تختلف وجهات النظر حول طبيعة وحجم الدور الذي يمكن أن تلعبه تقنيات الاتصال الحديثة، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة، فهناك من يرون فيها وسائل ثورية وديموقراطية يمكن توظيفها بكفاءة وفعالية لنصرة قضايا العدل والحرية في العالم، وهناك من يعتقدون أنها مجرد وسائل حديثة تتحكم فيها الشركات والدول الكبرى. فهل كانت ثورة 25 يناير 2011 في مصر ثورة “الفيسبوك”؟ وما الدور الذى لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في وقائع وأحداث وتطورات الربيع العربي؟ وما حدود الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الوسائل في المستقبل؟ وهل لا تزال الأحزاب السياسية ضرورية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي؟

يعتبر كتاب “بول ماسون”: “لماذا تنطلق في كل مكان: الثورات الكوكبية الجديدة” الصادر عام 2012 مثالاً للموقف المثالي والطوباوي من الشبكات السيبرانية. تابع “ماسون” الربيع العربي وحركة “إحتلوا وول ستريت” وغيرها من الإحتجاجات التي حدثت في 2011. يعتقد ماسون أن شبكة الإنترنت تكشف الحقائق للناس وتعزز التضامن بين الجماهير، ويؤمن بقدرتها على إعادة بناء المجتمع من جديد، ومع أنه لم يتجاهل إمكانية استخدام الدعاية والتضليل والأخبار الكاذبة، لكنه يراهن على أن ما يسميه “الوعي الشبكي اللحظي”، سوف يعيد الأمور دائما إلى نصابها الصحيح. وأن منافع الشبكات لا تقتصر على استخدامها في تحقيق بعض الإصلاحات الجزئية فحسب، بل يراهن على أنها يمكن أن تحقق عناصر المجتمع السيبراني، الفضاء المشترك، والتحكم، والتضامن، وهي نفس العناصر التى كانت فى قلب الثورات الاجتماعية فى العصر الصناعي، وأن الروابط على شبكة الإنترنت يمكن أن تلعب نفس الدور الذي لعبته تعاونيات العمال الذين أسسوا كوميونة باريس 1871م. 

ويعتقد أن الرأسمالية تختلف الآن اختلافًا جذريًا عما كانت في القرن الماضي، وأن شبكات “الانترنت” ساهمت في إزاحة التناقض بعيدًا عن الاقتصاد، وأن الصراع الطبقي، كما تصوره ماركس، لم يعد هو الصراع الأساسي، وأن إحتجاجات العام 2011 كشفت أن الشبكات غيرت ديناميات الرأسمالية ذاتها، وأن تحولاً طرأ ليجعل الصراع الرئيسي بين الفرد والاستبداد، وأن الشبكة تبشر بتحول كامل لصالح المضطهدين ويمكن أن تؤدي إلى حل تناقضات الرأسمالية سلميًا، وأن أشكال وطرق الإحتجاج تغيرت، فى حين أن شكل الحزب التقليدي لم يتغير منذ أكثر من قرن، ويستنتج من ذلك أن أشكال التنظيم التقليدية، مثل الأحزاب والمنظمات التي لها قيادات منتخبة، أشكالاً عفا عليها الزمن. 

الربيع الفارسي سبق الربيع العربي، ففي يونيو 2009 اندلعت احتجاجات واسعة في عدة مدن إيرانية بسبب مخالفات واتهامات بالتزوير في إعادة انتخاب الرئيس الأسبق “محمود أحمدي نجاد”. تابعت وسائل الإعلام الأمريكية الاحتجاجات وغلبت الإثارة والدعاية على تغطيتها للأحداث، ووجدت الاحتجاجات طريقها إلى يوتيوب وفيسبوك وتويتر، فخلال أسبوع كان قد نشر على “تويتر” مئات الآلاف من التغريدات والهاشتاجات، وكان من المثير ذلك الانتشار السريع لهاشتاج ومقطع فيديو على “يوتيوب” يظهر مقتل امرأة تدعى “ندا آغا سلطان” وتبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، وسط المتظاهرين في الشارع برصاص ميليشيات “الباسيج” الموالية للحكومة، وغير كثير من مستخدمي تويتر مواقعهم في الملفات الشخصية لتصبح في طهران في محاولة لإرباك الشرطة الإيرانية وتشتيت انتباهم. 

في تونس، قام بائع شاب متجول، محمد البوعزيزي، بإشعال النار في نفسه، احتجاجًا على مصادرة مسئولي البلدية لبضاعته وإساءة معاملته، وبعد أيام نشر فيديو للاحتجاج السلمي الذى قادته والدته أمام مبنى البلدية المحلي على يوتيوب وفيسبوك، وفى الأيام التالية، انتشرت الاحتجاجات في عدة مدن، ونشر الشباب رسائل ومقاطع فيديو على فيسبوك للإحتجاجات المتزايدة، واحتل هاشتاج البوعزيزي مقدمة “التريند”، ثم أصبح هاشتاج “سيدي بوزيد” هو الأول، وبعدها صار هاشتاج “تونس” هو الأكثر رواجًا.

في مصر، وفي 6 يونيو 2010 ، قام ضابطا شرطة في مدينة الإسكندرية بضرب وسحل وقتل “خالد سعيد” البالغ من العمر 28 عامًا، ونشرت صورة القتيل على شبكة الإنترنت، بعدها قام خمسة، من بينهم المصري المقيم في دبي “وائل غنيم”، والذي كان يعمل رئيسا لقسم التسويق في “جوجل” لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بتأسيس صفحة لمجموعة باسم “كلنا خالد سعيد” على فيسبوك. نجحت المجموعة في تنظيم عدد من الاحتجاجات والوقفات الصامتة، ودعت إلى “مناسبة” في ميدان التحرير بالقاهرة يوم 25 يناير 2011 -وهو يوم عيد الشرطة في مصر–وتجاوب الآلاف مع الدعوة وانتشرت الدعوة عبر “فيسبوك” و”تويتر”. وحول العالم شارك الكثيرون بتأسيس صفحات على فيسبوك باسم “أصدقاء مصر” تعبيرا عن تضامنهم، وتابعت وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية الأحداث، وإنتشرت هاشتاجات باسم “25 يناير”، و”مصر” حتى أصبحت الأكثر انتشارا فى العالم.

كانت ثورة 25 يناير من أكثر الثورات التي اعتمدت على وسائل الاتصال في التاريخ، وربما تكون هي الحدث الأكثر شهرة في تاريخ فيسبوك، لكن بعيدا عن الدعاية والضجة التى أثارتها وسائل الإعلام هنا وهناك، علينا أن نجيب على سؤال لماذا نجحت أدوات مثل “فيسبوك” و”تويتر” في مصر وتونس، بينما فشلت في إيران؟ 

يجيب “برايان لينزو” على هذا السؤال في مقاله المنشور بمجلة الاشتراكية الدولية قائلاً: عطلت الحكومة الإيرانية الإنترنت لعدة أيام، ولم يكن متاحًا للإيرانيين داخل إيران الوصول إلى “فيسبوك”، وتضمنت الصور والفيديوهات التي نشرت للإحتجاجات معلومات حول هوية منظمي الاحتجاجات ما سهل على الشرطة الإيرانية القبض على المتظاهرين وقمع الاحتجاجات أسرع مما كان يمكنها القيام به لولا هذه الوسائل. كما أن النسخة الفارسية من “تويتر” لم تصدر إلا في الأشهر الأولى من عام 2012، أي بعد عامين تقريبا على تهدئة الاحتجاجات، لذلك كانت معظم التغريدات على تويتر في فترة الاحتجاجات صادرة عن إيرانيين يعيشون فى الخارج، ويغردون باللغة الإنجليزية، لجمهور غير إيراني، ما يعني أن تويتر كان أقل ارتباطًا بالتنظيم الفعلي للاحتجاجات مما دلت عليه الهاشتاجات. 

في تونس لعب فيسبوك دورًا محدودًا لكن هامًا في الثورة، فتونس من أكثر بلدان إفريقيا اتصالاً، حيث بلغ مستخدمي الإنترنت وقتها أكثر من 3.6 مليون يمثلون حوالي 40% من السكان، لم ير نظام “بن علي” في فيسبوك تهديدًا حقيقيًا إلا قبل سقوطه بوقت قصير، وعلى الرغم من سهولة الوصول إليه، لم يجرؤ كثير من التونسيين في الداخل على “المشاركة” أو حتى “الإعجاب” بمقاطع الفيديو التى غطت الاحتجاجات حتى أصبح واضحًا أن “بن علي” في طريقه للخروج. ساعد فيسبوك في كسر حاجز الخوف وقوى من عزيمة الثوار، ومع انتشار الأخبار عن هروب “بن علي”، منح مزيدًا من الثقة للمتظاهرين.

في مصر، وبعد أيام قليلة من اعتقال وائل غنيم أطلق سراحه، وصرح لوسائل الإعلام بأنه قال للمحققين أن أحدًا لم يحرضه أو يطلب منه أن يقوم بما قام به، ولما كانت السلطات المصرية تتشكك في تأثير “فيسبوك”، خلصوا إلى أن ثمة قوى خارجية تقف وراء الأحداث، وأصبحت نظرية المؤامرة أو “المحرضين الخارجيين”- هي الرواية الرسمية لنظام مبارك. ومن اللافت للنظر، أنه في يوم إعلان تنحي مبارك، 11 فبراير 2011، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالاً بعنوان “التجمع السري الذي حرك الإنتفاضة”، ذكرت فيه أن عددًا من المنظمين الذين ينتمون لحركات وقوى سياسية وحزبية معارضة وجماعات حقوق العمال، التقوا أكثر من مرة، ولم يكن هؤلاء على اتصال، رسميًا على الأقل، بالمجموعة التي أدارت صفحة “كلنا خالد سعيد”. اختار المنظمون عددًا من المواقع في جوار المساجد الكبرى في الأحياء كثيفة السكان بالقاهرة للاحتجاج، وبالفعل، شهدت المواقع المختارة مظاهرات ومسيرات متفاوتة الأعداد، لكن رد فعل الشرطة السريع منعهم من الوصول إلى ميدان التحرير.

لكن مسيرة في موقع آخر هو “بولاق الدكرور”، كانت هي المسيرة الوحيدة التي تمكنت من الوصول إلى الميدان، هاجمت الشرطة المتظاهرين وانتشرت لقطات لعنف الشرطة على “يوتيوب” و”تويتر” و”فيسبوك”، وكانت سببًا رئيسيًا في حث الكثيرين على العودة إلى الميدان والاعتصام به إلى أن أعلن عن تنحي مبارك عن السلطة. وتكررت هذه القصة، مع اختلاف التفاصيل، في مدن مصرية أخرى، كالسويس والاسكندرية والمنصورة وغيرها.

وكما هو حال كل الانتفاضات الكبرى، فإن الانتفاضة التي تبدو تلقائية، ليست عفوية تمامًا، فعلى مدار سنوات حكم مبارك الثلاثين، ناضل عمال وموظفون ومهنيون لسنوات، وقضى مناضلون فترات طويلة في السجن، هؤلاء هم من حرثوا الأرض ومهدوها لثورة يناير، وكان لهم ولخبراتهم وقدراتهم التنظيمية وصمودهم دورا حاسما في مسيرة الثورة. بالطبع لا يمكن تجاهل تقنيات الإتصال الحديثة، أو التقليل من أهمية الإنترنت، فتطور وسائل الاتصالات، والنظام المالي الرقمي، والسيولة الفائقة لرأس المال، هي بالقطع تطورات ظاهرة وهامة، لكن نظرة فاحصة تحت سطح الثورة الرقمية، تكشف بوضوح أن السمات المميزة للرأسمالية لا تزال قائمة: المال والتلوث والاحتكار وعدم المساواة والاضطهاد والاستغلال والحرب. فهل يمكن اعتبار الشبكات ومجموعات الفيسبوك بديلاً للأحزاب السياسية الديموقراطية؟

قبل عامين جرى حوار على صفحات جريدة “النيويوركر” الأمريكية بين الصحفي البريطاني الكندي مالكوم جلادويل، و كاي شيركي الأستاذ بجامعة نيويورك، تركز الحوار حول سؤالين: هل جعلت وسائل التواصل الاجتماعي التظاهر والاحتجاج يحدث أكثر من ذى قبل؟ وهل التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي يجعل الانتصار أكثر احتمالاً؟ 

أجاب شيركي بنعم على السؤالين، في حين تحفظ جلادويل على إجابة السؤال الثاني، فهو يرى أن هناك فارق بين المنظمات الديموقراطية التي تقوم على روابط قوية، ومنصات التواصل الاجتماعي التي تقوم على روابط ضعيفة. وتعرف الروابط القوية على أنها تركيبة قوامها مقدار الوقت والكثافة العاطفية والثقة والخدمات المتبادلة التي تتسم بها العلاقات. ويرى جلادويل “أن منصات التواصل الاجتماعي تقوم أساسًا على نمط من الروابط الضعيفة”، “فتويتر” وسيلة لمتابعة أشخاص ربما لم ولن تقابلهم أبدًا، وفيسبوك هو آداة لإدارة معارفك ومتابعة الأشخاص الذين لا يمكنك البقاء على اتصال دائم معهم. لذلك، يمكن أن يكون لديك خمسة آلاف “صديق، ونصف مليون متابع على فيسبوك، بينما لا يمكنك فعل ذلك في الواقع”. وخلص جلادويل إلى أن التنظيمات التي تقوم على أنماط من العلاقات الضعيفة، نادرا ما تؤدي إلى نشاط فعال ومؤثر أو تحقق إنجازات كبرى. 

ويلفت “لينزو” النظر إلى دراسة أخرى، أجراها عالم الاجتماع الأمريكي “دوج ماك آدم”، قارن فيها، بين من واصلوا النضال ضمن حملة “صيف الحرية” فى المسيسيبي، وبين من تسربوا أو خرجوا منها مبكرا، حيث طلب من المشاركين في الدراسة من المجموعتين، كتابة قائمة بمن يرغبون في إطلاعهم على أنشطتهم ومشاركتهم فيها، وكانت النتيجة، أن من استمروا في  الحملة قدموا قوائم أكثر –وأطول- مما قدم المتسربون. لم يكن الفارق بين المجوعتين فى درجة “الحماس الأيديولوجي” كما كان متوقعًا، فالذين واصلوا الاحتجاج واستمروا لفترة أطول، كان لديهم أصدقاء مقربون وشركاء حقيقيون شاركوا في الحملة. وخلص من ذلك إلى أن النشاط المؤثر والفعال، هو ظاهرة مرتبطة بوجود منظمات تقوم على نمط من الروابط القوية بين المشاركين. 

ما من شك في أن الاحتجاجات تنتقل الآن أسرع من أي وقت مضى، كما أن نشر مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت قد يثير مظاهرات تضامنية هنا أو هناك، لكن تحقيق الانتصار لا يمكن إنجازه إلكترونيًا، وكما أوضحت تجربة حركة الحقوق المدنية سابقًا، والثورة المصرية لاحقًا، يظل الاحتجاج الجماهيري، مهما كان واسعًا، حدثًا واحدًا فقط في صراع طويل، ويظل التنظيم الديمقراطي الواسع، القائم على العلاقات القوية، وسيلة ضرورية ولازمة لتحقيق الانتصار.

جلادويل على حق عندما يقول:”إن إعطاء الأولوية للفضاء السيبراني، وبذل الجهود لبناء علاقات ضعيفة على حساب العلاقات القوية ليس استراتيجية رابحة، بل استراتيجية فاسدة وملوثة بإيديولوجيا الرأسمالية وقدرتها على الدعاية والتسويق، وقصيرة النظر إذ تستبعد عمدًا وبوعي التفكير في ما يتوجب فعله في اليوم التالي للاحتجاج، يقول جلادويل، أنه في الظروف الثورية، يمكن لهذه الاستراتيجية أن تكون بمثابة دعوة للانتحار الجماعي”.