تضرب الولايات المتحدة الأميركية حاليًا موجة من الطقس السيئ، يتوقع استمرارها لعدة أيام متتالية، بينما يواجه نحو 5 ملايين أمريكي حاليًا أوضاعًا صعبة بين ويلات الصقيع والظلام الدامس مع انقطاعات التيار الكهربائي. فيما لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، لكنه تطور ليطال أسعار الطاقة التي ارتفعت إلى مستويات قياسية.
هذه الأزمة المفاجئة تلقي بالضوء على التحدي الذي يواجه مخططو الطاقة ويدفعهم نحو دراسة سُبل تعزيزها لمواجهة التغيرات التي أصبحت أكبر من طاقتهم الاستيعابية. فالطقس السيئ يؤدي بالتبعية إلى إجهاد الشبكات الكهربائية وأنابيب الغاز، وكذلك البنية التحتية للطاقة. وهو أمر يستلزم حلولاً جدية لم تتمكن الدراسات الحالية من الوصول لآلية واضحة بشأنها تساعد في التعامل مع تقلبات الظواهر المناخية.
الصقيع يضرب إنتاج النفط الأمريكي
كشفت وكالة “بلومبرج” الأمريكية أن عدد كبير من الولايات الأميركية وقع في قبضة موجة الصقيع الحالية الناتجة عن انخفاض درجات الحرارة لمستوى قياسي. وذلك على امتداد المساحة الواقعة بين ولاية “نورث داكوتا” وحتى “تكساس”.
الضرر لم يعد قاصرًا على البرد الشديد وتوقف رحلات الطيران وغيرها من الأمور المعتادة في ظل هذه الأجواء. لكنه طال أيضًا الطاقة، فتم تخفيض إنتاج النفط لنحو مليون برميل يوميًا. وسجلت أسعاره نحو 60 دولارًا للبرميل. في رقم يعد الأول الذي يحققه البرميل منذ أكثر من عام مضى. نتيجة انخفاض معدل الإنتاج اليومي.
أيضًا، انخفض إنتاج الغاز بنحو 10 مليارات قدم مكعب، وتوقفت المصافي عن إنتاج البنزين والديزل، وراحت خطوط الأنابيب تعلن عن إعفاء أطراف التعاقد من أية التزامات بينهما. نتيجة وجودة حالة طارئة خارجة عن قدرة احتمالها، فيما اصطلح على تسميته بوضعية “القوة القاهرة”.
الصقيع.. شتاء 2011 يعود بضراوة
أعلن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن حالة الطوارئ في البلاد والتعبئة من أجل مساعدة الذين تضرروا من أزمة الطاقة. معتبرًا أن المشهد يكاد يكون غير مسبوق في تأثيره على تلك المساحات الشاسعة من البلاد، وبهذا الحجم الذي تكبد الجميع تبعاته.
رفعت الولايات جاهزيتها لمحاولة التعامل مع الأزمة. بل راحت بعض المراكز تبحث عن سُبل إعطاء اللقاحات تخوفًا من امتداد الأزمة لوقت أطول. ما قد يصحبه فتح المجال مرة أخرى لتفشي فيروس كورونا المستجد الذي لا يزال يفرض وجوده على قطاع كبير من الولايات ويهاجم الأفراد بشراسة.
هذه ليست المرة الأولى التي تمر فيها الولايات المتحدة بهذه الظاهرة. لكنها مرت بموجة مشابهة في شتاء عام 2011 ونتج عنها أيضًا تجمد في محطات الفحم والغاز. وهو ما جعل مراقبو الصناعة يشيرون إلى أن تجهيز محطات توليد الكهرباء في تكساس لفصل الشتاء لم تكن كافية هذا العام.
وقد أفاد مجلس الموثوقية الكهربائية في تكساس -الذي يخدم معظم الولاية- أن 29000 ميجاوات من السعة الحرارية مثل الغاز والفحم تعثرت دون اتصال. وأنهم قاموا بإغلاق حوالي 16000 ميجاوات من الطاقة المتجددة بالمثل.
ضغطت الموجة القطبية التي تجتاح وسط الولايات المتحدة حاليًا على أسعار الطاقة المتداولة بالفعل، ووضعتها عند مستويات غير مسبوق، مع توقع استمرار الوضع خلال الأيام المقبلة مع مؤشرات ازدياد حدة الصقيع وتبعاتها. خاصة بعد تجميدها لرؤوس الآبار. وهو ما أعاق إمدادات الغاز بشكل شبه كامل.
ومع تزايد الطلب على الوقود واجهت محطات توليد الطاقة صعوبة في تأمين الغاز. ذلك لأن حجم الطلب على التدفئة السكنية والتجارية له الأولوية في النظام القائم.
فوضى الصقيع تجوب الولايات
كشف موقع “باور أوتاج يو إس” عن حجم المأساة التي تعاني منها الولايات الأميركية. وأشار إلى نحو 400 ألف منزل في المنطقة التي تبدأ من لويزيانا إلى أوهايو وفيرجينيا. بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء عن نحو 300 ألف منزل في ولاية أوريجون. هذا في وقت حل فيه الظلام على مقاطعة ساسكس بنيوجيرسي، وتضرر من ذلك نحو 24 ألف منزل. بينما لم تنجو نيويورك أيضًا من ويلات انقطاع التيار الكهربائي في الجانب الأكبر من ضواحيها. وظل الظلام قابعًا على نحو 4.7 مليون منزل في المكسيك أيضًا.
اصطف الأفراد في طوابير محاولين ملء أسطوانات غاز البروبان المنزلية في هيوستن. كما خلت متاجر البقالة من معظم السلع الأساسية نتيجة تدافع المواطنين على التخزين تحسبًا لتطور الأجواء المناخية التي قد تحول دون خروجهم من المنازل. وكان الحليب على رأس المنتجات التي سُحبت بكميات كبيرة. بينما نفذ تمامًا المعروض من الحطب أيضًا، وفق ما أعلنته بلومبيرج.
الظواهر المناخية أصبحت فوق احتمال العالم وأثبتت هشاشته
لم يعد العالم بالفعل قادرًا على مواجهة الظواهر المناخية التي أثبتت حجم هشاشته في التحمل ومواجهتها بعد أن هزمت جمع الاستعدادات القائمة والتجهيزات الرئيسية الخاصة بمحطات الكهرباء ومنافذ الطاقة بشكل عام، وضربت أيضًا التطور التقني والتكنولوجي وأثبتت عجزه واحتياجه إلى التطوير. فتأثر بالموجات الأخيرة عدد كبير من الأسواق في دول العالم المختلفة. ومنها فرنسا واليابان وباكستان في مجال الطاقة، بعد انهيار شبكات الكهرباء والضغط بشكل كبير.
تشير مجموعة من الأبحاث العلمية إلى أن نوبات البرد القارس قد تكون نتيجة لارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. وهو ما يتزامن مع دفع الهواء البارد إلى خطوط العرض المنخفضة. والنتيجة تظهر في حدوث انقسام غريب؛ فيتحول فصل الشتاء إلى موجة من الدفء المتوسطة بينما تنتابه انفجارات متجمدة من الهواء القطبي، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية الآن.
ويشير علماء المناخ إلى أن ارتفاع درجات الحرارة في منطقة القطب الشمالي باعتبارها أحد أسرع المناطق ارتفاعًا على سطح الكوكب أدى إلى زيادة احتمالات تفشي هذه الموجات القطبية. ذلك بما يزعزع استقرار الدوامة القطبية ويزيد من احتمالات انتشارها في المستقبل القريب بعدد من الدول الأخرى.
في عام 2019 نُشرت إحدى الدراسات بمجلة “Nature Climate Change” أن هناك رابط بين انخفاض الجليد البحري في القطب الشمالي والشتاء البارد في خطوط العرض الوسطى. وخلصت إلى أن التحولات المؤقتة في أنماط الدوران واسعة النطاق في نصف الكرة الشمالي يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الجليد البحري وتكثيف طقس الشتاء في نفس الوقت.
وسبق أن مرت الولايات المتحدة الأميركية بظروف مشابهة خلال عامي 2000 و2001 في معدل انقطاع الكهرباء. لكنها لم تتكرر مرة ثالثة قبل الموجة الحالية. بينما وصل ارتفاع أسعار الطاقة لمعدل مقارب بظروف وملابسات مشابهه في منطقة الغرب الأوسط خلال عام 1998. وتندر الكثيرون بالوضع الذي تمر به ولاية كاليفورنيا مؤخرًا بعد توالي انقطاعات التيار، خاصة أن الولاية لم تشهد مثل تلك الانقطاعات الكهربائية منذ عام 2011.