قبل أن تعرف مصر الحياة النيابية، وقبل أن يكون لشعبها ممثلين منتخبين يراقبون أعمال الحكام فيصوبون قرارتهم ويرشدون أعمالهم ويقومون سياساتهم، تصدرت الزعامات الشعبية من مشايخ ونقباء وأعيان المشهد للقيام بمهام ضبط إيقاع العلاقة بين الحكام والمحكومين. في بعض الأحيان نجح هؤلاء الزعماء في مهمتهم، وفي أحيان كثيرة اندلعت ثورات وانتفاضات إثر صم الحكام آذانهم عن سماع آنين الشعب واستهانتهم بنصائح ممثليه.

خلال فترة الحكم العثماني لمصر، تحول الأزهر الشريف بما له من ثقل إلى ملاذ لأصحاب الحقوق، وحل علماؤه محل نواب الشعب وممثليه، يلتقون بالولاة ويعبرون عن انحيازات الناس ويدفعون عنهم الظلم ويسعون في قضاء حاجاتهم، وعندما تتعقد الأمور ويصر الحكام على جورهم يتقدمون الثورات ويعلنون التمرد على من عصى وتجبر.

قبيل الحملة الفرنسية على مصر بسنوات قليلة، تدهورت أوضاع البلاد والعباد، وتحول الولاة العثمانيون ورجالهم من المماليك إلى جُباة للإتاوات والضرائب التي أرهقت كاهل المصريين، فاندلعت في سنة 1795 ثورة شعبية، انتهت بإرغام الوالي العثماني على وضع أول وثيقة مكتوبة تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين في تاريخ مصر.

بدأت القصة عام 1795 عندما فرض محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك إتاوة جديدة على أهالي بلبيس بالشرقية. حصل رجال الألفي الإتاوة الجديدة واسخدموا كل وسائل القمع في تحصيلها، فتوجه وفد من الأهالي إلى القاهرة قاصدين الجامع الأزهر. كان في استقبالهم كل من الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وطالبوهم بالتدخل لدى مراد بك وإبراهيم بك لرفع الظلم الواقع عليهم.

استخف مراد وإبراهيم بشكوى الأهالي، ولم يقدرا تدخل شيخ الأزهر ونقيب الأشراف، فتصاعد الغضب في نفوس الأهالي، وانفجرت الثورة ضد بكوات المماليك الذين كانوا يشاركون الباشا العثماني في إدارة البلاد.

قاد مشايخ الأزهر ونقيب الأشراف تمرد الأهالي، وطالبوهم بغلق الحوانيت والأسواق، وتوجهوا معًا إلى منزل الشيخ شمس الدين محمد أبو الأنوار السادات، وكان المسؤول عن إدارة المشهد الحسيني ومسموع الكلمة لدى الولاة العثمانين وأمراء المماليك، وعندما علم إبرهيم بك بتحرك الجماهير أرسل إليه أيوب بك الدفتردار وهو أحد أعوانه، وسألهم عن مطالبهم.

قال الأهالي لممثل إبراهيم: “نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال حوادث السلب والنهب من جانب عساكر المماليك، ونريد إلغاء المكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها – الضرائب والإتاوات- على الأهالي بدون وجه حق”.

ماطل الدفتردار في الرد على مطالب الأهالي قائلاً: “لا يمكن الإجابة على هذا كله، لأننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات”، فسأله الشيخ الشرقاوي: “هل من المعقول أن تتمتعوا وغيركم يتقطعوا؟”. أما السيد عمر مكرم فقال: “إن طلبتم ما في طاقتنا لدفعنا، ولكنكم تجبرون الناس على الثورة، والناس في ضيق من أفعالكم”. وحذر الشيخ السادات حكام المماليك من مغبة أفعالهم قائلاً: “ويل للحاكم من شعبه، إن كان هو وحده المستريح.. ما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك، وهل لا يكون الأمير أميرًا إلا بكثرة ما يملكه أو بكثرة ما ينفقه؟”.

وبعد أن تعالت الأصوات وارتفعت نبرة الغضب، انسحب أيوب بك، وقال لمحدثيه: “ما على الرسول إلا البلاغ، وسوف أبلغ وأعود لكم”. لم يعد أيوب ولم يرد على مطالب الأهالي وزعمائهم، فارتفع منسوب الغضب وأصبحت الثورة فرض عين على كل من وقع عليه ظلم من هؤلاء الولاة العصاة.

أقام الأهالي المتاريس، وصنعوا كور النار وجمعوا النبابيت والعصي، واعتلى الخطباء المنابر يحمسون الناس ضد الظلم والجباية التي فرضها عليهم الحكام، شعر المماليك بالخطر، وأُشير عليهم بإرضاء العامة والاستماع إلى نصائح المشايخ والأعيان لإخماد جذوة الثورة، وأرسل مراد بك البعض في طلب الزعماء ليبحث معهم مطالب الناس.

استعد الأزاهرة ومعهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم للاجتماع بشيخي البلد إبراهيم بك ومراد بك، وأبلغوا الأهالي الذين أصروا على الزحف خلفهم بأن يفعلوا ما عليهم حال غدر بهم أمراء المماليك، “إن لم نعد بعد ساعتين على الأكثر فعليكم القيام بما ترونه”.

وخلال الاجتماع حضر الوالي العثماني، والتقى للمرة الأولى بكل من السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد البكري والشيخ أبو الأنوار السادات والشيخ محمد الأمير.

أصر العلماء على تلبية مطالب الشعب، وحاول الحكام أن يماطلوا، ولما طالت مدة الاجتماع، تعالت هتافات الأهالي: “الله أكبر.. الله أكبر”، فشعر الوالي ومعه المماليك بأن الخطر يداهمهم، فاضطروا للخضوع إلى إرادة الشعب، ووقعوا على وثيقة تضمنت مطالب الأهالي وعلى رأسها أن يسدد أمراء المماليك ما اغتصبوه من أموال الشعب ومقداره سبعمائة وخمسين كيسًا، وأمر المشايخ بتوزيعها على أهل بلبيس وبعض فقراء القاهرة.

وأقر أمراء المماليك بإبطال المكوس الجديدة، وعدم فرض أي ضرائب بدون وجه حق وبدون الرجوع إلى العلماء وزعامات الشعب، ووافقوا على استئناف إرسال غلال الحرمين التي كانوا قد امتنعوا عن إرسالها وإعادة صرف غلات الشون وأموال الرزقة التي كانوا قد استولوا عليها، واستئناف أداء العوائد المقررة لأهل الحجاز التي كانت تتكفل مصر الإسلامية بها بشكل دائم.

وتعهدوا بكف أتباعهم عن أن تمتد أيديهم إلى أموال الناس، وأن يسيروا في الناس سيرة حسنة، وما أن خرج الزعماء إلى الأهالي بالوثيقة التي وقع عليها الوالي وإبراهيم بك ومراد بك حتى هلل العامة وهتفوا: “الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل”.

بعد تلك الواقعة بسنوات قليلة سقطت مصر تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، وكان لرجال الأزهر وعلمائه ومعهم عدد من الأعيان الدور الأكبر في التصدي لمحاولات نابيلون بونابرت تغريب المجتمع المصري ونهب ثرواته.

تحول الأزهر إلى مقر للمعارضين للحكم الفرنسي، وفي رحابه تم التخطيط والتحضير لثورة القاهرة الأولى، ونتيجة لذلك اُنتهكت حرمته، وفي أعقاب ثورة القاهرة الثانية تعرض كبار العلماء لأقسى أنواع التعذيب، وفُرضت عليهم الغرامات فبيعت ممتلكاتهم وحلي زوجاتهم، وعقب مقتل كليبر فجع الأزهر بقتل عدد من طلابه وفي مقدمتهم سليمان الحلبي، وبينما كان الاحتلال الفرنسي يلفظ أنفاسه الأخيرة حتى صدرت الأوامر باعتقال شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي.

بعد أن رحلت الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801، تولى يوسف باشا الصدر ولاية المحروسة نيابة عن السلطان العثماني، ثم جاء خورشيد باشا الذي أعاد سياسة العثمانيين الأولى من الظلم والعسف، فتصاعد الغضب الشعبي مجددا وتدخل العلماء والنقباء والأعيان وفرضوا على السلطان العثماني عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي باشا.

وتقلد محمد علي باشا ولاية الحكم بإرادة زعماء الشعب ونزولا على رأيهم في 13 مايو سنة 1805، أوصل ممثلو الشعب القائد الألباني إلى سلطة الحكم، ويقول الجبرتى: “تم الأمر بعد أن عاهدهم محمد علي على أن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويعمل على الإقلاع عن المظالم، وألا يفعل أمرا إلا بمشورة العلماء، وإنه متى خالف الشروط عزلو”.

وعملت الزعامات الشعبية في سنوات حكم محمد علي الأولى على تثبيت دعائم ملكه وتذليل العقبات التي وضعها في طريقه رجال الآستانة من جهة والإنجليز وصنائعهم المماليك من جهة أخرى، فأحبطوا المؤمرات التي دُبرت لاقتلاعه عن كرسي الولاية بها.

لم تترسخ قدم محمد علي باشا (1769-1849) في الحكم بمجرد مبايعته أو صدور فرمان توليه حكم مصر من السلطان العثماني، فالدسائس كانت تحيط به من كل جانب، حاول الإنجليز بكل الوسائل رد السلطة إلى رجلهم محمد بك الألفي، وعملوا من خلال جواسيسهم في الدولة العثمانية على محاربة الوالي الذي تم تنصيبه بتفويض شعبي، وحرضوا المماليك على محاربته حتى يتحقق لهم ما أرادوا، ولما فشل أمراء المماليك في زعزعة حكمه تدخل الإنجليز لفرض مخططهم بالقوة.

كان الوالي الجديد الذي وصل إلى السلطة بأمر الشعب المصري يحتاج في تلك الظروف إلى تأييد الزعامات الشعبية ليقوى بها على مقاومة العواصف التي هبت عليه من مختلف الجهات.

بقيت تلك الزعامات تؤيده وتناصره وتمده بيد العون، فكان لها النفوذ الفعال والفضل الكبير في تثبيت دعائم عرشه في السنوات الأولى من حكمه، كما كان لها دوراً كبيراً في توجيه الشئون العامة ونصيبًا وافرًا في سلطة الحكومة.

كان السيد عمر مكرم على رأس تلك الزعامات وحاملاً لوائها في تقليد الباشا الجديد سلطة الحكم، وكان المماليك يعرفون قدره وقدر غيره من المشايخ والوجهاء الذين قادوا الجماهير حتى مكنوا محمد علي، فحاولوا استمالتهم لكنهم فشلوا في تأليبهم على الوالي الجديد.

أدرك محمد علي بحسه السياسي أنه لا سبيل إلى الاستمرار على حكم مصر إلا بالتقرب من زعماء الشعب، فكان يرجع إليهم ويستشيرهم فيما يجد من أمور، فكان لا يفرض «إتاوة» ضريبة إلا بعد الرجوع إليهم وبموافقتهم.

وظل السيد عمر مكرم نقيب الأشراف ومعه عدد من علماء الأزهر ومشايخه يمثلون لسان حال الناس، يرفعون مظالمهم إلى الوالي ويتدخلون للحد من جور العسكر والجباة، وظلت الأمور في مصر كذلك لنحو 7 سنوات، فلما تمكن محمد علي من فرض نفوذه وانتصر على المماليك والإنجليز وحجم التدخل العثماني، انقلب على هؤلاء الزعامات وعزل عمر مكرم ونفاه ولم يقبل بتقريب إلا من يسبح بحمده ويشكر فضله.

ورغم ما انجزه محمد علي من مشروعات ومحاولاته تحديث الدولة المصرية من خلال البعثات والمدارس والمطابع والترسانات، ألا أن الشعب المصري عانى تحت حكمه كما عانى تحت حكم أسلافه، بسبب استبداده وتسلطه وفردية قرارته. ثم تهاوى كل ما بناه محمد علي باشا على يد أسلافه الذين مهدوا الطريق أمام الاحتلال الإنجليزي الذي  استمر 70 عاما.

وهكذا ظل تاريخ مصر الحديث، بين ظلم حكام وانتفاضات شعب، وممثلين عنه ينحازون إليه، في مواجهة الحكام، وآخرين اختاروا الانحياز إلى بلاط السلطان طمعًا في ذهبه أو خوفًا من سيفه، فيسبتد الحاكم ويفرض ما يشاء على الرعية من جبايات وإتاوات ويثور الشعب ضده، مهما طال الظلم واستطالت الظلمة، لكن الحكام لا يتعلمون، ليذهبوا إلى حيث يستحقون ويبقى الشعب.