعها يقال إن جنودًا من دولة إريتريا ارتكبوها.

في 8 فبراير الجاري، أعلنت الولايات المتحدة عزمها “العودة للمشاركة” في أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. لتفتح إدارة بايدن صفحة جديدة مع المجلس الذي انسحبت إدارة دونالد ترامب منه في 2018 واتهمته بالنفاق، خاصة إزاء إسرائيل.

هذه العودة تشير إلى ما قد تنتهجه الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض من خطوات بشأن ملفات حقوق الإنسان في العالم. وتيجراي واحدة من هذه الملفات، وصلت الأوضاع فيها إلى حد مطالبات دولية بتحقيق أممي بشأن المجازر التي ارتكبت هناك على يد قوات حكومة أديس أبابا والجيش الإريتري. وهنا لأمريكا الجديدة تحت إدارة بايدن حديث مختلف عن السابق. ويبرز هذا الحديث المختلف في القرار الأخير بشأن المساعدات إلى إثيوبيا، والتي أكدت الخارجية الأمريكية أنها وإن عُلقت بسبب تيجراي، فإن ذلك لم يشمل المساعدات الإنسانية للإقليم الذي تفاقمت أوضاع قاطنيه.