تتعالى الأصوات السياسية المطالبة بحل المشكلة السكانية، باعتبارها العائق أمام النمو الاقتصادي، وانخفاض مستوى دخول الأشخاص. كذلك قالت وزيرة التخطيط الدكتورة هالة السعيد، إن الفرد يكلّف الدولة حتى سن السبعين، مليون ونصف المليون جنيه، أي مايقارب 21 ألف جنيه سنويًا.

منذ أيام أطلق الإعلامي تامر أمين تصريحات أثارت الجدل في معرض حديثه عن الزيادة السكانية في مصر. قائلاً: “نسبة كبيرة من الأهالي في الريف والصعيد ينجبون أطفالًا لا ليلحقوهم بالتعليم. بل لينفق الأبناء على والديهم”. كذلك أضاف “في تلك المناطق يتم إلحاق الطفل بورشة لتعلم حرفة بمجرد أن يبلغ سن السادسة”.

أمين الذي فقد وظيفته الحالية بسبب هذه التصريحات،  تابع مستنكرا “لو الأب خلف بنت مش هيغلب، يدخلها المدرسة؟. قطعًا لا. في الصعيد بيشحنوا البنات على القاهرة عشان يشغلوهم خادمات”.

عالم الاقتصاد المعروف هنري جورج أشار في كتابه “الفقر والتقدم” إلى أن “السبب الرئيس لانخفاض الأجور، والفقـر، والـبـؤس، ليس السكان وتزايدهم. بل الظلم والاضطهاد الواقع عليهم”. كذلك كان يعتقد أنه إذا تحسن مستوى معيشة الناس وتوفرت العدالة. فإن الـنـاس سـيـعـمـلـون مـن تـلـقـاء أنفسهم على تنظيم أعدادهم للمحافظة على مستوى معيشتهم.

فهل الزيادة السكانية تهبط بمستوى الفرد أم الفقر يجلب الانفجار؟

تاريخ وأرقام المشكلة السكانية

تشير النظريات الاقتصادية إلى أن التوسع الرأسمالي الضخم منذ نهايات القرن الـ19، أدى إلى تزايد مطرد في عدد السكان. كما أدى لتركزهم في مناطق محددة. فحاجة رأس المال للتوسع الفجائي خلق الحاجة إلى القوة البشرية، باعتبارها أحد أدوات الإنتاج.

إلا أن التراكم الرأسمالي لم يساهم في تحسن مستوى أجور العمال، أو حتى في مستوى العمران. بينما خلق لاحقًا فائضًا من العمالة، في ظل تقسيم للعمل، قيد العمالة في تخصص بعينه.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد السكان في العالم، خاصة البلدان النامية. ومع ذلك حصل سكان تلك البلدان على ما يتجاوز 10% من ثروات العالم. بينما يمثل هؤلاء التركيز السكاني الأكبر والنمو الأعلى بين السكان، فلماذا؟

يورد الاقتصادي رمزي زكي في كتاب “المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة” أن الأزمة السكانية ليست بسبب ارتفاع معدل الزيادة السكانية فحسب. لكن يأتي في المقام الأول، الطابع الركودي الذي تتسم به اقتصاديات هذه الدول، خاصة القطاع الزراعي. ذلك القطاع الذي مازال متخلفًا في الوقت الذي يفرز فيـه الزيادات الأساسية من السكان”.

“والحقيقة أن بداية ظهور اختلال النمو السكاني، ودرجة التقدم الاقتصادي والاجتماعي في هذه الدول كان نتاجًا حتميًا للاستعمار. كنتيجة مترتبة على نشاط رؤوس الأموال الأجنبية داخلها”.

في حين تشير الإحصائيات إلى أن معدل إنتاج المواد الغذائية عالميًا، يسبق معدل النمو السكاني بنسبة 16%. بينما يقتل الجوع 20 مليون شخص سنويًا.

لكن وفي غضون ذلك تقدم الحكومات الأمريكية الدعم لمزارعيها، حتى تضمن عدم زراعة الأرض وتخزين السلع. كذلك لضمان عدم التخلص منها في المحيطات، للحفاظ على الأسعار.

الدولة المصرية ومنذ الستينيات تعمل على اتباع استراتيجية التحكم بالنمو المطرد للسكان، عبر منظومة تنظيم النسل. إلا أن التقدم بالقضية لا يكاد يكون ملحوظًا. بينما تشير الإحصائيات الأخيرة إلى تراوح نسب النمو السكاني الحالي، بين 2%، 2.5%، وهي نسب مرتفعة، لكن أقل من السنوات السابقة على 2018.

اقرأ أيضًا.. الزيادة السكانية نمو أم مشكلة.. حلول متاحة على طاولة الحكومة

التعليم أولاً

ترى أستاذ الإحصاء في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة هبة الليثي، أن الأزمة السكانية هي مشكلة اجتماعية وصحية بالأساس. كما ربطت بين التعليم وخصوصًا تعليم المرأة من جهة، وانخفاض معدل النمو السكاني من جهة أخرى.

الليثي ضربت مثالاً بالسياسات التي اتبعتها دول كالصين وأندونيسيا وماليزيا. إذ عملت الأخيرتان على الدفع برفع مستوى التعليم، والتحكم بنسب التسرب منه. بينما لجأت الأولى إلى تشديد قوانين الإنجاب.

وكانت النتيجة خلال فترة 10 سنوات، تقارب نسب انخفاض النمو السكاني بين الفريقين. مع الحفاظ على التركيبة السكانية الجندرية، والعمرية المتوازنة لصالح كل من إندونيسيا وماليزيا.

بالعودة إلى مصر أوضحت الليثي أن معدل النمو السكاني غالبًا ما يتركز بين أصحاب الدخول المنخفضة. فالفقراء يميلون إلى الإنجاب للاستثمار في أبنائهم، والاعتماد عليهم في حال المرض أو التقدم في السن. ذلك للتعويض عن غياب الرعاية الاجتماعية والصحية. كما أن البعض الآخر يستغلهم كمصدر للرزق كما الحال في البيئات الزراعية.

واعتبرت أن نسب الإنجاب عن غير عمد نتيجة عدم توافر وسائل الحمل أحد وجوه الزيادة السكانية في جانبها الصحي. وإن كانت بنسب منخفضة كثيرًا عن ذي قبل.

أستاذ الإحصاء ترى بضرورة توفير الرعاية الاجتماعية، ومصادر الرزق اللازمة لهؤلاء، حتى لايضطروا للاعتماد على الإنجاب كوسيلة للنجاة. في حين أن اعتماد الحل الصحي فقط من خلال توفير وسائل منع الحمل أمر لم تثبت فاعليته في النهاية.

ولفتت الليثي إلى أن “التعليم أولًا” يظل المدخل لحل الأزمة من جذورها. كما أـشارت إلى أن معدل النمو السكاني في مصر من المعدلات المتوسطة لكن عدد السكان الأساسي يرفع هذه النسب.

اقرأ أيضًا.. أكبر 5 محافظات مصرية في عدد السكان (انفوجرافيك)

الفقر قبل كورونا

وحول معدلات الفقر في مصر أشارت الليثي إلى أن الأرقام المعلنة البالغة 29.7%، هي أرقام سابقة على فترة “كورونا”. نظرًا لصعوبة إجراء المسح الإحصائي نتيجة الوباء. كذلك بالمقارنة مع معدل 27.8% عام 2015، أي بزيادة نقطتان %.

ومع ذلك، انخفضت معدلات الفقر خلال العام الماضي عن العامين 2018، 2019، والتي وصلت فيها معدلات الفقر إلى مايتجاوز 32% من السكان. لكن هذا الانخفاض جاء على حساب رأس المال البشري للأفراد. فزادت نسب التسرب من التعليم الثانوي، وعمالة الأطفال والنساء، إلى جانب العمالة غير الرسمية.

الليثي أرجعت التدهور في مستوى معيشة المواطنين إلى خلل الأسعار نتيجة التضخم الاقتصادي والتعويم. كما حدث سابقًا في 2008 خلال الأزمة العالمية، بعيدًا عن إشكالية السكان.

إلى جانب سياسات رفع الدعم عن المواطنين، التي لم يوازيها زيادة في برامج الحماية الاجتماعية، والتعليم كما هو متوقع. بينما تغطي التأمينات الاجتماعية والصحية 20% فقط من السكان.

في حين أن المساعدات الاجتماعية المطروحة مؤخرًا ليست حلًا جذريًا لمثل هذه المشكلات. كذلك لاتغطي كافة شرائح المجتمع، فكانت النتيجة المزيد من الفقر، والمعاناة.

التجربة الصينية

في مطلع سبعينيات القرن الماضي وجدت الصين أن الانفجار السكاني يعوق محاولاتها التقدم الاقتصادي. فدشنت حملة “أسرة الطفل الواحد”، ونزعت إلى إجبار الأسر على تبني القانون في المدن. والسماح بطفل آخر بعد سنوات قليلة في الريف. كما أقرت الإجهاض كوسيلة من وسائل تحديد النسل.

التجربة الصينية حققت انخفاضًا في النمو السكاني وصل إلى 0.5% عام 2008. كما وصل معدل الخصوبة الكلي إلى 1.6% طفل لكل سيدة. كذلك ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى 71 عامًا للذكور، و75 للإناث. بالإضافة إلى ارتفاع معدل استخدام موانع الحمل بين النساء المتزوجات في سن الإنجاب إلى 90%.

التجربة الصينية تحظى باهتمام كبير لدراسة ارتباط الزيادة السكانية بالنمو

في المقابل، يرى الباحث الاقتصادي وائل جمال أن للسياسة الصينية السكانية، آثار سلبية عدة، منها خلل التركيبة السكانية. كذلك تفضيل الذكور عن الإناث ما أدى لزيادة الإجهاض وارتفاع نسب وفيات الأمهات. كذلك اللجوء إلى قتل الأطفال وما لذلك من أثار اجتماعية كارثية.

كما أن الأضرار شملت ارتفاع نسب كبار السن، وبشكل عكسي مع القطاع الشبابي. ما أثر على تجديد القوى الإنتاجية، ما دفع الصين لاحقًا إلى التوقف عن هذه السياسات عام 2015.

الصين توجهت إلى تحفيز الإنجاب. بينما أصبحت الدعاية الحكومية تستخدم الآن شعارات تدعو الأزواج لـ”إنجاب الأطفال من أجل البلاد”. خاصة بعد أن تحولت الصين إلى مجتمع مسن بشكل متسارع.

على المستوى المحلي ومن زاوية إنتاجية. أكد جمال ضرورة استغلال الكتلة الشبابية المرتفعة التي تميز خصائص السكان. كذلك التعامل مع كل مواطن كمشروع يملك القدرة على الإنتاج والإبداع والتطوير.

وحول تصريح وزيرة التخطيط فيما يخص تكلفة الفرد الواحد، تساءل جمال عن منهجية حساب الأرقام من خلال قيمة العملة ومعدل الأسعار والتضخم. بالإضافة إلى تراجع الرعاية الاجتماعية مؤخرًا بالمقارنة مع اقتصاديات متوسطة لبلدان مجاورة.

لكن جمال يرى أن المنهج النسبي الذي تتبعه السياسات الحكومية، في عرض نسب الرعاية الاجتماعية وتراجعها، نسبة لعدد السكان، أمر غير موضوعي. كما أنه ينزع إلى تحميل الأفراد المسؤولية. بينما الأرقام الحقيقية تكشف تراجع الرعاية الاجتماعية ودلل على ذلك بتراجع أعداد أسرة المستشفيات على سبيل المثال.

جمال قال إن المنهج الصحيح لمناقشة تلك القضايا هو الحوار المجتمعي والتوعية بالمخاطر. كما شدد على ضرورة ألا ينتقص الأمر أبدًا من حقوق الأطفال أو التخلي عنهم.

إنجاب غير مرغوب فيه

كانـت رؤيـة البنـك الدولـي تقـوم علـى أن نمو السكان مفيدًا للاقتصاديات النامية. حيث أدت النسبة المعتدلة للارتفاع فـي أوروبا واليابـان وأمريـكا إلـى تشجيع الابتكار. كمـا أن زيـادة الإنفاق علـى التعليـم رفـع مـن قيمـة القـوى العاملـة.

من جهته أشار أستاذ الإحصاء في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حسن زكي إلى خطورة الارتفاع المطرد في معدل نمو السكان السنوي في مصر. كما اعتبرها نسبة كبيرة إلى دول مجاورة، ما يهدد النمو الاقتصادي.

زكي أوضح أن معدل الإنجاب الكلي من أهم مقاييس دراسة السكان، والذي يصل إلى 3.5 طفل حي لكل سيدة في عمر الإنجاب. كما أنه ووفقًا لزكي ترجع أهمية هذه المعدلات، أن نسبة كبيرة منها غير مرغوب فيها على مستوى اختيار الأفراد.

ويكفي أن نطالع ارتفاع أسعار الوسائل الوقائية لتنظيم الإنجاب، وعدم توفرها في كافة المناطق جغرافيًا خاصة لأصحاب الدخول المنخفضة. ما يؤدي إلى وجود ما يصفه زكي بالطلب غير الملبى للأفراد. وهو أيضًا ما تشير إليه أرقام المسح السكاني الصحي في مصر على مدار سنوات.

فيما بّين زكي أن تحقيق رغبة الأفراد يصل بنا إلى معدل الإحلال، بحيث يتساوى عدد المواليد مع عدد الوفيات. وبالتالي تثبيت عدد السكان الحالي، مع الحفاظ على التركيبة السكانية.

أستاذ الإحصاء يلفت أيضًا إلى أن المشكلة السكانية لا تتوقف عند الزيادة العددية. بل تشمل الكثافة البشرية في مساحة لا تتعدى 8% من مساحة الأرض. وهو هنا يرى ضرورة العمل على توسيع المساحة المستغلة جغرافيًا، والتوسع في الصحراء، إلى جانب الخصائص السكانية المتدهورة من حيث نسب تعليم النساء المتدنية، والمهارات الفنية للعمالة المصرية، التي تراجعت كثيرًا خلال السنوات الماضية.