طالما أسر أصدقاء ومصادر صحفية وبعضهم في مواقع مسئولية بالدولة والحياة الحزبية والسياسية بتونس، باندهاشهم لما اعتبروه “حملة عداء مصرية” تجاوزت كراهية الثورة والديمقراطية إلى بلادهم بالجملة.

ولقد اندهشت لاندهاشهم. وهذا لأن بينهم من لا يعرف عنه تحمسه للثورة والتغيير، أوحتى للانتقال إلى الديمقراطية كما عرفته تونس على مدى ما يزيد على عشر سنوات. وهو انتقال صعب عسير، مع ما يحفل به من ظواهر إيجابية تقدمية حداثية عدة لاتعرفها المجتمعات العربية الأخرى.

ناهيك عن أن بين هؤلاء الأصدقاء والمصادر مجاهرين بالحماس للحال في مصر بعد 2013 بوصفها منقذة لبلدها وللمنطقة، وكذا تونس من “خطر الإخوان والإسلاميين” ومعجبين بـ”إعادة الهيبة إلى سلطة الدولة” وقدرتها على فرض “الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية بقوة واقتدار”.

وهذا مقارنة بما يوصف بـ”أيدي الحكومات التونسية المرتعشة” المتحسبة نسبيًا لفائض الطاقة الاحتجاجية في الفضاء العام والشارع، ومن داخل المجتمع المدني، يتقدمه اتحاد الشغل، فضلا عن حياة حزبية وبرلمانية  تعددية بحق.

ولعل ما خفف قليلًا من اندهاشي إنني لاحظت خلال زياراتي الأخيرة لتونس وبعد إقامة لنحو عامين كمراسل “للأهرام” المصرية تغيرًا لافتًا في مزاج جانب من النخبة التونسية تحمست للرئيس “السيسي” ولما جرى في مصر صيف 2013 وتداعياته، بداية من ملاحقة الإخوان في مصر واستئصالهم.

وكنت لاحظت ما يمكن وصفه بالبرود والنأي في تونس إزاء ملابسات ومجريات التجديد لولاية حكم الرئيس المصري مجددًا ربيع 2018 في عملية “انتخابية” مع كل ما يقال عن افتقاد هذا التجديد إلى مظاهر التعددية والديمقراطية والتنافسية.

وهو برود ونأي امتد من أبرز الصحف ووسائل الإعلام الى الأحزاب الكبرى، بما في ذلك حزب حركة “النهضة” ذاته . وبالنسبة للأخير فقد تيقنت حينها ـ وخلال زيارات تعددت للبرلمان هناك ـ  بأن حسابات التوافق في الحكم واعتبارات  مسئولية الشراكة في إدارة الدولة التونسية تغلبت عند قيادة هذا الحزب على كوامن ومشاعر سلبية إزاء الرئيس “السيسي” وما يجرى في مصر تتبدى عند جمهور لافت من التونسيين، بما في ذلك مناصرو “النهضة” بالطبع.

مع كل حدث كبير في تونس كآخر انتخابات تشريعية ورئاسية خريف 2019ـ وليس فقط الأزمات الاقتصادية والسياسية ـ تتجدد في وسائل الإعلام المصرية وبعضها يوصف بأذرع النظام وأجهزته الأمنية ما بدا لي على مدى متابعة سنوات وعن كثب وكأنه أخطاء شائعة في تناول تونس الانتقال إلى الديمقراطية.

وهو بالقطع وأكرر انتقال طويل عسير ولا يجرى في غرفة عمليات معقمة محصنة من الجراثيم والفيروسات. وأيضًا هو محل استهداف وهجمات من الداخل المحلي والخارج الإقليمي. وأود هنا أن أشير إلى ما اعتقد أنه أكثر هذه الأخطاء إثارة للاهتمام، مع إعطاء الألولوية لخمسة منها:

– الخطأ الأول.. يتمثل في النظر إلى تونس من ثقب حركة “النهضة” الإسلامية. وكأن مجمل العمليات والصراعات الجارية حول مسار الانتقال إلى الديمقراطية تتلخص في هيمنة مطلقة مفترضة للنهضويين على المسار بمجمله.

وثمة هنا مراوحة متكررة في الحكم تلو الحكم، لاتتعلم من نقص المعلومات وتجاهل حقائق الواقع وسوء التقدير، بأن النهضة تهيمن تمامًا على الحكم ومؤسسات الدولة، أو إنها مطرودة خارجها وتسعى لاستعادة مكانتها.

ولكن من يتابع مجريات الانتخابات بتونس وتشكل البرلمانات والحكومات ومؤسسة رئاسة الجمهورية يدرك أن البلاد منذ ما بعد ثورة 17 ديسمبر 10/ 14 يناير 2011 خرجت عن صيغة الحزب الواحد، وحتى عن حزب الأغلبية المطلقة (50 في المائة +1).

فلا هذا كان ابتداء في انتخابات المجلس التأسيسي 2011، ولا في الانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 و2019. بل كل المؤشرات تفيد بأن “النهضة” وهي بحق الحزب الأكثر تماسكًا ودينامية وظهورًا دعائيًا بقدرة على التحول والتأقلم و”التونسة” ونحو المؤسسية، تتجه إلى انحسار متواصل وملموس في عدد المصوتين لها، وكذا في حصتها من مقاعد في البرلمان.

والمتابع عن كثب لمجريات لعبة السلطة والصراعات داخل مؤسسات الحكم في تونس مابعد الثورة وحولها، وكما هي في الممارسة يدرك تعدد مراكز القرار والتأثير، ومثال ذلك ما تعيشه تونس من فصل يجري حاليًا ليس الأول في الصراع بين الرئاسات الثلاث بقصر قرطاج (رئاسة الجمهورية) وقصر باردو (رئاسة مجلس نواب الشعب / البرلمان) والقصبة (رئاسة الحكومة)، فضلًا عن ثقل ووزن اتحاد الشغل (ومقره بالقرب من شارع الحبيب بورقيبة الشهير).

وهذا ليس فقط كون تونس تعيش بعد يناير 2014 في ظل دستور يمنع تركيز السلطات في يد أو مؤسسة واحدة. بل ولأنه أيضًا يجري وفق نظام انتخابي مصمم كي تحكمها ائتلافات حزبية سياسية متتالية وبصيغ من “التوافق” بين الفرقاء الأقوى، وستظل على هذا النحو لفترة لا يمكن تقدير نهاية لها.

فالأهم الأهم هنا أن تونس الديمقراطية الناشئة والانتقال العسير إليها تشهد جملة تفاعلات وعمليات وبناء وإعادة بناء مؤسسات وقوى أبعد وأكثر رحابة من نظامها الحزبي والسياسي الحاكم، الذي أصبح يعتمد تعدد مراكز السلطة والقرار.

وثمة الكثير الذي يمكن أن يقال هنا عن المجتمع المدني والإعلام ورجال الأعمال وملفات حرية التعبير والتنظيم والعدالة الانتقالية والفساد ومكافحته والقضاء الذي مازال ينازع من أجل استقلاليتته وغيرها. وفي كل ملف منها وحوله صراعات جارية ليست بالسهلة أو المحسومة بعد.

الخطأ الثاني.. إسقاط كل ما يتعلق بالإخوان في مصر على النهضة التونسية. وكأن الإسلاميين هنا وهناك واحد وصورة طبق الأصل، وإن سياق البلدين المجتمعي والثقافي والسياسي موحد. وبالقطع فإن نهضوي تونس ليسوا ملائكة أو بلا أخطاء أو خطايا، وكغيرهم من التيارات والقوى السياسية. لكن هكذا توظيف “سياسوي” دعائي يفيد بأن مصريين ذهبوا بعيدًا في شيطنة” إخوانهم” وبالمطلق وبأوسع تعميم يستكملون معركتهم في الشيطنة والإقصاء والاستئصال داخليًا هناك في الخارج مع “إخوان تونس”، وهو بالأصل مصطلح محل جدل وخلاف بين التونسيين أنفسهم.

وهي حالة غير صحية مضللة تكشف عن تناقضات ومفارقات عدة. والحقيقة النهضة التونسية بدورها وكغيرها تستحق النقد من منظور المعلومة الصحيحة الدقيقة والتحليل الموضوعي”.. ويا إعلاميين يامصريين: ليس هكذا تؤكل الكتف”.

وإلا ستكون النتائج عكسية وارتدادية ونحو غير ما يرغب أو يدعى مرتكبو هذه الأخطاء عن جهالة أو بسوء نية.

وأظن أن ثمة تمايزات يدركها الباحثون على مستوى الأيديولوجيا والتنظيم والسياقات والمآلات هنا وهناك، وحتى على مستوى ما يوصف بـ”إزدواجية الخطاب ومفارقات الممارسة”.

وحتى لو طمسنا هذه التمايزات بين إخوان مصر ونهضة تونس ووضعناها كلها جانبًا، بما في ذلك كون برامج النهضة الانتخابية لم تطرح منذ خوض انتخابات 2011 المناداة بالشريعة الإسلامية، فبإمكاننا أن نتوقف عند مفارقة كون أن الدولة المصرية ومؤسسات حكمها ظلت تتعامل على نحو أو آخر وستظل مع وزراء وبرلمانيي “النهضة”.

وبالفعل استضافتهم وعملت معهم رسميًا مرارًا وتكررًا على مدى سنوات وستظل. وهذا على عكس ما يجرى الترويج له للاستهلاك المحلي الدعائي من عداء وقطيعة  تقومان على الخلط والإسقاط بين إخوان مصر ونهضة تونس، وحتى على لسان دبلوماسيين ومسئولين في مصر، وياللمفارقة طالما استقبلوا وتعاملوا مع رجالات النهضة بتونس.

الخطأ الثالث.. تتراوح المعالجة المصرية لتحولات تونس بعد الثورة بين التعتيم برهاب “عدوى” السخط والرغبة في التغيير امتدادًا لخطاب سلطوي راج قبل 25 يناير 2011 وبين نوبات من التشهير والإساءة والمبالغة لما تعيشه تونس من “فوضى وانهيار” من حين لآخر.

وقبل زيارتي الأولى لتونس عندما راجعت ما نشره “الأهرام” أهم الصحف المصرية اليومية حينها من حيث تخصيص مساحات للشئون العربية لاحظت وسجلت أنه نشر 14 معالجة أغلبها أخبار على عامود واحد من وكالات الأنباء الغربية على مدى فترة امتدت من 25 يناير إلى 20 سبتمبر 2011.

وبالإمكان أن أذكر العديد من الأحداث المفصلية المهمة والإيجابية في التحول إلى الديمقراطية بتونس التي تجاهلها الإعلام المصري عمومًا، وليس “الأهرام” وحده.

لكن وبالمقابل تثور بين حين وآخر حملات منسقة تصب في خانة “كراهية الديمقراطية” والتنفير منها وتبني مفهوم للصراعات السياسية يروج لكونها بـ”بالضرورة مدمرة” ولا يمكن أن تكون بناءة أو مختلطة النتائج والعواقب.

وهذا بغاية الاستهلاك المحلي لإقناع الجمهور في مصر بأن ما يعيشونه على مستوى السياسة والاقتصاد والمجتمع أفضل وخير وبركة” مما جرى ويجرى في تونس “الثورة والديمقراطية”.

ويلفت النظر أيضًا هذا التوظيف والاستهلاك المحلي الدعائيين مع الترويج لأن “تونس على شفا الإفلاس”، وشعبها يعاني معيشيًا جراء “الثورة والفوضى”.

وهذا مع التزامن مع تحلل قاس للحكم في مصر من دعم الطاقة والسلع والخدمات الضرورية، وما يصحبها من ارتفاع مجنون في الأسعار والأعباءا لمالية الجبائية لا تعرف الحالة التونسية له مثيلًا. وهذا على الرغم من أنها بدورها تسير على الطريق ذاته المرسوم بوصايا “صندوق النقد الدولي” الكارثية، وإن توافرت لها كوابح مقاومة المجتمع المدني يتقدمه اتحاد الشغل وحرية الاحتجاج والتظاهر والبرلمان متعدد الكتل الحزبية وحرية الصحافة وغيرها.

وما أقوله هنا في نقد المعالجات المصرية الدعائية لا يعني مطلقا التنكر لمعاناة التونسيين أو التقليل منها في سياق ما تعرفه حالات مشابهة لمجتمعات أخرى شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا عانت من أزمات واضرابات بعد اطاحة الحكم الدكتاتوري الفاسد.

والخطأ الرابع.. تصوير الحال في تونس بين حين وآخر وبشكل متكرر حد السذاجة وفقدان المصداقية بأن الانهيار حتمي ووشيك للتجربة التونسية، وكأننا في الربع ساعة الأخيرة قبل السقوط المدوي.

وهنا أيضًا مزيج بائس من عدم الاعتناء بتدقيق المعلومة وسوء التقدير وضعف المتابعة لخصائص المجتمع التونسي ومجريات التحول إلى الديمقراطية والسياق الإقليمي والدولي، وبخاصة الأوروبي الداعم.

ناهيك عن اعتماد أغلب وسائل الإعلام المصرية المهتمة بالنشر عن تونس بعد الثورة على مصادر تونسية بلا وزن ولا تأثير حقيقيين تنتهج المبالغات عن الذات والأضاع العامة لبلادها. وأيضًا الانسياق عن وعي أو غير وعي لمخرجات مرض” المبالغات” و”التهويلات” الذي يضرب بين قطاع مرتفع الأصوات من النخب التونسية باختلاف ألوانها.

أما الخطأ الخامس، فلعله يتجسد في استسهال الاصطفاف وراء ما يسمى “بتعبيرات الثورة المضادة والنظام القديم” ورموزها، والترويج المضلل لنفوذها ومصداقيتها.

وتجاهل خريطة حافلة بالقوى والرموز الأكثر تأثيرًا ومصداقية في راهن تونس ومستقبلها وتحولاتها. صحيح أن “الثورة المضادة” ليست بالهينة هناك أيضًا.

بل وهي أيضًا قادرة على التلون والتنقل سريعًا عبر تحالفات لا تسثتني “النهضة” أبدًا. لكن الاعتقاد في إن ليس بتونس سوى “نداء تونس/ القايد السبسي” كما ساد في إعلامنا قبل نحو سبع أعوام  أو “الدستوري الحر / عبير موسى” كما يروج اليوم هو محض ضلالات وهلاوس إعلام غير مهني لا يحترم المعلومة والقارئ.

ولننظر كيف انتهى “النداء” بين الاستحقاقين الانتخابيين 2014 و2019 وحتى بينهما من الحزب الأول في البرلمان (86 من إجمالي 217 مقعدًا) إلى الثاني عشر (3 مقاعد فقط).

وأظن أنه لا يجب الانخداع للحظة  السياسية الراهنة (المطولة نسبيًا) وعها هذا الضجيج المرتفع من حزب “عبير موسى” وحوله أو لاستطلاعات رأي ثمة شكوك حول مصداقيتها، وإن كانت تجاهر هي ذاتها بأن نحو 70 في المائة من المستطلعين لم يصرحوا لها باختياراتهم.

هذه الأخطاء الشائعة الخمسة هي من قائمة تطول ويضيق المقام والمقال عن تناولها، وبالنماذج والأمثلة. وهي بالقطع ناجمة عن حالة غير صحية في السياسة والثقافة وبين النخب في مصر. كما أن السعي لتصحيحها ليس بالأمر اليسير في ظل التدهور الذي يعيشه الإعلام والصحافة المصرية حاليًا.

وفي النهاية “فأما الزبد فيذهب جفاء”.. ولن يبقى إلا نقل الواقع والحقائق بأمانة ومهنية والتحليل بموضوعية، بعيدًا عن أي توظيف كان، لحساب الإسلاميين أو خصومهم أو غيرهم.

ــــــــــــــــــــــــ

(*) الكاتب تردد على تونس من سبتمبر 2011 إلى أكتوبر 2019. وأقام مراسلا بها “للأهرام” لنحو العامين بين 2016 و2018.. له ستة كتب عن تونس وحولها. صدر أربعة منها في البلدين، وهي :”نظرتان على تونس من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ” 2012 و “سيدي بوزيد : قصة ثورة يرويها أهلها “2013  و “الشبيهان : سيرة مزدوجة لمبارك وبن على ” 2014 و” الديمقراطية الصعبة : رؤية مصرية للانتقال التونسي  2016 و”الإعلام في تونس بعد الثورة: رؤية مراسل من مصر لمصادر العمل الصحفي عام 2019 ، فيما كتابان اثنان مازالا قيد النشر، وهما: ” تحولات نقابتين : صحفيون مصريون وتونسيون بعد 2010:  دراسة مقارنة” و “دراما المظاهرة والصندوق : الاحتجاجات الاجتماعية والانتخابات البلدية بتونس.