خلال الفترة من 2012 وحتى أوائل 2014 عانت مصر وبشدة من أزمة انقطاع الكهرباء. نتيجة النقص الحاد في توليد الطاقة، في ظل تقادم المحطات وعدم اعتماد الحكومة على المصادر الجديدة والمتجددة. ذلك في وقت شهد فيه السوق المصري أزمة أخرى على مستوى توفير الغاز والوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء التقليدية. بينما في أوائل 2015 وبالتحديد عقب انطلاق المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ، اتجهت الحكومة -في سبيل إنقاذ الوضع- لإبرام عقود ومذكرات تفاهم مع كبريات شركات الكهرباء الإقليمية. وقد تم ذلك بشكل مبالغ فيه تعدى احتياجات الدولة، خلق فائضًا غير مستغل الكهرباء المهدرة، أبرز تساؤلات حول: كيف تسببت مشروعات الكهرباء في أزمة حقيقية؟ ولماذا لم يتم يستغل فائض إنتاج الدولة لتجنب الخسائر؟
الكهرباء المهدرة.. من العجز إلى إنتاج 58 ألف ميجا وات
خلال 6 سنوات تقريبًا شهدت مصر جهودًا قوية لزيادة إنتاج الكهرباء، عقب أسوأ موجات انقطاع التيار المتكرر ما بين 2011 و2014. هذه الجهود بلغ معها إجمالي إنتاج الكهرباء بداية 2021 نحو 55 – 58 ألف ميجا وات. في وقت تراوح الاستهلاك بين 24 – 28 ألف ميجا وات خلال أشهر الشتاء، و30 – 32 ألف ميجا وات خلال الصيف (ذروة الاستهلاك).
استثمرت مصر أموالاً ضخمة في مجال الكهرباء بهدف حل مشكلتها المزمنة مع عجز الإنتاج، والذي كان يتراوح ما بين 2-3 جيجاوات منذ 2008، ووصل إلى 6 جيجاوات عام 2014، بحسب بيانات وزارة الكهرباء. لذلك تبنت الحكومة خطة طوارئ قومية سعت لإضافة 3.6 جيجاوات باستثمارات 7.2 مليار دولار. كما أسرعت في إنشاء 3 محطات توليد عملاقة للكهرباء بنظام الدورة المركبة، بقدرة إجمالية 14.4 جيجاوات. هذا إلى جانب مشروعات للطاقة المتجددة أبرزها حقل بنبان للطاقة الشمسية البالغة قدراته الإجمالية 1.8 جيجاوات.
وصل الإنتاج إلى حاجز الـ 58 ألف ميجا وات يوميًا ما تسبب في تحقيق فائض يصل لنحو 25%
وحتى بداية 2020 تمكنت وزارة الكهرباء من إضافة أكثر من 28 ألف ميجا وات من الكهرباء عبر 27 محطة جديدة -دون حساب مجمع بنبان- وهو ما يعادل 13 ضعف ما ينتجه السد العالي في أسوان.
التسرع وعدم الدراسة تسببا في أزمة الكهرباء المهدرة
يوضح الخبير الاقتصادي إبراهيم زهران، في تصريحات لـ “مصر 360″، كيف تسببت مشروعات إنتاج الكهرباء في إهدار الطاقة المولدة. فيقول إن هذه المشروعات الضخمة التي نفذتها وزارة الكهرباء على مستوى توليد الكهرباء حولت الدولة من مرحلة العجز الكلي في الطاقة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي. ثم تحقيق فائض جيد كان من المفترض استغلاله لتحقيق عائد دولاري للدولة بدلاً من إهداره.
وقد جاءت مشروعات توليد الكهرباء على حساب البنية التحتية لنقل الكهرباء. خاصة وأن المشروعات نُفذت في وقت قياسي لتلبية الاحتياجات الطارئة لمصر. لكنها اعتمدت على شبكات نقل قديمة غير قادرة إلا على احتواء قدرات لا تتجاوز 32 ألف ميجا وات من إجمالي الإنتاج، وفق زهران.
يرى زهران أنه كان من المفترض التوسع في تطوير شبكات النقل وإحلال شبكات جهد جديدة محل القديمة كي تكون قادرة على استيعاب الطاقات التي تستهدفها الحكومة توليدها للقضاء على العجز. لكن ما حدث كان العكس وتسبب ذلك في إهدار قدرات ضخمة، ولم تتيقن الحكومة لذلك إلا مستقبلاً، على حد قوله.
محاولة خفض نسبة الفقد
عملت الحكومة على خفض نسبة الفقد في الطاقة من 4.07% عام 2018/2019 إلى 3.82% في عام 2019/2020. وتستهدف الشركة المصرية لنقل الكهرباء الوصول بهذه النسبة إلى 3.8% للعام المالي 2020/2021. ذلك بالاستمرار في إحلال شبكات ذات الجهد 33 “ك.ف” بشبكات ذات الجهد 66 “ك.ف”. فضلاً عن استخدام الجهد 220 ك.ف بدلاً من 132 “ك.ف”، وإعادة توزيع الأحمال في محطات المحولات. بالإضافة إلى الاستمرار في تركيب المكثفات على الجهود المتوسطة في محطات محولات الجهد العالي. وأيضًا قيام مراكز التحكم باستغلال القدرات غير الفعالة المتاحة بمحطات الإنتاج.
خبير الطاقة الدكتور رمضان أبوالعلا، يؤكد لـ “مصر 360″، أن التسرع في بناء محطات كهرباء -رغم دورها في حل مشكلة انقطاع التيار- حرم القطاع فرصة التعاقد على تكنولوجيا أحدث وأعلى كفاءة من التكنولوجيا الحالية. إذ كان من الضروري التريث في استغلال موارد الدولة المالية وتوفيرها لتطوير البنية التحتية الخاصة بمشروعات الكهرباء والطاقة. خاصة وأن هناك جهود جارية بالفعل لرفع كفاءة المحطات التقليدية. وبالتالي لابد من تطوير تكنولوجيا الطاقة المتجددة للاعتماد عليها بشكل أكبر في السنوات المقبلة. الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض أسعار التكلفة ورفع كفاءة الخدمة المقدمة.
إهدار 25% من فائض الإنتاج
لم تخطط الدولة لكل الإضافات الحالية منذ البداية. بل سعت لإضافة قدرات تقارب الـ 13 ألف ميجا وات من المحطات الحرارية في الخطة الخمسية 2012/2017. فيما انتهت المدة بإضافة أكثر من ضعف القدرات المخطط لها. لتصل إلى أكثر من 27400 ميجا وات، بحسب التقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر لعام 2016-2017. وهو ما تسبب في رفع القدرات الاحتياطية إلى مستويات غير مسبوقة تتجاوز كثيرًا الحمل اﻷقصى (أقصى طلب على الكهرباء). وخلق فائض إنتاج غير مستغل.
الأمر الذي يقتضي تبني استراتيجيات قصيرة المدى وأكثر جدوى في عائدها المادي والتنموي
وصل الإنتاج إلى حاجز الـ 58 ألف ميجا وات يوميًا، ما تسبب في تحقيق فائض يصل لنحو 25%. وهو فائض غير مستغل يمثل خسارة بالنظر إلى تكلفة توليد تلك الطاقات التي تصل إلى مليارات الجنيهات.
هنا، يؤكد الخبير إبراهيم زهران أن القدرات الفائضة من إنتاج الكهرباء كان لابد استغلالها في مشروعات قومية اقتصادية ذات عائد مادي جيد يسمح بالاستفادة منها. مضيفًا أن قطاع الكهرباء في مصر حاليًا يتعرض لخسائر فادحة نتيجة عدم الدراسة وتفاقم الإنتاج.
كشفت مصادر بأحد شركات الكهرباء، لـ “مصر 360″، أن فائض الـ 25% غير المستغل هذا تسبب في تقليص طرح مشروعات الكهرباء على المستثمرين. ومن ثم سقط قطاع الكهرباء في حالة من الركود. “مفيش مشروعات جديدة تم طرحها الفترة الماضية وفي شركات قاعدة على قد المشروعات اللي نفذتها خلال السنوات الماضية”.
المصادر ذاتها أشارت إلى أن كبريات شركات الطاقة العالمية العاملة في مصر، اتجهت إلى تخفيض مستهدفاتها ومعدل نموها السنوي بالسوق المصرية، بسبب هذا الفائض الحالي عن احتياجات الشبكة القومية.
المصادر أشارت أيضًا إلى حتمية تنفيذ مشروعات اقتصادية صناعية جديدة قادرة على استغلال فائض الإنتاج الطاقة. إذ أن بعض المستثمرين قد يتجهون إلى أسواق ناشئة داخل القارة تعاني من نقص في إنتاج الكهرباء وتحتاج إلى مضاعفة قدراتها المولدة.
فشل استغلال فائض الكهرباء.. مشروعات الربط
للتغلب على أزمة الفائض المتحقق، أعلنت الحكومة عن رؤيتها في أن تصبح مصر مركزًا إقليميًّا للطاقة. وذلك بتصدير الفائض من الكهرباء، في سعي لتحقيق عائد جيد. إضافة إلى توجهها إلى التوسع بمشروعات الربط مع عدد من دول الجوار.
إلا أن هذا الحل لن يؤتي ثماره قريبًا، وفق ما تؤكده مصادر بوزارة الكهرباء، كشفت لـ “مصر 360″، أن الهدر في الكهرباء سيستمر لفترة طويلة. ذلك لأن المشروعات التي تعول عليها الحكومة في استغلال الفائض يحتاج تنفيذها فترة طويلة واستثمارات ضخمة. خاصة وسط كل المتغيرات العالمية في أسعار الطاقة وتطور التكنولوجيا.
أضافت المصادر أيضًا أن الفائض الحالي في إنتاج الكهرباء يبقى إهدارًا لموارد الدولة. وسط غياب استراتيجية وبرامج واضحة لاستغلاله. الأمر الذي يقتضي تبني استراتيجيات قصيرة المدى وأكثر جدوى في عائدها المادي والتنموي.
بنت الحكومة الكثير على مشرعات ربط الكهرباء مع دول الجوار، خاصة الربط مع السودان. وهو مشروع تأخر تنفيذه حتى أبريل 2020، بسبب الأحداث السياسية وأعمال الشغب التي شهدها البلد المجاور وعلى إثرها تعطلت استراتيجية التوسع المصرية بالربط مع عدد من الدولة الأفريقية عبر السودان.
ليس السودان وحده، فقد شهد الربط مع ليبيا أيضًا تراجعًا كبيرًا بالقدرات المربوطة بين البلدين في ظل الوضع الراهن مع الدولة الجارة. بينما يبقى مشروع الربط المصري السعودي رهن ارتفاع التكلفة وطول مدة التنفيذ. وكذلك الربط مع أوروبا التي تتمتع بفائض جيد من القدرات الكهرباء البديلة. ومن ثم باتت الحكومة مطالبة بحلول أكثر واقعية وقدرة على استغلال فائض الإنتاج ومنع إهداره بالشكل الحاصل الآن.
سرقة التيار وخسائر الـ 15 مليار تزيد الأوجاع
فائض الإنتاج وعدم تطوير الشبكة القومية ومراكز التحكم زاد من عمليات سرقة التيار الكهربائي خلال السنوات الأربع الماضية. وقد خلف ذلك خلال هذه الفترة خسائر بلغت قرابة الـ 15 مليار جنيه. وساهم في تفاقم الأزمة وجود مجاملات صارخة في حساب الأحمال التي على إثرها يتم حساب الممارسة الخاصة باستهلاك التيار الكهربائي، وفق مصادر بقطاع الكهرباء.
الهدر في الكهرباء سيستمر لفترة طويلة لأن المشروعات التي تعول عليها الحكومة يحتاج تنفيذها فترة طويلة واستثمارات ضخمة
شركة مصر العليا لتوزيع الكهرباء احتلت المرتبة الأولى في الكهرباء المهدرة. إذ بلغ الفقد ما يقرب من 35٪ من إجمالي الطاقة التي تبيعها القابضة لكهرباء مصر لشركات التوزيع. أما شركة جنوب القاهرة لتوزيع الكهرباء فقد سجلت المرتبة الثانية في سرقات التيار الكهربائي. وبلغت نسب الفقد أكثر من 27٪ من الطاقة الكهربائية، وفق المصادر التي تحفظت على كشف هوياتها.
نتيجة لذلك، تبنت الحكومة برنامجًا جديدًا خاصًا بإلغاء نظام الممارسة وإحلال العدادات الكودية بدلاً منها داخل العقارات المخالفة والعشوائية. وتقدم قرابة المليوني مواطن حتى أوائل فبراير الجاري بطلبات لتوصيل التيار الكهربائي لوحداتهم عبر العدادات الكودية الجديدة.
يقول الدكتور أيمن حمزة المتحدث الرسمي باسم وزارة الكهرباء، لـ “مصر 360″، إن “العدادات الكودية من شأنها وقف نزيف السرقات والتعدي على الشبكة الكهربائية بشكل غير شرعي، ومحاسبة مستهلكي الكهرباء بشكل أكثر دقة”.
فهل يصلح هذا الأمر؟
حلول بديلة للطاقة المهدرة
يرى خبراء الطاقة ضرورة تحفيز تجارة الكهرباء بين الدول العربية وإنشاء شبكة موحدة تربط جميع الدول بما يسمح يتحقيق أقصى استفادة ممكنة من القدرات المولدة وإمكانية تصديرها لأقصى نقطة سواء بدول وسط وجنوب أفريقيا أو في آسيا عبر الدول العربية.
ويقول الرئيس السابق لهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة، الدكتور محمد صلاح السبكي، إن احتياطي القدرات الكهربائية يعطي صورة إيجابية للاستثمار في مصر. خاصة أن أي مستثمر أو مصنع سيطلب الكهرباء سيتم توصيلها إليه على الفور. وبالتالي لابد من التوسع في إنشاء المناطق الصناعية وإمدادها بفائض الكهرباء لاستغلال القدرات المهدرة وتحقيق عائد دوري جيد للموازنة العامة للدولة.
يضيف السبكي أيضًا أن مصر تستطيع أن تستغل فائض الإنتاج في تطوير المحطات القديمة ذات الاستهلاك العالي في الوقود. ما يدعم قدرة الدولة على التحول إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة الكهربائية للدول المجاورة.
ويوضح أن القطاع يعمل الآن على تقوية شبكة نقل وتوزيع الكهرباء في ضوء قدرات الإنتاج المتوقع إضافتها في السنوات المقبلة. وكذلك زيادة استخدام الطاقة المتجددة. الأمر الذي يتطلب شبكة كهربائية ضخمة ومرنة على كل الجهود، لمنع تفاقم الكهرباء المهدرة.
كتب – محمود السنهوري: