أن تفكر يعني أنك موجود. إثبات فردي تدرك من خلاله وجودك الشخصي، في لحظة ارتباك معرفي، تدخلك في متاهات الاحتمالات اللانهائية للتثبت من وجودك المادي البسيط، ولكن هل يكفي أن يقترن الوجود الإنساني بعمليات التفكير، بوصفها الدليل على وجودنا في فضاء اجتماعي وإنساني ملئ بصعوبات وتحديات لا حصر لها، تجثم عل صدورنا وتجعلنا أحيانًا نتوقف عن القيام بهذا الفعل (التفكير)، بل قد يرى البعض في مثل هذه العمليات فعل رفاهي يخرجنا من حيز (الواقع) إلى فضاءات خيالية لا تتواصل مع واقع مترد نعيشه، وتلصق بنا وبفعل التفكير (المجرد) تهمة الهروب من مواجهة هذا الواقع الكريه الذي يدخلنا في مسالك تستعصي علينا، أو تهوي بنا إلى الدرك الأسفل في سلم الكائنات (البيولوجية).
من أين يمكننا البدء؟! لا يمكن بأي حال من الأحوال الوصول لهذه النقطة، دون تخطي مرحلة تأمين المتطلبات المادية. هكذا يزعم البعض، معللين ذلك بكون هذه المتطلبات تمثل الاحتياجات الأولية الأساسية، التي تضمن الحياة للفرد وتجعله قادرا على تحقيق إنسانيته، والقيام بأدواره المتمايزة، ولا يمكن لي أن أصبح (إنسانا) دون المرور عبر هذه الخطوة (القفزة)، ويبررون ذلك بمئات المشاهد اليومية التي لا تنفك تواجهنا لأشخاص لم يتمكنوا من الوصول لهذه النقطة الفاصلة، فيتوقفون عند المرحلة الأولى (المرحلة البيولوجية)، ويسلكون مسالك تبدو أكثر (حيوانية) من كائنات أخرى تعيش معنا على نفس الكوكب.
لدينا إذن معضلة أساسية تنبني على كون فعل التفكير فعلًا مؤقتًا غير أصيل يحتاج إلى تهيئة المناخ العام الذي يعيش فيه الفرد بوصفه شرطًا لممارسته، وهو ما يعني أن يسلك الإنسان إبان هذه المرحلة سلوكًا غريزيًا بدافع (البقاء) (والحفاظ على النوع) مثله مثل ملايين الأفراد من الكائنات (الحية).
هكذا تستدعي المقدمات النتائج، ففي اللحظة التي أضع فيها شروطًا مرحلية تستلزم القيام بفعل ما، أن أضمنها على المستوى الذاتي أو الموضوعي، يصبج القيام بالفعل مرهونا بتحقيق هذه الشروط.
وفقًا لأصحاب هذه المقولة يحيا ملايين البشر في واقع لا يمتلك توفير الحدود الدنيا (المقومات الأساسية) التي تضمن قدرة الإنسان على ممارسة إنسانيته، عبر القيام بالأفعال المتمايزة التي تجعل الفرد يقفز من نقطة الكائن الحي إلى نقطة (الإنسان)، ومن ثم يصبح من الممكن الحديث عن مستويات وتمايزات داخل (النوع) تحددها قدرة الفرد على تخطي المراحل الحيوانية للوصول إلى الفعل الإنساني المتمايز، بل ويمكن الحديث عن تمايزات داخلية لهؤلاء الذين قفزوا خارج منظومة (الوجود الحيواني) ليحلقوا عاليًا في فضاء الإنسانية عبر أفعال تؤكد هذا التمايز ، وهذا الفصل بين الكائنات الحية جميعا والإنسان.
على النقيض يرى البعض أن فعل التفكير هو أرقى ما في (الإنسان)، وهو ميزة أصيلة يقوم بها في كل الأحوال ودون شروط موضوعية مسبقة، فالفرد يمارس إنسانيته في كل لحظة يعيشها ، ويسلك دروبًا متباينة من أجل أداء هذا الفعل الأصيل، بصرف النظر عن الشروط الموضوعية التي يعيش فيها، فهي سمة أصيلة في صميمه وليست قدرة مؤقتة مرهونة بشروط موضوعية ما، ومن ثم يصبح البشر جميعًا متساوون، وإن كانوا متفردين من حيث الإمكانات الذاتية، ومن حيث قدرتهم على التعامل مع واقعهم الفردي والاجتماعي، بأساليب متباينة، على مستوى إدراك هذا الواقع من ناحية، وعلى مستوى تجليات التعبير عنه والتعامل معه من ناحية أخرى، وهذ ما يجعل الكائن البشري متميزًا، إذ يمكنه إدراك واقعه في سياق من التصورات والوقائع التي تجعله يتخذ موقفًا تجاه العالم الذي يعيش فيه.
وأن يدرك وجوده بوصفه (كائنًا) لديه متطلبات بيولوجية تلح عليه بانتظام، وتجعله ينشغل بتأمينها كي يتمكن من مواصلة الحياة في مستوياتها الدنيا، وتؤمن له إمكانية البقاء، ومن هنا يتمكن من أداء أدواره بوصفه (إنسانا)، يمتلك قدرات متمايزة تجعله مختلفا عن بقية تلك الكائنات التي يندرج تحتها من الناحية المادية والفسيولوجية.
إننا نرى العالم من منظورنا الخاص، ليس هناك شخص قادر على التأثير في رؤيتنا، ما لم نكن فارغي العقل، أو نميل قليلًا في التشكك في رؤيتنا الراهنة، محتويات رؤيتنا، طريقة تفكيرنا، منهجيتنا التي دأبنا منذ الصغر على تكوينها، عبر آلاف المواقف، المعلومات، الخبرات، والأشخاص، كل هذا في مرحلة عمرية بعينها، حتى نتخذ قرارًا ما، هنا والآن، يدفعنا إلى تكوين رؤيتنا الخاصة، والتي لا تتعلق في مضمونها، ومحتواها، ومنهجها، بما هو صحيح أو خطأ، بل بميلنا نحو طريقة تفكير بعينها، تجعلنا سعداء، أو هكذا نظن، أحدنا يميل إلى اعتبار وتقدير المدركات الحسية ويتخذها أولوية في وضع أسس رؤيته الخاصة.
بينما آخر يرى في المفاهيم العقلية المنطقية طريق للوصول إلى (الحقيقة) وهذه الكلمة هنا تعني (رؤيته الخاصة) ولا تعني شيئًا آخر، بينما يميل بعضنا إلى الحدس الروحي، يطمئن إليه، ويتوقع منه كل طيب ف الحياة، وهكذا يختار كل منا طريقه بوصفه الطريق إلى السعادة والطمأنينة، وهما مسألتان مهمتان في تبنينا لرؤية ما، أو اتخاذنا لموقف ما، أن نكون على يقين بأنه قادر على منحنا السعادة من ناحية، وأن نكون مطمئنين لسلامة رؤيتنا ومن ثم موقفنا.
وعندما أتحدث عن ميل لاتجاه بعينه/ سواء أكان ماديًا، أو عقليًا، أو روحيًا، لا أنزع عنه بقية الجوانب، بل هي جزء لا يتجزأ من صميم مكونه العام، بل السمة الغالبة عليه، تدفعه نحو اختيارات من نوع ما.
في واقع الأمر أن الاختلافات المنهجية والمعرفية في رؤيتنا للعالم، والتي أنتجها الإنسان على مر عصوره لم تنته، بل تتواجد جنبًا إلى جنب في كل المجتمعات الإنسانية، وأحيانًا ما تتصارع، حيث تمثل هذه الرؤى القاعدة المعرفية/المنطقية، التي تتيح لثقافة ما أن تقنع مؤيديها بجدوى استمرارها، ولا تكمن المشكلة في وجود تصورات متباينة للعالم أيًا كانت هذه التصورات، بقدر ما تكمن في أساليبنا في التعامل معها، ففي الوقت الذي تتطور العلوم الطبيعية والإنسانية، وتزداد قدرة الفرد على التعامل مع الطبيعة، لا تقدم هذه العلوم الإجابات النهائية عن بعض الأسئلة التي طرحها الإنسان منذ وجوده وحتى هذه الحظة الراهنة.
وإن كان يراها البعض أسئلة لا يمكن الإجابة عليها، يقدم البعض (إجابات)، ومن ثم فالانتصار لإجابة ما لا يمثل جوهر المشكلة المجتمعية، بينما تكمن المشكلة في رغبة البعض في تسييد (رؤية) ما بوصفها تمثل (الحقيقة).
بينما يرغب البعض في إبقاء الوضع على ما هو عليه، ويخشى تداعيات التغيير، فيلجأ إلى الماضي طالبًا فيه السكون والاستقرار، ويفضله عن الحلول التي لم يتم تجريبها بعد، والتي قد تأتيه بما لا يعرفه من قبل، أو قد تزحزح مكانته التي أنشأها عبر سنوات، مستندًا على ما يفرضه الماضي من قيم وما يفرزه من أشكال حياتية، وتظل من ثم الأسباب وراء كل أزمات الواقع الراهنة عدم قدرة المجتمع (أفرادا/مؤسسات) على تنفيذ توصيات وحلول الماضي كما ينبغي!
“أنا أفكر إذن أنا موجود” ليست قدرًا أو مصيرًا محتومًا، ولكنها اختيار بين أن أكون (إنسانًا) أو أن أكون (حيوانًا). بقول “نيتشة” على لسان الفلسفة: “أيها الشعب التعيس! أهو خطئي أني أتجول في بلادكم مثل عرافة مغامرة، وعلي التستر والتقنع كما لو كنت متهمة وأنتم قضاتي؟! لتكن لكم بادئ ذي بدء حضارة، ولسوف تدركون حينها، ماذا تريد وماذا تستطيع الفلسفة أن تفعل”.