بعد إخلاء سبيله وإلزامه بعدم مغادرة المنزل، نشر أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور حازم حسني، أول رسالة له على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، والتي جاءت بعنوان “قبل المطر أم بعده؟!”.
وفي رسالته استدعى حسني أحداث الفيلم الدرامي الإنساني “قبل المطر”، ومايدور فيه من أحداث عبرت عن واقع الحروب، وتبعاتها المآساوية، وما تبثه من بغضاء بين الشعوب، متمنيا زوال الغمة وإطلاق سراح جميع المحتجزين.
كما أرفق حسني بالمنشور صورة له، بدا فيها شديد الإرهاق، والوهن، وهو ما أرجعه إلى “ليلة بيضاء” قضاها في إجراءات اخلاء السبيل. هنا نص الرسالة كما كتبها حسني على صفحته الشخصية.
قبل المطر أم بعده؟!
عنوان هذه الرسالة إنما يستدعى بعضاً من المعانى التى يُسِرُّها لنا فيلم “قبل المطر”، الحاصل على جائزة الأسد الذهبى بمهرجان فينيسيا (البندقية) للأفلام سنة 1994؛ وهو فيلم يحكى قصص المآسى الإنسانية التى يموج بها واقع البلدان البلقانية، التى استعرت فيما بينها الحروب بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافى، فتفشت بين شعوبها البغضاء، وانفصمت عُرَى الصداقات والود بين طوائفها الإثنية والدينية … كان الفيلم عبقرياً، فالواقع المشوَّه والمشوِّه الذى تفرضه الحروب الأهلية – الصريحة أو المكتومة – فى أى بلد من البلدان إنما يخلط البدايات بالنهايات، حتى نكاد لا نُفَرِّق بين هذه وتلك؛ ومن ثم تتابعت مشاهد الفيلم كالأبواب الدوَّارة التى ندخل منها أو نخرج دون أن يتهاوى منطق تتابع الأحداث؛ ففى أزمنة الأبواب الدوارة يفقد هذا التتابع بالضرورة صلته بأى منطق متماسك لبناء حياة إنسانية يستقيم فيها معنى البداية ومعنى النهاية، وتستقيم فيها العلاقة بين البدايات والنهايات؛ فإنما نحن نعبر هذه الأبواب الدوارة لندور فى المكان والزمان، حتى يكاد لا يعرف أحد إن كان المشهد الذى يحكى قصة البدايات هو مشهد النهايات، أم أن مشهد النهايات هو الذى يأخذنا لقصة البدايات؛ فصور الواقع فى هذه الأوضاع المشوَّهة والمشوِّهة هى صور تستدعى دائماً معانى الإرهاق، كهذا الإرهاق الذى يتبدى على وجهى فى هذه الصورة التى كانت أول ما التُقِط لى فور إخلاء سبيلى بعد سبعة عشر شهراً من الحبس الاحتياطى؛ ولا أعرف إن كانت هذه الصورة لى بعد سقوط المطر أم قبله، فأنا أتعامل منذ فترة مع أبواب دوَّارة تُخرِجُنى من المكان لتُدخِلُنى فيه، وتُخرِجُنى من الأزمة لتُدخِلُنى فيها!
هى صورة التُقِطت لى بعد سويعات فقط من وصولى إلى بيت العائلة حيث أقضى فترة الإقامة الجبرية التى قررتها النيابة بديلاً عن استمرار الحبس، وهى فترة قدرتها النيابة بخمسة عشر يوماً قابلة للتجديد … قد يبدو إجراء الإقامة الجبرية بعد إخلاء السبيل إجراءً قاسياً، لكنه فى نظرى أقل قسوة بكثير من إجراءات احترازية أخرى مهينة للكرامة ومرهقة للنفس وللجسد؛ فعلى مدى سبعة عشر شهراً من الحبس لم أكن أحمل هموم السجن بقدر ما كنت أحمل هموم ما سيتبع مغادرتى إياه من إجراءات، وقد جاءت الأمور – فى تصورى – أفضل كثيراً مما قدَّرت؛ ومن ثَمَّ فلا بأس من تحمل القسوة النسبية لنصيبى من هذه الإجراءات الاحترازية حتى ترى النيابة إنهاءها أو تخفيفها أو وفقما تراه من أمرها، خاصة وأن الإجراء الاحترازى بتحديد إقامتى بعد إخلاء السبيل لم يقترن بأية قرارات تمنعنى من الولوج إلى شبكة الإنترنت، ولا بأية قيود على حقى فى التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعى.
الإرهاق الذى يبدو على وجهى فى الصورة سببه ليلة بيضاء طويلة اختلطت فيها بدايات إخلاء السبيل بنهاياته، وهى الليلة التى قضيتها بين ليمان طرة وبين حبسخانة المحافظة، ثم قسم الشرطة، حتى انتهت إجراءات إخلاء السبيل المعقدة فى نهاية ليلة طويلة ومرهقة لم أذق فيها طعم النوم؛ وعلَّه من الأمور النادرة أن تكتمل هذه الإجراءات خلال ساعات وإن كانت قد طالت هذه الساعات حتى قبيل الفجر، إذ من المعتاد أن يقضى المفرج عنهم أياماً أو أسابيع، وربما أكثر من ذلك، حتى تنتهى هذه الإجراءات؛ ومن ثَمَّ فأنا لا أشكو من هذه الليلة البيضاء حتى وإن بقيت مستيقظاً بسببها أكثر من خمس وعشرين ساعة متواصلة، إذ كنت قد تعودت أن أستيقظ ما بين الساعة الثالثة والساعة الخامسة فجراً، وأن أبدأ رحلة النوم ما بين السابعة والتاسعة مساءً، حتى كان يوم الإثنين الماضى الموافق 22 من فبراير إذ فوجئت – وأنا أغمض عينىّ، وأكاد أسامرملَك النوم – برئيس مباحث الليمان وهو يفتح باب الزنزانة بعد الساعة التاسعة مساءً ليستدعينى ويطلب منى جمع أغراضى استعداداً للرحيل .. ارتبكت بعض الشئ، خاصة وأن النوم كان لا يزال يداعب عينىَّ … كانت هناك إشارات – لا معلومات – منذ نحو أسبوعين باقتراب موعد إطلاق سراحى، لكن مغادرة الليمان ليلاً وعلى عجل، وسط إجراءات تفتيش صارمة، زاد الارتباك الذى استدعاه الموقف ارتباكاً؛ غير أن إجراءات التفتيش هذه، وما تلاها من خروج من بوابة الليمان، لم يكونا إلا بداية إجراءات لم تنته بإخلاء السبيل فعلياً إلا بمغادرتى قسم الشرطة بعد الساعة الثانية من صباح يوم الثلاثاء 23 فبراير، وبالطبع فإننى لم أبدأ فى مسامرة ملَك النوم بمجرد خروجى من بوابة القسم، ولكم أن تتخيلوا متى أتيحت لى رفاهية هذه المسامرة التى لم أنعم بها إلا بعد أن طغى الخيط الأبيض على الخيط الأسود من الفجر وبدأ ما يمكن أن نسميه بالنهار !
دعونى أُطَمئن الآن كل من يحسنون الظن بى وتعنيهم سلامتى، وأولئك الذين كان ولم يزل ديدنهم الشماتة بى وبكل من يخالفهم الرؤية ولا يتفق معهم فى الرأى من أى معسكر كانوا، بأننى قد خرجت من السجن إلى بيت العائلة وأنا بصحة جيدة والحمد لله؛ وحديث الجودة هنا هو حديث نسبى بطبيعة الحال، فهو حديث شيخ لا تبعده عن تتمة سن السبعين إلا أقل من ستة أشهر لا غير … بالطبع ليست صحتى كما كانت وأنا شاب فى العشرينات، أو حتى فى الأربعينات، لكنها صحة نفسية وجسدية جيدة على أية حال، وهى تكفينى لمواجهة مصاعب الحياة فى مقبل الأيام إلى أن يأمر الله – والله وحده – بإنهاء رحلتى فى هذه الحياة الدنيا؛ وحتى يحين هذا الأجل، الذى لا يعرفه إلا مُقَدِّر الآجال، فإننى أتعامل مع الأيام على أرضية أساسها تفهمى الكامل لقوانين الحياة وتقلباتها، مع قبولى بدفع ثمن اختياراتى وأنا أجتاز دروب هذه الحياة وأواجه تقلبات الأيام .. أو هى على أية حال أرضية أساسها تفهمى الكامل لقوانين الحياة القائمة فى مصر، وتحملى لثمن أن أكون مصرياً فى هذا الفصل من فصول التاريخ؛ فلا أنا آسى على ما فاتنى خلال سبعة عشر شهراً قضيتها وراء الأسوار وبوابات العنابر وأبواب الزنازين، ولا أنا فرح بما أوتيت من حرية مشروطة أقضى أيامها بين أفراد عائلتى الذين اطمأنت نفوسهم بعودتى إليهم سالماً لأكون بينهم من جديد … وأتمنى بالطبع أن يلحق بى كل سجناء الرأى الذين ما زالوا حبيسى الزنازين، حتى وإن اختلفت معهم فى هذه الرؤية أو تلك، وكان لى من الآراء غير هذا الرأى أو ذاك.
اسمحوا لى قبل أن أنهى هذه الرسالة أن أشكر كل من وقفوا بجانبى منذ عرضى لأول مرة على نيابة أمن الدولة: الأستاذ خالد على ومساعديه، والأستاذ طارق العوضى ومساعديه، ومن قبلهما الدكتور محمد نور فرحات، وكل من تطوع بالانضمام لفريق الدفاع – ولو وقتياً – وأيدنى بالدعم القانونى والمعنوى خلال جلسات تجديد الحبس الدورية مثل الأستاذ محمد منيب، والأستاذ ناصر أمين، والأستاذة وفاء المصرى، والأستاذة راجية عمران، والأستاذة داليا زخارى وآخرين أعتذر لهم لو كانت قد ارتبكت فى الذهن أسماؤهم، فهذا لا يقلل من شأنهم ولا من قدر ما أدين به لهم من مشاعر التقدير والعرفان.
بقى لى أن أعطى، حتى لمن اختصمونى أمام نيابة أمن الدولة وأمام الرأى العام، حقهم فى الاعتراف لهم بحسن معاملتى منذ لحظة اعتقالى – أو أياً كان التوصيف القانونى الذى سجلته الأوراق لهذا الاعتقال – وحتى لحظة خروجى من قسم الشرطة، ولهذا تفاصيل قد لا أرى من المناسب الخوض فيها ولا فى أسماء أصحابها، وإن كنت قد أعود لبعض ملامحها العامة فى منشور لاحق إن هو أَذِن الرحمن بهذه العودة وكان لى من الحياة الدنيا بقية نصيب.