تمثل الثروات الطبيعية في كل بلاد الدنيا المخزون الاستراتيجي الدائم والمستقبلي لكافة الأجيال سواء كانت الحاضرة أو المستقبلة. ولا تعد سيادة السلطة على الدولة كاملة إلا بممارستها هذه السيادة على ثروات البلاد، دونما تدخل من بلدان أخرى. قد جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1803 ما يؤكد ذلك بقوله نصًا (حق الشعوب والأمم في السيادة الدائمة على مواردها الطبيعية التي يجب أن تمارس في صالح التنمية القومية ولرفاهية شعب الدولة المعنية).

وانطلاقًا من احترام الاتفاقيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة لحق الشعوب والدول في السيطرة على الثروات الطبيعية للبلاد، وكذا حرص المدونات الدستورية على النص على احترام ذلك، والمحافظة على تلك الثروات وحفظ حقوق الأجيال المقبلة فيها، وعدم إهدارها بما لا ينفع المواطنين، أو لا يعود بالنفع العام على عموم الدولة، وألا تكون هذه الثروات مجرد أدوات أو موارد طيعة في يد أصحاب السلطة التنفيذية دونما رقابة شعبية حقيقية، وأن تكون النصوص الدستورية أكثر حرصًا وملائمة لظروف البلدان العربية الآنية، والتي تجعل من كل ثروات هذه البلدان هي مجرد أموال في يد ذوي السلطة يتصرفون فيها رهن مشيئتهم، وهو ما يعني عدم صونهم لهذه الثروات، وإهدار حقوق الأجيال المقبلة فيها، علاوة على عدم تمتع المواطنين بهذه الثروات.

ولما كانت بلدان المنطقة العربية والشرق أوسطية بها العديد من الثروات الطبيعية، وهو ما يجعلها في مطمع لتدخلات أجنبية بطرق حديثة ومختلفة، وذلك للتأثير في دوائر صناعة القرارات السياسية لضمان أن تستمر حقول الثروات الطبيعية في هذه البلدان تؤمن حاجة هذه الدول “الحالية والمستقبلية”، بغض الطرف عن مدى صلاحية ذلك لشعوب هذه البلدان بشكل رئيسي. وهو الأمر الذي نجد مرجعيته الأولية في كيفية بناء دساتير هذه البلدان، بحيث تبقى نصوصها مفتوحه لتسمح لسلطاتها بالتصرف الحر في هذه الثروات دونما أي عائق أو قيد قانوني عليها.

يُعد من أهم أساسيات دور الدولة في المجتمعات الحديثة المحافظة على ثروات الشعوب، وحسن إدارتها وتنميتها، وهذا ما أعتقد أنه يشكل عنصرًا بالغ الخطورة لدور الدولة الاجتماعي في العصر الحديث، وتبدو أهمية هذا الدور الاجتماعي للسلطات الحاكمة للدول في ظل تطورات النظريات أو النظم الاقتصادية الغالبة في العصر الحديث، ومن بينها العولمة، واتساع أنشطة الشركات المتعددة الجنسيات، حيث أصبح أمرًا حتميًا أن تتعامل الدول ككيانات سياسية مع تلك الكيانات والتيارات الاقتصادية.

ولكن هل يعني أن الدولة عليها أن تتكيف مع تيارات العولمة الاقتصادية أو التفاعل مع الاتجاهات الاقتصادية العالمية والشركات عابرة الحدود، أن تتخلى الدولة عن دورها الرئيسي في الحفاظ على ثروات البلاد، أو السعي نحو خصخصتها، أو جعلها سلعة سوقية لا تختلف عن مسميات القطاع الخاص، أو أن تكون تصرفاتها غير متماشية مع الحفاظ على ثروات البلاد وأصولها مما يهدر حقوق الأجيال المقبلة فيها، ويزعزع المركز المالي للبلاد. إذ أنه يدق دور الدولة في ظل التطورات العالمية في المناحي الاقتصادية وخصوصًا دورها الاجتماعي، في حرصها وحمايتها على ثروات البلاد، حفاظًا على حقوق الأجيال القادمة في هذه الثروات، وكذلك حرصًا من الدول على التدخل في الأمور التي تمس سلامة الثروات والحرص على عدم تبديدها في ظل تعالي النعرات الرأسمالية المفرطة.

وينطبق ذلك القول حتى في أوقات الأزمات المالية أو ظروف الفقر التي تمر بها الدول في بعض الأزمنة، فليست تلك بمدعاة إلى تخليها عن الحرص في التعاطي مع الأصول المالية للدولة، وألا تتخذ منها سبيلاً للعبور من أزماتها المالية، حيث يبرز الدور الهام الذي يجب أن تضطلع به الدولة في إدارة عملية الاندماج في الاقتصاد العالمي،ويتضمن دور الدولة توفير الحماية للقطاعات المعرضة للتضرر من عمليات السوق والدفاع عنهم، والاستثمار في القطاعات ذات المنفعة العامة والتي لا يُقبِل القطاع الخاص على الاستثمار فيها.

ويشكل المال العام، بما يحتويه من موارد طبيعية، وعقارات وأموال منقولة تسيطر عليها السلطة السياسية الحاكمة للدولة، إرثًا دائمًا، وحقًا مملوكًا للشعب في جميع الأوقات، ومن ثم بات الحفاظ عليه من أي شطط أو عدوان يمثل أصلاً قانونيًا، علاوة على كونه يُعد من القيم العامة والمبادئ النبيلة الحاكمة للتصرفات البشرية حيال هذه الأموال أو الممتلكات العامة، سواء كانت هذه التصرفات التي تمثل عدوانًا قد أتت من قبل الأفراد، أو تصرفات من الممكن أن تُنسب للسلطة السياسية بإهدارها أو تبديدها للممتلكات العامة، ويكون ذلك بعدم الحفاظ عليها أو إتيان تصرفات تمس بسلامة أو قيمة تلك الأموال. وبالتالي فإنها لا تحسن استغلالها، أو تنميتها أو الحفاظ عليها بما تمثله من إرث للأجيال المقبلة، إذ أنه من الضروري أن يقف دور الدولة عند حدود الحفاظ والتنمية لهذه الثروات الاقتصادية، إن لم يكن زيادة قيمتها.

وقد أولت الدساتير المصرية حمايتها للمال العام بالنص على عدم جواز التصرف فيه، سوى بالاستغلال أو الانتفاع، وهذا ما يحافظ على حقوق الأجيال القادمة في ثروات البلاد، وعدم تعريض هذه الثروات للتبديد أو الضياع، ومن ثم وجب النظر إلى طرق تعامل السلطة التنفيذية مع المال العام، ويجب أيضًا النظر إلى الحدود الوظيفية الممنوحة لها في كيفية تعاملها مع أموال الشعب العامة، إذ يجب أن يقف ذلك الدور عند حد الاستعمال والاستغلال، ولا يكون لها الحق في التصرف فيه بما يخرجه عن طبيعة كونه، أو تحويله إلى مال خاص مملوك للدولة، وبالتالي يحق لها التصرف فيه، وهذا ما يجد صداه على سبيل المثال فيما تم نشره في الوقائع المصرية في العدد رقم 33 مكرر (ح) بتاريخ 19 أغسطس سنة 2020، قرار رئيس الجمهورية رقم 459 لسنة 2020، بما جاء فيه من زوال صفة النفع العام عن بعض الأملاك المملوكة ملكية عامة للدولة، وتحويلها لمال خاص يحق للسلطة التصرف فيه، وهو الأمر الذي يقتضي تعديل الطرق القانونية التي تبيح للسلطة التنفيذية منفردة أن تحول المال العام للدولة إلى مال خاص للدولة وهو ما يبيح لها التصرف فيه، إذ أن ذلك الأمر يجعل من السلطة التنفيذية دونما رقيب هي صاحبة التصرف الحر في أموال الدولة، وهو الأمر الذي يتعارض مع حقيقة وطبيعة المال العام الدستورية، وبما له من حصانة وحماية واجبة حماية لثروات البلاد ولحقوق الشعب، وحماية لحقوق الأجيال المقبلة فيها، وعلى أقل تقدير أن تكون هناك رقابة برلمانية على ذلك الأمر لما يمثله من خطورة على ثروات البلاد وأموالها العامة المملوكة لجميع أفراد الشعب، وهذا ما يتفق يقينًا مع ما جاء في الدستور المصري الأخير في مادته رقم 32 بقولها “موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحُسن استغلالها، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها”.