تفتقد المدينة المصرية كما يفتقد القانون المصري والممارسة العلمية على الأرض إلى الاعتراف بحق المواطنين في الفضاء العام. هذا الملف الذي يعاني كثيرًا في ظل تآكل الرقعة الخضراء. وهو أمر يعده الخبراء يخالف أسس المدينة الديمقراطية، التي تتسم بالمساواة، وتوفر أماكن يتعرف فيها الناس على بعضهم البعض، عبر البيع أو الشراء أو التواصل الاجتماعي أو اللعب أو الاحتجاج مع التعبير عن الآراء والأفكار بحرية.

مؤخرًا، أثار هذا الفقد في الحق في الفضاء العام الاعتراضات الشعبية في أحياء ذات أبعاد تاريخية كمصر الجديدة والزمالك ومدن كوزموبوليتانية مثل الإسكندرية، تشهد مشروعات مرورية وإنشاءات كباري تهدف إلى ربط مناطقها بمدن مجاورة. لكن هذا على حساب المساحات الخضراء؛ المتنفس الفعلي لمواطني هذه المناطق.

ففي النصف الثاني من القرن العشرين، وبسبب الرغبة المتنامية في الاستغلال العقاري الأكثر ربحًا، خفتت السياسات الحكومية المحافظة على الوجه الحضاري والتراثي للمدن المصرية. وبدأت تدريجيًا المباني المتميزة في الاختفاء لتحل مكانها أخرى أسمنتية. كذلك استبدلت العديد من الحدائق القديمة والتراثية بمبانٍ حكومية وخدمية مختلفة. كما تم بناء الأبراج الحديثة المرتفعة التي لا تتناسب مع النسيج العمراني القديم للمدينة القديمة، ما أدى إلى تشوه وتلوث بصرى، ولاحقًا سمعي وبيئي تراكم مع الزحام الجديد الذي خلفته العمارة الجديدة. فاشتكى الناس إهدار حقهم في الفضاء العام.

الحق في الفضاء العام

بحسب المحامي الحقوقي حمدي خلف، فإن الحق في الفضاء العام يتساوى فيه جميع المواطنين. ويشمل أحقية الوصول للمساحات العامة لإجراء المناقشات العامة، والتعبير الثقافي، والأنشطة الترفيهية. على أن تلتزم الدولة بضمان إتاحة تلك المساحات بشكل آمن. كما يتضمن الحق في أن يعامل الجميع على قدم المساواة في المساحات العامة. ذلك بغض النظر عن العمر أو الجنس أو العرق أو الدخل أو الطبقة أو الدين أو الانتماء السياسي.

إلا أن الواقع يخالف ذلك بشكل صارخ، كما يشير خلف، الذي يدلل على ذلك بالانتهاكات التي جرت بحق عقارات ذات معمار متميز، وأخرى تراثية تقع في الإسكندرية. رغم محاولات العديد من المبادرات لإنقاذ تلك الأماكن.

عمل خلف عبر مبادرتي “سف ألكس”، و”حق الرؤية”، على إنقاذ مبان تراثية عدة، من براثن مافيا العقارات، إلى جانب الحق في إتاحة استخدام الشواطئ، ورؤيتها.

الفضاء العام ضحية تضارب القانون ولائحته

يشير خلف أيضًا إلى أن حق المواطنين في الأماكن الحضرية، بما فيها الشواطئ والرقع الخضراء، مؤسس بمادة دستورية تنص على أن “الثروات مشاع بين المواطنين، ولا يجب أن تستأثر بها فئة دون أخرى”.

يبدى خلف أسفًا لما آلت إليه عروس البحر، بعد أن تغيرت ملامحها وجرى هدم أغلب مبانيها التراثية، وتكدست بالمباني الأسمنتية، التي شوهت وجهها الحضاري، وذلك عبر استغلال التضارب بين قانون المعمار المتميز ولائحته التنفيذية.

يكمن التضارب في اشتراط المادة الثانية من القانون ارتباط الطراز المعماري المتميز بأربعة معايير. هي: التاريخ القومي، أو شخصية تاريخية، أو كونه يمثل حقبة تاريخية، أو يعد مزارًا سياحيًا، أو كلها مجتمعة. بينما أضافت اللائحة التنفيذية للقانون نفسه من الشكل المميز للطراز المعماري شرطًا خامسًا لإدراج المبنى في مجلد المباني المحظور هدمها.

يوضح خلف أن محكمة القضاء الإداري قضت بإزالة 5 عقارات من مجلد التراث، وفقًا لهذا الشرط.

يلفت خلف أيضًا إلى ما أسماه “محاولات مافيا العقارات” للاستيلاء على المباني المميزة. ذلك عبر استئجارها أو شراءها ولاحقًا تخريبها. كما حدث مع “سينما ريولاتي”، التي جنح مستأجريها إلى تخريبها من الداخل، لاستبدالها بمبنى زجاجي ضخم لا يناسب معمار وتاريخ المكان. الأمر نفسه تكرر مع فيلا الترام والكثير من المباني المعمارية المميزة، التي تعد كجزء من الصورة الحضارية، والتاريخية للمدينة.

قضت إحدى المحاكم الألمانية بعدم إجبار الجمهور على دفع رسوم نظير التنزه على الشواطئ الألمانية أو السباحة في البحر. حتى في حال كان هناك استغلال تجاري للمكان.

كورنيش الإسكندرية وغياب الجمعيات الأهلية

في الدستور المصري ووفق المادة 45 “تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدى عليها، أو تلويثها، أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول”.

في هذا السياق، يؤكد حمدي خلف أن الشواطئ أيضًا باتت ضحية تلك التعديات. إذ استولت المنشآت والكافيهات على كامل مساحتها، فحجبت الرؤية، وتوغلت إلى داخل المياه. وهو ما يخالف القانون والدستور. كما يضر بالبيئة البحرية.

ويرجع خلف فشل المبادرات في تحقيق هدف إنقاذ شاطئ الإسكندرية إلى عدم وجود جمعيات أهلية داخل المحافظة. وهي الطرف الوحيد -وفق خلف- الذي يحق له التصدي قضائيًا لخطوات الإضرار بثروات الفضاء العام. فالقانون لا يعتد بالمواطنين العاديين كأصحاب مصلحة في رفع هذا الضرر، ويعتبرهم غير ذوي صفة.

يقول خلف إنه رغم حكم قضائي سابق يدين مثل هذه التعديات -نجحت في الحصول عليه جمعية الراحل الدكتور أبوزهرة- استمرت التعديات. ذلك في غياب الجمعية وعدم وجود أخرى بديلة، تستأنف العمل ضد هذه المخالفات. لذا فشلت جميع المحاولات في إنقاذ الشاطئ. ووصل الأمر إلى تدمير أحجار الكورنيش التراثية التي تميز المدينة في منطقة المنشية، بهدف بناء جراج للسيارات.

مأساة مصر الجديدة

بحسب المادة 108 من الدستور: للمواطن المصري حق في إدارة مدينته من خلال المجالس المحلية المنتخبة لكل وحدة محلية، وتختص تلك المجالس بمتابعة تنفيذ خطة التنمية، ومراقبة أوجه النشاط المختلفة، وممارسة أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية من اقتراحات، وتوجيه أسئلة، وطلبات إحاطة، واستجوابات وغيرها، وفي سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية”.

مؤخرًا وفي حي مصر الجديدة، غاب رأي السكان أثناء إقامة مشروعات مرورية تتمثل في إنشاء عدد من الكباري، يقول المواطنون إنها شوهت بكتلها الخرسانية التنسيق الحضاري المعروف للمدينة. ذلك في عمليات شهدت إزالة عدد كبير من الأشجار بالشوارع التي شهدت أعمال إنشاء على مساحات قُدرها البعض بـ 90 فدانًا.

الناشط في حي مصر الجديدة وعضو مبادرة تراث مصر الجديدة، ميشيل حنا، أعرب عن أسفه لتجاهل السياسات الحكومية أصوات السكان، والمضي قدمًا في تنفيذ المشروعات، التي لم تتسبب فقط في تشويه التنسيق الحضاري للمدينة. لكن أيضًا أصبحت خطرًا على السكان. خاصة في ظل ارتفاع نسبة الحوادث نتيجة الطرق السريعة. “أصبح الأمر أشبه بالمأساة”؛ يقول حنا.

تخالف هذه المنشآت قوانين التنسيق الحضاري التي تنص على أن تعد تلك المناطق منطقة “أ” في التنسيق. أي لا يجب الاعتداء عليها أو التغيير فيها. إلا بما يناسب طبيعة العمران في المدينة، وفق حنا.

يضيف حنا أيضًا أن الانتهاكات وصلت حد القضاء على أغلب الرقعة الخضراء بالحي، والإضرار بالنظام البيئي، ما حدا ببعض السكان إلى مقاضاة الجهات المعنية في المحاكم.

ويوضح: “في الفترة الأخيرة حاولت نفس الجهات المساس بكنيسة البازيليك، ذلك المبنى التاريخي، ذا الطراز المعماري الفريد، وكادت أن تنجح لولا الرفض الشعبي الجارف لتلك الخطوة، مما اضطرها سحب المعدات الثقيلة التي كانت تحيط بالمكان”.

الرجوع للخلف

تشير الدراسات إلى أن الأشخاص المحرومين اجتماعيًا واقتصاديًا يمكن أن يستفيدوا كثيرًا من تحسين فرص التمتع بالمساحات الخضراء الحضرية. ولذا فإن تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية فيما يتعلق بتوافر المساحات الحضرية يمكن أن يساعد في خفض أوجه التفاوت في الصحة نتيجة الدخل، والانتماء إلى الأقليات والإعاقة، وعناصر اجتماعية واقتصادية وديموغرافية أخرى.

الباحثة المساعد في العمران، ضحى إبراهيم، أكدت أن التوجه الحديث في العمران ينص على الاهتمام بحاجات سكان المدن؛ من طرق مشاة إلى حارات تخص الدراجات ومساحات خضراء.

وأشارت الباحثة إلى أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة لمدن وحكومات العالم. وتتضمن المشاركة المجتمعية، ما بين المجالس المحلية والمواطنين، في المشاريع التي تمسهم. ذلك إلى جانب الاتجاه التنموي بتوفير الطاقة.

وبحسب ضحى، يتم ذلك من خلال تصغير المدن ومنحها الإمكانات كافة. فضلاً عن استغلال المساحات، التي لا تجعل هناك ضرورة لقطع مسافات طويلة عبرها، منعًا لاستهلاك الطاقة، وبعكس اتجاه “الحداثة” القديم.

تضرب ضحى مثالاً على ذلك بمدينة باريس الفرنسية، والتي تعد من المدن الضخمة ذات المشكلات العمرانية. ومع ذلك توجهت السياسات هناك إلى بناء حديقة ضخمة في منتصف أحد أشهر شوارعها “الشانزليزيه”. كما سعت السلطات هناك لاستبيان رأي السكان حول طريقة توزيع المساحات الخالية. بعد إقرارها إزالة العديد من جراجات السيارات، والطرق السريعة. وذلك كله بهدف زيادة مساحة الرقعة الخضراء، والمساحات التي تسمح برفع مستوى رفاه المواطنين.

باريس الشانزليزيه
باريس الشانزليزيه

تسعى القاهرة لاتباع المدرسة القديمة في العمران التي ترجع لأربعينيات القرن الماضي، بإنشاء الكباري والطرق السريعة وقطع الصلات بين السكان وبين أماكنهم الحضرية، والإساءة إلى جودة المعيشة، والحالة النفسية للمواطنين، وفقًا للباحثة ضحى إبراهيم.

وبعكس توصيات الأمم المتحدة تقوم الجهات الحكومية في مصر بالزحف خارج العاصمة، عبر إنشاء طرق لا تناسب حجم الإنسان العادي، وإهدار الكثير من المساحات. في حين يتم تفريغ المدينة من وجهها الحضاري، وإقرار سياسة الأمر الواقع، بدلاً من العمل على التطوير عبر الحوار المجتمعي الجاد.

خطورة بيئية

توصي منظمة الصحة العالمية بـ 10 أمتار مربعة لكل فرد لضمان بيئة صحية. أما الاتحاد الأوروبي فيوصي بحوالي 7 أمتار مربعة كحد أدنى لنصيب الفرد. فيما يوصي البرنامج البيئي للأمم المتحدة بـ 9 أمتار مربعة كحد أدنى، وكلها لا تنطبق على حياة القاهريين، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حصة القاهريين من المساحات الخضراء 0.8 متر مربع للفرد. أما سكان الإسكندرية فلديهم 0.4  متر مربع للفرد فقط، وهي الحصة الأدنى نسبة لأغلب مدن العالم.

وفي مدن البلدان المجاورة -على سبيل المثال- تملك تونس 14.5 متر مربع للفرد، وأديس أبابا لديها 36.1 متر مربع للفرد. كما أن المدن الضخمة المماثلة للقاهرة، مثل كلكتا في الهند تضمن 1.8 متر مربع من المساحات الخضراء للفرد الواحد. وجاكرتا في إندونيسيا 2.3 متر مربع للفرد.

يصف الخبير بالتغير المناخي والبيئي، سيد صبري، الوضع بشديد الخطورة من الناحية البيئية. وهو يرى أن الرقعة الخضراء بمثابة رئة المدينة، وأنها يجب أن تساوي 25% من مساحة أي مدينة، في حين لا تتعدى المساحات الخضراء داخل القاهرة الخمسة في المئة.

ويشدد صبري على ضرورة استبدال المساحات الخضراء التي يتم التعدي عليها بدعوى التطوير بأخرى مماثلة في المساحة، ذلك وفقًا لمواد القانون، والتوسع في الحدائق العامة، بهدف تجديد هواء المدن، والحفاظ على المناخ.