بدأت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في حقبتها الجديدة -تحت إدارة الديمقراطي جو بايدن- تتكشف شيئًا فشيئًا. خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط وقاضاياه. ومنها مصر التي لم تقلقها الإدارة السابقة لدونالد ترامب بقدر ما فعلت الإدارة الحالية. فما بين الضغط على ملف حقوق الإنسان وشبه سحب اليد من ملف أزمة سد النهضة تتشكل ملامح السياسة الجديدة لواشنطن، التي أعلنت قبل أيام عن صفقة أسلحة جديدة إلى القاهرة تبلغ قيمتها قرابة 200 مليون دولار، مع تصريح رسمي بأهمية مصر كشريك استراتيجي.
ترامب وبايدن.. سنوات الود وأيام القلق
يُمكن وصف السنوات الأربع لحكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنها “سنوات الود”. خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الرئيسين المصري والأمريكي. إذ لم تتطرق الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى ملف حقوق الإنسان في مصر، إلا في محطات محدودة لم تتجاوز إطلاق سراح بعض النشطاء من حاملي الجنسية الأمريكية. هذا على عكس النهج الذي بدا واضحًا في تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، فيما يتعلق بملف الحقوق والحريات. الذي يبدو أنه سيمثل مكانة متقدمة في فكر إدارة بايدن. فهو يدعم انتهاج موقف أميركي أكثر صرامة تجاه “انتهاكات حقوق الإنسان” في الشرق الأوسط. إيمانًا بأن مثل هذه المواقف تعكس جانبًا من سياسة تعيد القيم والديمقراطية إلى صلب السياسة الخارجية الأميركية.
65 ألف دولار شهريًا.. هل يأتي اللوبي بثماره مع بايدن
منذ نوفمبر الماضي، انتشرت التقارير حول توظيف الحكومة المصرية لشركة ضغط قوية في واشنطن تعزز العلاقات الأمريكية مع القاهرة. ذلك في محاولة لتجنب أي خطر قد يهدد هذه العلاقات. خاصة مع سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب الأمريكي والأبيض البيت.
ووفق ما نقله موقع “فورين لوبي“، فقد وقعت السفارة المصرية في واشنطن اتفاقًا، في نوفمبر، مع شركة “براونشتاين حياة فربر شريك” للمحاماة. بهدف تقديم خدمات العلاقات الحكومية والاستشارات الاستراتيجية في الأمور المعروضة على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص مصر. نظير 65 ألف دولار شهريًا.
رغم ذلك، كانت لبادين إشارات قوية سابقة حول وضع حقوق الإنسان في مصر. أبرزها ما نشره في يوليو من العام الماضي حول “اعتقال النشطاء مثل سارة حجازي ومحمد سلطان، أو تهديد عائلاتهم”. الأمر الذي وصفه -آنذاك- بـ”غير المقبول”. وما تبع ذلك في شأن القضية المثارة بالقضاء الأمريكي ضد رئيس الوزراء المصري الأسبق حازم الببلاوي، وموقف الإدارة الأمريكية الجديدة منها.
حصانة الببلاوي المؤجلة
في 23 يناير الماضي، أوقفت إدارة بايدن طلب حصانة قدمته الحكومة المصرية (سابقًا) بخصوص الببلاوي، عبر سفارتها في واشنطن، بشأن تمتع الأخير بحصانة شخصية في مواجهة الدعوى المقامة ضده من الناشط الحقوقي الأمريكي مصري الأصل محمد سلطان. ليس فقط بحكم وضعه الدبلوماسي ولكن أيضًا بسبب منصبه الرسمي.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، فإن وقف طلب الحصانة جاء عقب تغير الإدارة الأميركية. ولن يُعاد النظر فيه إلا بعد 26 فبراير. ذلك مع استقرار الأمور الأساسية لإدارة الرئيس بايدن. بينما اشارت الصحيفة إلى طلب السفارة المصرية في واشنطن عدم تدخل الخارجية الأميركية في القضية التي رفعها سلطان ضد الببلاوي، في 10 يوليو.
لفتت الصحيفة أيضًا إلى تحذير السفارة المصرية بشأن تضرر “العلاقة الاستراتيجية” بين الولايات المتحدة ومصر جراء الدعوى. مستطردة بأن “القرار جاء بعد مزاعم عن حملة ضغوط دبلوماسية شنتها الحكومة المصرية لعرقلة الدعوى المرفوعة ضد الببلاوي من الناشط الأميركي من أصل مصري”.
سد النهضة.. أمريكا بايدن تتخلى عن مصر
يوم الجمعة الماضي وفي تغيير واضح للسياسة الأمريكية تجاه إثيوبيا والدعم الواضح لموقف مصر من سد النهضة، أعلنت الولايات المتحدة إلغاء قرار تعليق المساعدات المقدمة لإثيوبيا. وهو القرار الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترامب، على خلفية النزاع حول سد النهضة. وقد رهنت وزارة الخارجية الأمريكية -في بيان الجمعة- المساعدات بالتطورات الداخلية الأخيرة. في إشارة واضحة إلى الصراع الدموي في منطقة تيجراي وفي مؤشر جلي على التخلي عن الموقف الداعم لمصر في مفاوضات السد، ذلك حسب ما نقلته وكالة “أسوشييتد برس“.
هذا التغير في الموقف الأمريكي، أشار إليه أيضًا المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس. فقال إنّ “الولايات المتحدة قررت أن تتوقّف عن ربط التعليق المؤقت لمساعدات محددة لإثيوبيا بالموقف الأميركي بشأن سد النهضة”.
وقد بدأت إثيوبيا في ملء الخزان خلف السد بعد هطول أمطار الصيف العام الماضي. ذلك على الرغم من مطالب مصر والسودان بضرورة التوصل أولاً إلى اتفاق ملزم بشأن تشغيل السد.
وتعتبر مصر السد تهديدًا كبيرًا لإمداداتها من المياه العذبة، التي يأتي أكثر من 90٪ منها من نهر النيل، ويتدفق شمالاً إلى السودان ثم مصر. وهو الرافد الرئيسي للنيل. واستدعت إثيوبيا في أكتوبر السفير الأمريكي بشأن ما وصفته بـ “التحريض على الحرب” بين إثيوبيا ومصر من قبل ترامب. ذلك بعد تصريحات للرئيس السابق بشأن “احتمالية أن تضرب مصر السد بالقوة العسكرية”.
ملف حقوق الإنسان لا يبطل صفقات السلاح
الثلاثاء الماضي، أعربت إدارة الرئيس جو بايدن عن “قلقها بشأن سجل حقوق الإنسان للحكومة المصرية”. مشيرةً إلى أنباءً عن اعتقال أفراد من عائلة الناشط محمد سلطان. لكن عقب ذلك بساعات، أعلنت وزارة الخارجية عن صفقة صواريخ من طراز “رام”، بالإضافة إلى معدات عسكرية أخرى ذات صلة إلى القاهرة بقيمة 197 مليون دولار. ذلك في أول صفقة كبيرة للأسلحة إلى الشرق الأوسط في عهد جو بايدن.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس قال عن هذه الصفقة “هي تجديد روتيني للأسلحة الدفاعية التي لا تمنعنا بأي حال من الاستمرار في دعم تركيزنا على الديمقراطية وحقوق الإنسان”.
وهو ما انتقده تود روفنر مدير مجموعة مبادرة الحرية، التي يرأسها سلطان. واعتبره “ذلة” من إدارة بايدن، تطرح تساؤلاً جادًا إذا ما كانت هذه الإدارة جادة في جعل حقوق الإنسان أولوية، بحسب ما نقلته شبكة ABC News.
سنفرض قيمنا في كل علاقة
هذا في وقت صرح نيد برايس: “لقد قمنا وما زلنا نتواصل مع الحكومة المصرية بشأن بواعث القلق المتعلقة بحقوق الإنسان، ونتعامل بجدية مع جميع مزاعم الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي”، وشدد: “سنفرض قيمنا في كل علاقة لدينا في جميع أنحاء العالم، ويشمل ذلك شركائنا الأمنيين المقربين وهذا يشمل مصر”.
بحسب ما كتبه جيك سوليفاني بالتعاون مع دانيال بينيم (مستشار سابق في البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط)، في مجلة “فورين أفيرز“ الأميركية في مايو الماضي، فإن استراتيجية إدارة بايدن ستكون “أقل طموحًا من حيث الأهداف العسكرية التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها وفي مساعيها إلى إعادة تشكيل الدول من الداخل، وأكثر طموحًا من حيث استخدام النفوذ والدبلوماسية للضغط في سبيل تخفيف حدة التوترات”.
وبحسب مقال نٌشر بعنوان هل تسبب بايدن في هبوب رياح التغيير في الشرق الأوسط؟، تشير المواقف الأخيرة إلى أن إدارة بايدن غير مهتمة بالتعامل مع المنطقة من خلال عدسة “العمل كالمعتاد”. فيما يشير تحول سياستها إلى ممارسة الضغط على الجهات الفاعلة إقليميًا للانخراط في الإصلاح وحل النزاعات. وبالتالي تفكيك بعض العقبات التي جعلت الشرق الأوسط مضطربًا للغاية. ووفق ذلك فإن لبايدن الديمقراطي حسابات مختلفة بالتأكيد تجاه الوضع في الشرق الأوسط، ومصر أول من عليه التعامل مع هذا التغير.