السودان ومصر، بعيدًا عن روابط الجوار واللغة، والمصاهرة، والتاريخ المشترك، والنوبة التي تربط البلدين بجسور إنسانية لا مثيل لها، فكل من البلدين امتدادًا للأمن القومي للآخر، إلا أنه رغم أهمية تلك الروابط بل وحتميتها التاريخية قد يتجاهلها بعض الصغار من هنا أو من هناك، فيتبادلوا خطابات الكراهية التي قد تضر بمصالح البلدين والشعبين على نحو عبثي لا يقدر خطورة المرحلة أو الظروف الإقليمية والدولية العاصفة التي نمر بها جميعًا.

واليوم مصر والسودان لديهما مصلحة مشتركة تتعلق بحق الشعبين فى الحياة، وبكل حقوق الأجيال القادمة المياه، فسد النهضة يهَدِّد 20 مِليون سوداني، أيّ نِصف سكّان السودان مهددين بالتعرض للمجاعة، كما يهدد 5 ملايين أُسرة مِصريّة، ويخفض كميّة الكهرباء التي يُولّدها السّد العالي بأكثر من 50%.

ومهما كانت البدائل التي تتبناها كل دولة من أجل تعويض النقص المتوقع من المياه فى سنوات مَلء خزّان سدّ النهضة، فهي مجرد بدائل لتعويض النقص خلال مدة المَلء حال اتفاق إثيوبيا مع السودان ومصر على طريقة مَلء خزّان السدّ ومدته، أما حال إصرارها على أن يكون ذلك بإرادة منفردة منها كما فعلت إثيوبيا فى المرحلة الأولى، فإن البدائل التي يسعى السودان ومصر لتجهيزها لمعالجة النقص في المياه يجب أن تكون بدائل للاستعداد لسيناريوهات المواجهة المريرة مع إثيوبيا حال استمرار تعنتها، ومهما كانت سيناريوهات المواجهة ستطول زمنيًا أو سيدفع فيها أثمان غالية، فهي قادمة لا محالة طالما ظل هذا الاستخفاف الإثيوبي بحقوق مصر والسودان على هذا النحو.

وبالرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها مصر والسودان في إدارة هذا الملف، إلا أن هناك بعض الإجابيات لكل منهما، شأن تبني مصر منذ بدء الأزمة خطاب عقلاني في مواجهة كل الخطابات الإثيوبية الهوجاء، فاستراتيجية مصر ترتكز على أن النهر  شريان للحياة المشتركة بين شعوب حوض النيل من المنبع إلى المصب، وأننا لسنا ضد خطط التنمية في إثيوبيا، وأننا على استعداد للمشاركة فيها بل وفي بناء السد وإدارته شريطة أن تكون سنوات مَلء خزّان السدّ ومدته وسعته التخزينية، ومراحل هذه الإجراءات، باتفاق مع مصر والسودان، لقد غلبت مصر مبدأ حسن النية وطرقت كل الأبواب الإقليمية والدولية، حتى مفاوضات النفس الطويل التي تخوضها إثيوبيا لفرض الأمر الواقع وكسب الوقت مازالت مصر مستمرة فيها ولم تتخلى عنها.

سد النهضة

في حين أن السودان كان يتبنى منذ بداية الأزمة دورًا وسطيًا للتقريب بين مصر وإثيوبيا، بل بعض خطاباته ومواقفه كانت أقرب لإثيوبيا، ولم يتحمل السودان استمرار التعنت الإثيوبي على هذا النحو، ونفذ صبر السودانيين من كل الممارسات الإثيوبية بداية من التعدي على الأراضي السودانية مرورًا بالتعدي على الجيش السوداني انتهاء بسياسة إثيوبيا في مَلء المرحلة الأولى من خزّان سدّ النهضة بإرادة إثيوبية منفردة، ودون أي اتفاق مع السودان ومصر.

نعم المصير المشترك والمصلحة المشتركة وحقوق كل الأجيال القادمة في السودان ومصر متعلقة الآن بحماية النهر، وهناك أربعة أشهر فقط تفصلنا عن موعد المرحلة الثّانية من مَلء خزّان سدّ النهضة المُقرّرة في شهر (يوليو) المُقبل.

فالتعامل مع النهر باعتباره بحيرة إثيوبية، وتسليعه كمورد طبيعي شأن البترول، وإتاحته للقادر على دفع ثمنه، هي معركة حياة أو موت للشعبين المصري والسوداني، فلو نجحت سياسة أثيوبيا في سد النهضة لن نرى مياه النهر مرة أخرى خلال سنوات معدودة، حيث ستبني إثيوبيا سدودًا جديدة، كما ستشرع دول المنبع في بناء سدود أخرى تماشيًا مع التجربة الإثيوبية.

وما يعيد إثيوبيا للمفاوضات على نحو حقيقي للوصول لاتفاق يحمي مياه النهر، ويحمي حقوق الشعبين، هو توقيع وإنفاذ اتفاقية للدفاع المشترك عن مياه النهر بين مصر والسودان، والتحرك كفريق واحد دبلوماسيًا وسياسيًا، مع عدم استبعاد السيناريوهات غير السلمية حال عدم التوصل لاتفاق مع إثيوبيا قبل نهاية مايو 2020.

فإصرارها إثيوبيا على بدء المرحلة الثانية لمَلء خزّان السدّ بإرادة منفردة، ليس مجرد إعلان حرب على مصر والسودان بل هي تخوض الحرب فعليًا منذ سنوات ضد شعبينا، ونجحت في مراحل عدة حتى الآن لكنها مازالت لم تحسم المعركة بعد، ورغم مرارة كل الخيارات غير السلمية، ورغبتنا في حماية كل الشعوب، والعيش المشترك بينها، إلا أن إثيوبيا تصر على حسم المعركة على هذا النحو.