شتاء 1978.. كان الطقس شديد البرودة بالخارج، لكنه لم يكن كذلك أبدًا في القاعة الضخمة بالمبنى الكبير، كان جدول الأعمال يتضمن محورًا وحيدًا تركزت حوله المناقشات وانبثق عنه القرار الخطير، الانشطار العظيم الذي أصابت شظاياه العالم برُمَتِه، لكن شظيته الكبرى استقرت في كبِد العاصمة الأهم على الضفة المقابلة للمحيط، الذي لم يعُد هادئًا بعدما زاد عن أربعين عامًا مَثَّلَت رحلة شظايا الانشطار العظيم في عمق الزمن. كان القرار/الشظية هو وقف استخدام شعاري “اتخاذ الصراع الطبقي كأساس” و”الثورة مستمرة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا”. في الوقت الذي كانت الكارثة تدق أحجار السور العظيم. كان الناس من وراء السور يستقبلون أول شحنة مُكَونة من ثلاثة آلاف صندوق يسع كل منها أربع و عشرين زجاجة من المشروب السحري العجيب قادمة من الضفة المقابلة للمحيط عَبرَ الجزيرة التي ظلت مستعمرة بريطانية حتى نهايات القرن العشرين لتعود بعدها إلى حضن الأم لكن بِحُكمٍ ذاتي تحت شعار “بلد واحد، نظامان مختلفان”، حيث يلتقي “الشرق بالغرب”. كان العام 1978 عامًا تاريخيًا شَكَّلَ بداية إعادة النظر في تعاليم الرجل الكبير الذي كانوا يصفونه بالمفكر السياسي والمنظِّر والاستراتيجي العسكري والشاعر والمفكر، وشَرب فيه الصينيون “الكوكاكولا”.

بعد أقل من عدة أشهر، وفي الوقت الذي كان الجار الأكبر يجري تغييرات حاسمة ستذهب به أدراج الرياح بعد سنوات قليلة. كان أيقونة مدرسة شيكاجو يزور “بكين” حيث الطوابير والبؤس والفجوة المُتَسِعة بين العرض والطلب التي أدت إلى فوضى عارمة في الأسعار: “لا يجوز الخلط بين التضخم المالي وتحرير الأسعار معًا. إذا تحررت الأسعار، فسيزيد سعر بعض البضائع فقط، وقد يشعر الناس بالألم في الأيام القليلة الأولى، لكن سرعان ما تجد أن الأسعار لن تتضاعف بالضرورة. إذا أردت قطع ذيل فأر كبير، فلا تقطعه ببطء، بل يجب عليك أن تقطعه مرةَ واحدة، حيث يكون الألم القصير أفضل من ألم طويل المدى”، هكذا تحدث سَيدُ الأسعار “ميلتون فريدمان”. وهل له أن يتحدث بغير ذلك.

مَضَت الأعوام الأربعون سريعًا بِحُلوِها والمُر الذي كان عَلقَمًا، تفَكَكت “الكُتلة” الشرقية، وتبَدلِت الأفكار والمصالح، وتغيرت الخطط والتكتيكات تبعًا لذلك في سياق إنساني كوكبي شديد البشاعة لم يَحُلْ انتهاء الحرب الباردة دون دمويته، لتظهر تعريفات جديدة تمت دَستَرَتها خلف السور العظيم مثل “اقتصاد السوق الاشتراكي”، ولتتفعل مبادرات أخرى كإلغاء الضريبة الزراعية الشهيرة التي امتدت لما يقرب من الألفي عام على عاتق ما يربو عن المليار مُزارع، وكذا مسائل الخصخصة لبعض البنوك المملوكة للدولة، وتحصين الملكية الفردية في إطار من أفكار “التمثيلات الثلاثة” التي تتمركز في أن الحزب الشيوعي الصيني يمثل 1) متطلبات تنمية القوى المتقدمة الصينية، ويمثل 2) اتجاه التقدم للثقافة المتقدمة الصينية، ويمثل 3) المصالح الأساسية للغالبية الساحقة من أبناء الشعب الصين، ولتدخل الصين في منظمة التجارة العالمية مع بداية القرن الجديد.

انضوت الصين في تحالف البريكس الذي ضم معها كل من البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، ثم ما لبث أن تعثر هذا التحالف على وقع مشاكل مَرت بها البرازيل وجنوب أفريقيا ففقدتا بريقهما، وتحطمت طموحاتهما للتحول إلى قوى عالمية، وما لت الهند صوب أمريكا فابتعدت عن التحالف انطلاقًا من توجساتها بأن الصين هي عدوها التاريخي، وانتحت روسيا منحىً مستقِلاً نوعًا ما ليتفكك -فعليًا- تحالف كان مشابِهًا في أسلوب وطبيعة وأهداف تكوينه لباندونج 1955، لتظهر الصين كقوة عُظمى تتنافس منفردة مع أمريكا بدفعٍ من ممارساتٍ ليس غرض هذا المقال تقييمها أو تحليل أسبابها، فأمْرُ ذلك يقتضي دراسات مستفيضة لا مجرد مقال محدود المساحة، وربما تمكن الكاتب في المستقبل من تناولها بمزيدٍ من البحث المتعمق.

الحاصل حاليًا أن الصين قد صارت إلي ما صارت إليه.. امتدادات عالمية وصلت بها إلى أوضاعٍ تتنافى مع البناء الفكري الماركسي/الماوي الذي مازالت تتغنى به وتقحمه في كل أدبياتها الحديثة إقحامًا يفتقر إلى كثير من المصداقية، مُتَحَوِلَة إلى دولة قومية وكفى، لتضع العالم الراغب في الانعتاق من القيد الأمريكي في معادلة شديدة الصعوبة والمرارة لاستبدال نظام رأسمالي بآخر انبنى على الأسس نفسها وينتهج نفس النهج مُتَبِعًة في ذلك نفس الأدوات الإمبريالية للرأسماليات العتيقة.

تكمن أزمة تلك المعادلة في المأزق الفكري الكبير بشأن التطبيقات العملية لقانون “التناقض” الذي هو أحد قوانين الجدل المادي الثلاث، والذي صاغ فيه “ماو” واحدًا من أهم ما كتب حين تسلط تلك الممارسات الضوء على أن فهم الكثيرين لهذا القانون ما هو إلا فهم “شَكْلاني/نَقْلي” لا يضع في الحسبان أن الضدين هما مصالح الشعوب التي تسعى للتحرر والانعتاق من ناحية، مقابل الطغيان والاستغلال من ناحية أخرى، كتبرير لضرورة هزيمة أمريكا حتى وإن تم استبدالها كرأسمالية طاغية بأخرى ربما تكون أكثر طغيانًا.

لنا فيما يُسمى في الأدبيات السياسية “بدبلوماسية القروض” مثالاً على ذلك، إذ تمنح دولة ما القروض بشروط مُيَسرة لدولة أخرى بحاجة لها ثم يتم الانتظار -في دأبٍ- حتى إخفاق الدولة المدينة لتطلب الدولة الدائنة قواعد عسكرية و/أو تسيطر على الموانئ لأجل التمكُن من إحكام قبضتها على تجارة العالم و/أو تطالبها بالتصويت معها في المحافل الدولية، وهذا ما حدث بالضبط. تكفينا -للتدليل علي ذلك- نظرة سريعة على مدى عمق تواجد الصين بالقرن الأفريقي الذي يمثل عنصرًا هامًا في مبادرة “الحزام والطريق” كمدخل للثروات والمواد الخام والنفط الأفريقيين، ولأجل السيطرة على مسارات التجارة العالمية الهامة عبر باب المندب الذي تمر به نِسَبٌ عالية من حجم التجارة الدولية وتجارة النفط، بخلاف سيطرتها علي ميناء هامبانتوتا السيريلانكي الحيوي باستئجاره لمدة 99 عامًا تسوية لديونها التي قدمتها لسيريلانكا.

للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.