على الصفحة الرسمية للحزب الناصري اُقتبس تصريح نُسب لعبد الناصر، يهاجم فيه فكرة الإسلام السياسي. وقد استشهد -كما ادعت الصفحة- بفشل تجربة “محمد على جناح” في باكستان. لا يعي القائمون على إدارة صفحة الحزب، أو ربما لم يعي عبد الناصر نفسه وقتها، أن من ينتقده يتشارك معه في العديد من القواسم أو الهواجس إن أردنا تسمية الأمور بمسمياتها.

فـ”جناح” الذي شغل منصب أول حاكم عام لباكستان -في الفترة ما بين 1947 – 1948- لم يكن فقط صاحب تجربة لأسلمة السياسة. بل ومن قبلها هو صاحب تجربة لفرض شمولية ثقافية ولغوية، ربما كانت هي الملهمة للشمولية المحلية لدينا في عصر عبدالناصر. وقد عاصر شغل جناح لمنصب الحاكم العام الباكستاني وقتها احتجاجات في “شرق باكستان” التي ستعرف لاحقًا باسم بنغلاديش، ذات الأغلبية من متحدثي اللغة البنغالية. هؤلاء كانوا قد بدأوا وقتها حراكًا اجتماعيًا اعتراضًا على تهميش لغتهم الأم في الدولة حديثة الاستقلال عن الهند، وترسيم اللغة الأردية كلغة رسمية وحيدة للبلاد. 

تطور هذا الحراك -الذي قاده وقتها طلاب الجامعات البنغالية- إلى سلسلة متصلة من المظاهرات والمسيرات في عام 1948 التي اجتاحت شوارع “دكا” عاصمة بنجلاديش لاحقًا. قوبلت هذه المسيرات وقتها بالقمع والعنف، للحد الذي دعا رئيس الوزراء إلى إبرام اتفاق مع القيادات الطلابية لتهدئة الأمور مقابل بعض الصلاحيات لمتحدثي البنغالية. لم تتضمن رسمية اللغة وقتها كأحد لغات الدولة في تلك الأثناء. وبسبب المظاهرات والاحتجاجات المستمرة للبنغال  أجرى جناح زيارة للإقليم، ومثل أي حاكم شمولي كلاسيكي ألقى خطابًا في جمع من الجماهير.

حينها، قال: “إن الحركة الطلابية المطالبة بإشراك الهوية البنغالية متمثلة في لغتها في الواجهة الرسمية للبلد ما هي إلا حركة مخططة من أجل تقسيم المسلمين في باكستان”. وأردف أن الأردية هي اللغة المعبرة عن روح الإسلام في باكستان. وهي اللغة الوحيدة للدولة. ومن يعارض هذا فهو من أعداء الإسلام. 

خطاب جناح الشعبوي ومثيله العروبي للأسف زامن دول ما بعد الاستقلال. حيث تكونت قناعات للأنظمة الوريثة لحكم المستعمر بوجوب وجود مشروع قومي يُصهر فيه الشعب ككتلة موحدة قادرة على الإنتاج والتقدم. ربما كانت النوايا لتلك المشاريع حسنة. ولكن النتائج كانت كارثية. حيث أن الخطاب العروبي الذي فرضته الدولة هنا سُحق في سبيل تحقيقه وتهميش للثقافات المحلية بشكل متعمد من وجهة نظري الشخصية. الحد الذي أوصل لحال أن أي معترض على مثل هذا الجبر الثقافي هو عدو للدولة، وحتى إن لم تبد الفئات الثقافية المغايرة وقتها أي ممانعة، فالعمل على تذويبها بكل الطرق هو أولوية للدولة. 

خطاب جناح الإقصائي أيضًا أدى إلى استمرار الاحتجاجات لدى الطلاب البنغال في جامعة “دكا”. ما وصل إلى الحد الذي بلغ ذروته عندما ضاقت السلطات بوجود توجه بشري يخالف ما يراه آمري الدولة وأوصيائها، ففتحت السلطات النيران على التجمع الطلابي المنادي بالحقوق اللغوية للبنغال يوم 21 فبراير 1952 ليسقط (أبو البركات – عبد السلام – رفيق الدين أحمد) وآخرين قتلى بنيران حكومة حددت هوية البلاد سلفًا، ولم يكن لديها استعداد للتحاور سوى بالعنف  الذي قوبل باستمرار الاحتجاجات الطلابية والشعبية، مما حدا بحكومة الجبهة المتحدة إلى اتخاذ إجراءات تهدف لتعزيز مكانة البنغالية في البلاد، حتى وصل الأمر لاعتمادها دستوريًا كأحد اللغات الرسمية للبلاد إلى جانب الأردية، وبالنهاية إلى استقلال “بنغلاديش” عن باكستان.

شمولية الأنظمة ليست هي التماس الوحيدة بين مصر وباكستان الموحدة آنذاك وحراك طلاب جامعة “دكا” وعملهم على إقرار اللغة البنغالية لغة رسمية للبلاد يتشابه مع فصول محاولات نوبية لإقرار النوبية كلغة رسمية في مصر. ربما يؤرخ البعض لبدء هذا الحراك النوبة بداية السنوات التي تلت ثورة يناير، إلا أن البداية من وجهة نظري سبقت هذا التاريخ بأعوام قليلة. ذلك مع الصحوة الفكرية والحقوقية التي صاحبت سلسلة مقالات لحجاج أدول الأديب النوبي، تخللها حضوره لمؤتمر للأقليات المصرية، دعي له مواطنين من أقباط المهجر في واشنطن. ونستطيع أن نقول إن مقالات أدول بالتحديد ودفاعه المتكرر عن الحقوق النوبية هي التي قد نبهت المواطنين النوبيين إلى حقوقهم الثقافية واللغوية، إلى جانب حقهم الأصيل في أراضيهم. بل لربما تكون قد قدمت رؤية جديدة للقضية النوبية، يرتبط فيها الاستيلاء على أراضيهم بتفردهم الثقافي واللغوي والإثني عن النمط المحدد من قبل الدولة لمواطنيها.

في سنوات ما قبل يناير أخذت هذه الفكرة تختمر أكثر وأكثر وزادها وجاهة التعرف على معاني مصطلحات جديدة نوعًا ما على المدارك المحلية، مثل: (الحقوق الثقافية – الشعوب الأصلية). بانطباق هذه المصطلحات على حالة المجتمع زاد اليقين بصواب الطرح. ولأن يناير كانت تسع من الأحلام ألفًا، بادر جمع من النوبيين المحتكين بدوائر يناير السياسية إلى السير نحو إتاحة هذه الحقوق لمجتمعهم كجزء من مكتسبات الثورة التي أتت لتنصفهم مثلهم كمثل غيرهم من الفئات التي همشت وحرمت في عهد الأنظمة السابقة. وقد رأي هذا الجمع أن التواجد النوبي في قلب الدولة عن طريق دستورها هو حق لهم باعتبارهم مكون أصيل لهوية الدولة التي تضم بين حدودها ألسنة وثقافات شعوب أصيلة حكم عليها تضائل قوامها العددي إلى التلاشي في ظلال المشاريع القومية الثقافية للحكام المصطبغة بلون العروبة فقط دون غيره.  

البداية الحقيقية كانت مع أول لجنة لكتابة الدستور بعد الثورة. وقتها نظمت وقفة للمطالبة بإقرار دستور دولة يناير بحماية الثقافات واللغات الأصيلة للدولة ومن ضمنها النوبية والأمازيغية ولغة بجا البحر الأحمر. ولكن لم يقر الدستور الأول مثلما نعرف بمثل هذه المواد. بل شدد على أن الهوية العربية هي الهوية الرسمية للدولة. وهو ما أدى إلى رفضه ضمنيًا من قبل الساعين إلى تضمين الحقوق اللغوية للنوبة في الدستور، ليبدأ فصل جديد من العمل على تضمين مثل هذه الحقوق بعدما تغيرت الظروف السياسية بإقصاء الإخوان المسلمين من الحكم برلمانًا ورئيسًا. ليأتي أدول مرة أخرى كعضو نوبي داخل لجنة كتابة دستور, وبصفته الأدبية ووعيه بأهمية الحفاظ على الهويات المختلفة لشعوب مصر الأصلية، سعى ومعه آخرون في لجنة الدستور، مما يؤمنون بالمواطنة وحقوقها التي تسلتزم حماية الفئات الأقل عددًا بشكل يضمن لها استمرار نمط حياتها الثقافي الذي يبرز في استخدام هذه الفئات للغاتها الأصلية في حياتها وحماية الدولة لإرثها الثقافي واللغوي. 

هذا الأمر رغم بديهية عدالته للأسف لم يرق للعديد مما يعدوا من علامات الفكر في المجتمع المصري. مثل الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي الذي رأي في محاولات أدول إقرار التنوع الثقافي واللغوي في حدود مصر وإقرار حماية الدولة لهذا التنوع دعوى للاستعمار غرضها الأبعد تقسيم طوائف الشعب. وهو الهاجس الذي انتقل مع الجيل الذي تربى في عهد الناصرية، التي روجت لفكرة التربص الدائم بنا من أعداء الخارج. حتى تصنف أي دعاوى حقوقية مجتمعية تحت فئة العمالة بتلك التهمة، ما يمثل اغتيالاً معنويًا لحقوق مشروعة لمواطني الدولة وتجييش مشاعر الشعب ضد مواطني هذه الفئات، في تشابه آخر لما حدث في بنغلاديش خمسينيات القرن الماضي.

مثل هذه الهجمات من مثقفي مصر لم تثني أدول وفريقه عن المضي قدمًا في المطالبة بالحقوق الثقافية واللغوية. حتى أتى الدستور بمواد تحفز التنوع الثقافي. ذلك في المادة 50 التي أقرت بتنوع الروافد الثقافية لمصر وتضمينها ضمن اهتمامات الدولة التي تقوم بالمحافظة عليها. وإن لم تقر صراحة برسمية أي من اللغات الأصلية الموجودة بمصر. 

مطالب أدول لم تكن مقترحات شخصية. فإن كان أدول هو من عرضها وقدمها كمطالب حقوقية رسمية، فتاريخ اللغة النوبية يمتلئ بالرواد من النوبيين الذين عملوا على إعادة إحياء أدبيات اللغة النوبية منذ نهايات القرن الـ19. ونجد علماء لغة مثل صامويل علي حسين صاحب أول محاولات مسجلة لتدوين النوبية وكتابتها بشكل أكاديمي في مرحلة ما قبل إعادة إحياء الأبجدية النوبية كتابةّ، وهي المرحلة التي تمت على يد رائد آخر من رواد اللغة النوبية؛ مختار خليل كبارة. 

كبارة وصامويل علي وآخرون مهدوا الطريق لأدول للمطالبة برسمية اللغة التي تعد من أحد اللغات الأصيلة في العالم.

نضال متتابع ومتصل من النوبيين في سبيل الحفاظ على هويتهم ولغتهم. خاصةً في ظل وجود تجربة تتشابه ظروفها مع التجربة النوبية في شمال أفريقيا، فأمازيغ الجزائر أيضًا عانوا من تهميش لغتهم في جزائر ما بعد الاستقلال، حتى أتى عام 1980 ليحمل صحوة أمازيغية لغوية وحراك مجتمعي آخر يقوده طلبة جامعيين؛ هم طلبة جامعة “تيزو وزو” الذين خرجوا في مسيرات منددة بإلغاء محاضرة عن الشعر الأمازيغي، كان سيلقيها الكاتب “مولود معمري” في حرم الجامعة التي حملت اسمه فيما بعد.

في 1995 تم اعتماد الأمازيغية كلغة للدراسة للأمازيغ، بعد إضراب عن الدراسة وقتها، أجبر الدولة على تضميين اللغة الأمازيغية ضمن المناهج الدراسية، ثم  بعدها بسنوات وتحديدًا في 2001 تم اعتماد الأمازيغية كلغة رسمية في البلاد، ليأتي العام 2016 ليشهد إقرار الأمازيغية كلغة وطنية رسمية دستوريًا، وما يزال الأمازيغ في الجزائر في محاولات مستمرة لتدعيم وجود اللغة الأمازيغية في الحياة الجزائرية. 

النضال الجزائري يشبه بشكل كبير نضال طلاب جامعة “دكا” الذين تشريقًا لذكراهم أثناء انعقاد المؤتمر العام الثلاثين لليونسكو في العام 1999 تم إقرار يوم اليوم العالمي للغة الأم ليوافق 21 فبراير من كل عام. فهل ستلهمنا مسيرات “تيزي ويزو” مثلما ألهمها طلاب “دكا”؟ وهل نحتاج إلى تاريخ محلي فارق يتحسن بعده الوضع الثقافي واللغوي للشعوب الأصلية في مصر إذا أقررنا هذا؟ ماذا سيحمل هذا التاريخ من ذكرى؟

كنوبي كل تواريخي المعاصرة مرتبطة بمرارات التهجير ومؤخرًا بموت وحبس مدافعي الهوية. أتساءل: ألا تدرس الدول محيطها الإقليمي وتتلافي أخطاء الدول الأخرى؟ أليس من أساسيات الدولة الحديثة التي يروج لمشروع إقامتها وجود تعددية ثقافية تعزز من مكانتها كدولة حديثة تثري بتنوعها وتقوى به؟ أم أن المشروع الحالي للدولة المزمعة ما هو إلا سلسلة ضخمة وممتدة من الإنشاءات تبنى بعقلية مقاول؟