الأحوال الشخصية قضية سياسية عامة بجدارة، وليست قضية نسائية أو نسوية فقط، فهى قضية محورية بالنسبة لجميع حقوق النساء الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية، ولذلك تحتل هذه القضية مكاناً متقدمًا على أولويات القوى السياسية المختلفة التقدمية منها والمحافظة، بما في ذلك النظام الحاكم. ولذا أيضًا فإن النضال من أجل إصلاح قوانين الأحوال الشخصية مرتبط بمواقف القوى السياسية، من قضية أشمل هي قضية مواطنة النساء، وحقوقهن في المساواة وعدم التمييز، وهذا هو لب القضية.

لعبت الدولة المصرية عادة دورًا كبيرًا في مجال تقنين الأحوال الشخصية، سواء فيما يتعلق بتطوير الجوانب الموضوعية للحقوق المتضمنة في القانون، أو في مجال تطوير وإصلاح النظام القضائى عمومًا.[1] وبالرغم من أن الدولة ألغت المحاكم الشرعية منذ خمسينيات القرن الماضى، ومن ثم أصبحت كل القوانين مدنية إلا أن قانون الأحوال الشخصية ما زال من حيث الجوهر قانون غير مدنى.

أيضًا ما زالت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية تلعب دورًا كبيرًا فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية، والتي أصبحت مجالا أساسيًا لتكريس سلطتها المعنوية في مواجهة جهاز الدولة –بما فيه النظام القضائى- وكليهما لا يضع في اعتباره مصالح النساء كأولوية. والنماذج الواضحة هنا هي رفض الأزهر لعدم الاعتراف بالطلاق إلا إذا تم توثيقه، ورفض الكنيسة للأحكام القضائية بالطلاق للمسيحيين.

على أي حال يظل العنصر الحاسم هو موقف الحركة النسائية، أي قدرتها على بلورة خطاب نسوى قوى حول مطالب النساء، يقوم أساسًا على خبرات النساء ومعاناتهن في الواقع المعاش، ومن ثم إمكانية حشد قطاعا واسعة من النساء خلف هذه المطالب، ومن جانب آخر قدرتها على التصدي للخطابات المناهضة. ومن ثم فمن المهم التأمل في هذه المواقف عبر القرن الماضي حتى يومنا هذا.

عبر القرن الماضي تطورت مطالب الحركة النسائية في إطار الإصلاحات الجزئية عمومًا. تركزت مطالب الموجة الأولى في النصف الأول من القرن العشرين على المطالبة بتقييد الطلاق وتعدد الزوجات (“تقنين الرخص”).  أما مطالب الموجة الثانية –والتي برز فيها نسوية الدولة في ظل مصادرة الدولة لحريات التنظيم والتعبير المستقل للمجتمع المدنى-   فركزت على “تقييد الرخص”، أى تهذيب سلطة الأزواج فيما يتعلق بالتأديب وبيت الطاعة، وإعلام الزوجة الأولى بالزواج الثانى (أو الثالث أو الرابع) . بينما انشغلت الموجة الثالثة بـ “تطوير الرخص” مثل تحسين شروط الطلاق بالنسبة للزوجات مثل الخلع والعصمة عبر الشروط في عقد الزواج.

من المؤكد أن تلك النضالات ساهمت فى تحسين وضعية النساء فى تلك القوانين، لكن المحصلة النهائية بعد مائة عام من النضال أن قانون الأحوال الشخصية المصرى ما زال من حيث الأساس ذكوريًا بجدارة، وما زالت العلاقات التى تحكم وضع النساء بعيدة تمامًا عن المساواة، ليس هذا فقط بل إن كل المكتسبات القانونية التى حصلت عليها النساء فى المجال العام لا تقف على أرض صلبة بسبب السلطة التى يتمتع بها الرجال فى الفضاء الخاص. والدليل مشروع القانون الجديد الذى يعيدنا الى المربع صفر؛ فالمطالب التى رفعتها الموجة الأولى من الحركة النسائية المصرية فى عشرينيات القرن العشرين (تقييد تعدد الزواج، وتقييد الطلاق المنفرد) ما زالت  كما هى من حيث الأساس. وما تحقق شديد المحدودية رغم الضجات الإعلامية المصاحبة والولولة على القوانين المجحفة بالرجال.

لماذا لم تنجح الموجات المتعاقبة فى الوصول إلى قانون أحوال شخصية عادل؟

أولا: لأنها لم تجرؤ على تحد طبيعة العلاقة السلطوية بين النساء والرجال داخل الأسرة، التى تقوم على “الحق” المطلق للرجال فى:

  • إنهاء العلاقة الزوجية بشكل منفرد، بل واستعادتها أثناء فترة العدة رغم إرادة الزوجة
  • تعدد الزوجات
  • منع الزوجات من التعليم أو العمل، أو الحركة، أو السفر
  • الولاية على الأطفال أثناء الزواج وبعد الطلاق حتى لو كان الزوج لا ينفق عليهم
  • الحق المطلق فى ممارسة العلاقة الحميمية بغض النظر عن رغبة الزوجة، بل و “تأديبها”

ثانيًا: لأنها لم تجرؤ أيضًا على التعامل بشكل كلى شامل مع معاناة النساء المصريات؛ وسكتت عن التمييز بين النساء المسلمات والمسيحيات. حيث لا يمكن مثلاً للمرأة المسيحية الحصول على حضانة أطفالها لو تحول الزوج الى الاسلام، كما ظلت النساء المسيحيات محكومات بالقوانين الكنسية التى تحرمهن من الحق فى الطلاق أو الخلع.

بدون التصدى لهذين البعدين لن يمكن حتى بعد مائة عام أخرى أن نأمل فى إصلاح حقيقى فى قانون الأحوال الشخصية المصرى، التصدى لهما ليس بالأمر السهل، لأنه سيكون من حيث الأساسى تصدى للمفاهيم الفقهية والثيولوجية السائدة على الجانبين الإسلامى والمسيحى واللتان تتفقان من حيث الجوهر، ومن حيث الحجج المستخدمة، على سلطة الرجال المطلقة داخل الأسرة.

لقد حاولت بعض النسويات الإسلاميات، مؤخرًا، التصدى لذلك من خلال تقديم قراءات “نسوية” بديلة، تصدت لمفهوم القوامة، وتقييد التعدد أو الطلاق المنفرد، لكن هذا النهج لا يمكنه أن يتبنى مفهوم المساواة الحقة، ولا يتضمن موقف نقدى جذرى من طبيعة العلاقة التراتبية بين الرجال والنساء داخل مؤسسة الزواج. كما أن هذا النهج يحصر نفسه داخل الأطر الفقهية الثيولوجية الإسلامية، ومن ثم لا يتصدى لواقع  االنساء المسيحيات (أو الانتماءات الدينية أو العقائدية الأخرى)؛ ولا يطرح موقفا نقديا جذريا من تلك الأطر.

آن الأوان لقانون نسوى ينطلق من معاناة وخبرات النساء المصريات، وحقهن في أن تعترف الدولة والقانون –ليس فقط قانون الأحوال الشخصية بل كل القوانين- بهن كمواطنات كاملات الأهلية. إن لم نستطع اتخاذ موقف نسوى منسجم من السعى للمساواة الفعلية بين النساء، كل النساء، والرجال فلن يكون هناك قانون أحوال شخصية عادل، وعلى رأى المثل المصرى “إن عشقت اعشق قمر”.

بالقطع سنواجه هجومًا عنيفًا وربما لن يشهد بعضنا صدور قانون عادل أثناء حياتنا، لكن لنتذكر تجربتنا مع العنف الأسرى عام 1995 عندما هاجمنا الجميع وعلى رأسهم الدولة والمؤسسات الدينية وكثير من القوى السياسية، لكن الجميع يقر الآن بصحة مواقفنا.

[1]  تطوير النظام القضائى هو أحد العناصر الأساسية في بناء الأمة الحديثة، فهو من جانب يضع قواعد المواطنة وعلاقته المواطنين نساء ورجالاً بالدولة، ومن جانب آخر يكرس سلطة الدولة الجديدة – الحديثة، وخاصة في مواجهة السلطات الدينية في مثل إلغاء المحاكم الشرعية[1] 1955، ثم إلغاء لائحة المحاكم الشرعية –التي ظل العمل بها مستمرًا رغم إلغاء المحاكم نفسها-  2000، أو توحيد الدوائر القضائية التي تتعامل مع جميع الأمور المتعلقة بالأسرة، مثل محكمة الأسرة 2004.

 

  • ناشطة نسوية