بينما لا تزال الطالبة أمل عبدالحميد “فتاة المنصورة” تبحث عن نسب طفلتها في المحاكم، يتجدد الحديث حول إشكالية قضايا النسب. وكذلك تأثير تأويل النصوص الدينية عليها من جهة، ومقتضيات العصر، والمصلحة العامة من الجهة الأخرى.

ترجع أحداث قضية “فتاة المنصورة” إلى اتهام الطالبة “أمل” 19 عامًا، زميلها في الثانوية العامة، باغتصابها عام 2018. قبل عقد قرانها على شخص آخر. الأمر الذي نتج عنه حمل الفتاة وإنجابها طفلة تبلغ من العمر الآن عامين.

توجهت “أمل” إلى النيابة العامة بعد اكتشاف حملها. إلا أن محكمة أحداث جنايات مستأنف المنصورة، في حكمها الثاني أيدت حكم قضاء الدرجة الأولى. فقضت بأن الطالبة المجني عليها كانت على علاقة عاطفية بالمتهم. وأن هذه العلاقة تطورت إلى الإنجاب ورفض الاعتراف بالطفلة. نافيةً شبهة الخطف والاغتصاب.

وفي حين أثبت تحليل الحمض النووي DNA التطابق بين المتهم والطفلة، قد تمنع قواعد الشريعة التي قد تستند إليها المحكمة نسب الطفلة لأبيها. بعد أن أصبحت نتيجة علاقة “زنا”.

الأرقام تشير إلى 15 ألف قضية نسب في المحاكم المصرية، وأعداد غير محدودة من أطفال الشوارع. في حين تنص اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عام 1989، التي أقرتها الأمم المتحدة، ووقعتها مصر “حصول الطفل على اسم وجنسية فور ولادته. كما تقر المادة الثامنة من الاتفاقية على احترام حق الطفل في الحفاظ على هويته واسمه وصلاته العائلية. وفي حال حرمانه من تلك الحقوق فإن واجب الدولة مساندته ودعمه.

قضايا النسب.. مشكلة قراءة وفهم

طالما شغلت ثنائية تأويل النص والمصلحة العامة المهتمين. خصوصًا في مسائل الأحوال الشخصية، التي ترتكز بالأساس على الشريعة الإسلامية. وفي بعض الحالات لغير المسلمين أيضًا.

أستاذ الفقه في كلية الآداب، دكتورة زينب عبدالسلام أبوالفضل عضو لجنة البحوث الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أوضحت عدم تعارض النص مع المصلحة العامة، في قضايا النقول كافة. مؤكدةً أن الأزمة تتمثل في قراءة وفهم الفقيه نفسه للنصوص. وأن هذ التعارض الظاهر يكون في ذهنه فقط، لا في حقيقة الأمر.

وفق الحسن البصري وعروة بن الزبير يصح نسب ولد الزنا إلى الزاني في المطلق

وحول قضايا النسب تؤكد أبو الفضل -وهي من أولى السيدات المعينات في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف- وجوب الستر على المغتصبات، وكل من فقدن بكارتهن ما دمن غير متمرسات لهذا الفعل، مجاهرات به. حتى لو بالمخالفة لرأي أغلب الجمهور. لافتةً إلى ضرورة تقديم المصلحة العامة، ولو بترجيح ما هو مرجوح أو شاذ من أقوال العلماء.

تقضي القاعدة الشرعية في قضايا النسب، بأن “الولد للفراش”، أي فراش الزوجية. حتى في حال فساد الزواج، نتيجة غياب أحد شروطه. أما في حالتي الاغتصاب والزنا، حيث لا يفرق أغلب الجمهور بينهما، تطبق القاعدة الشرعية القائلة، ماء الزنا هدر، لا وزن له، فلا يعتد بنسب الولد. وذلك انطلاقًا من التفسير القائل بأن ماء الزنا هدر لا حرمة له، فلا يرتب عليه أثرًا. كما أن الأبوة شرف لايستحقها إلا من بذل، وقدم.

“ادعوهم لآبائهم”.. كيف فسر البصري وبن الزبير قضايا النسب؟

ترى أبوالفضل أن الأمر قد يكون مفهومًا في حالة المشتغلات بالجنس، أو المجاهرات بالفحشاء. إذ يرجع الأمر إلى عدم التيقن من صاحب الماء الذي نتج منه الحمل. ومنعًا لإشاعة الفاحشة. أما ما دون ذلك فيجب لهن الستر.

وفقًا لآراء قلة من فقهاء التابعين مثل الحسن البصري وعروة بن الزبير يصح نسب ولد الزنا إلى الزاني في المطلق. وهو الرأي الذي يصلح أن يكون مطروحًا على مائدة النقاش إذا اقتضته المصلحة العامة، وفقًا للآية الكريمة “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله”، كما توضح أبوالفضل.

وتؤكد أبو الفضل أن المغتصبة، لاجريرة لها، ولا ذنب. كما أسقط الشارع عنها الإثم، أو الملام. لذا يجب أن ينسب طفلها إلى أبيه فلا يجوز عقابها أو طفلها فيما أعفاها الشرع منه. هذا إن رغبت في بقاء الجنين، إذ يحق لها التخلص منه في حال كان في طور التخلق.

وردًا على قول جمهور الفقهاء أن ماء الزنا هدر، ومن ثم لا يثبت به نسب، أوردت أبو الفضل في كتابها “المغتصبة وحكم الستر عليها في الفقه الإسلامي”، أن ثبوت حرمة الرضاع والمصاهرة بماء الزنا، لا يحظى بإجماع واتفاق جمهور الفقهاء، ومن ثم لا يكون هدرًا، فيثبت به النسب، كما ثبت به التحريم.

أما فيما يخص القول بأن تنسيب الولد إلى الزاني، فتحًا لكل متفحش، فترد أبوالفضل بأن الحكم مناسب لسياق عصور مضت، حين كان نسب الولد لغير والده عار. وكان الأمر حمية وغيرة بين الناس. أما الآن فقد أصبح إطفاء الرغبة هو المقصد وحده. بدليل آلاف من قضايا النسب في المحاكم، فالأولى إلزام الوالد بولده، لمحاصرة الإثم، والحد منه.

وحتى حجة عدم التعرف على صاحب الماء، فقد يسرها العلم الحديث والتكنولوجيا عبر البصمة الوراثية. كما أن الشرع يعتبر بأيسر الأدلة، نظرًا لأن مغمور النسب هو في حكم الميت بنظر الناس، وكحق للمجتمع حفظًا له من مشكلات اللقطاء وأطفال الشوارع بل والقمامة، على حد قول أبوالفضل.

واستغربت أبوالفضل أن الممانعين للنسب، يجيزون للأب الحاق من يشاء به نسبًا بـ “الاستلحاق”. ولا يوصف كزاني حينها ما دام لم يعترف على نفسه بالزنى. وحجتهم في هذا “نفع الطفل”، لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، كما لو كان يقر بمال. لافتةً إلى أن العلة نفسها يجب أن لا تتخلف عن أي طفل جاء إلى الدنيا، تنتظره تبعات جهالة نسبه.

باب الاجتهاد مفتوح

أشارت عضو مجمع البحوث إلى أن باب الاجتهاد، عبر الفهم والاستنباط، يجب أن يظل مفتوحًا. ذلك ليتماشى مع مقتضيات العصر وتحدياته. ووفقًا لقول سيدنا علي -رضي الله عنه- عندما سأل: “هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن”.

واعتبرت أبو الفضل أن التعارض بين النص والمصلحة دليل على ضيق أفق المفسر، لا اختلافًا حقيقيًا. مرجعة الأمر إلى مشاكل تعيب الخطاب الديني، ومدى توافقه مع مقتضيات العصر، ومصلحة الناس.

بعض الآباء ممن يخضعون لمنظومة الزواج الرسمي يرفضون تسجيل أطفالهم، بهدف التعنت، والاحتفاظ بميزة منحها له القانون

وحذرت أبو الفضل من أن إساءة تفسير النصوص، والتشدد فيها، ينفر عموم الناس منها، ويبعدهم عنها. كما أنه يعزز شعور قطاع كبير من الجيل الجديد بالاغتراب، والتخلي عن القيم الدينية.

تناقض القوانين

من جهتها، أوضحت الباحثة إلهام عيداروس أن قضايا النسب تنتمي لعائلة الأحوال الشخصية. وهي تمثل إشكالية تاريخية ضخمة، باعتبارها المجال الوحيد الذي تم حجزه للشريعة الإسلامية. ذلك خلافًا للقوانين المدنية والجنائية.

كما لفتت عيداروس إلى أن قوانين الأحوال الشخصية يضم في طياته أغلب الفئات ذات الموقع الأضعف في المجتمع من نساء لأطفال وحتى أقباط. ما يجعلها من المناطق الحساسة بالقانون والأولى بالرعاية. في حين أننا نملك منظومة هجينة تخص هذه القوانين، تجمع ما بين القواعد الدينية والحياة العصرية. بما تتضمنه من متطلبات، ووفق عيداروس.

قالت عيداروس إن قضايا النسب من المسائل التي يظهر فيها هذا التناقض. ففي حين يحرم القانون والتأويل الحالي للنص نسب أبناء الزنا والاغتصاب لأباءهم، يمتنع عن سن قانون يشرع الإجهاض في حالات الاغتصاب.

أكدت عيداروس أن قاعدة ماء الزنا هدر، والمتسببة في منع انتساب الأطفال لأباءهم “بنت عصرها”. فحرمان الآباء من النسب في أوقات سالفة كان عارًا. كما أن الدولة كانت تتكفل وقتها بهؤلاء الأطفال في كافة المناحي، بما فيها النسب.

أما الآن فالغطاء الاجتماعي أقل بكثير. كما ينزع الأباء إلى التهرب من مسؤولياتهم. وبالرغم من صدور قانون يخص نسب الطفل لأمه في حالة مجهولية الأب عام 2015، إلا أن الأمر لا يعالج الوصم المجتمعي. وكذلك الوضع الاقتصادي للطفل.

فيما لفتت عيداروس إلى تناقض المنظومة ما بين قانوني الطفل والأحوال الشخصية. ففي حين تنص قوانين الطفل على حماية حقوقه بما فيها النسب، لا يلزم قانون الأحوال الشخصية الأباء بإجراء تحليل البصمة الوراثية. ومن ثم التلاعب بمسألة النسب. بما في ذلك من آثار اجتماعية كارثية على الأبناء.

قضايا النسب.. رحلة قضائية تستغرق سنوات

من جانبها، أشارت الباحثة في شؤون المرأة وعضو مؤسسة المرأة الجديدة لمياء لطفي إلى أن قضايا إثبات النسب بالمحاكم لا تقتصر فقط على حالات الزنا والاغتصاب. وأضافت أن بعض الآباء ممن يخضعون لمنظومة الزواج الرسمي، يرفضون تسجيل أطفالهم، بهدف التعنت، والاحتفاظ بميزة منحها لهم القانون. إذ تقضي هذه الميزة بأن الأب أو أحد أشقائه في حال غيابه، يحق لهم تسجيل الطفل. وفي حال رفضه يبقى الولد مجهول النسب حتى تبت المحاكم في الأمر. وهو إجراء طويل ومعقد في تنظيمه وزمنه. كما أنه يؤثر بشكل مباشر على مصلحة الطفل.

وضربت لطفي مثالاً على ذلك بالواقعة الشهيرة، حين تجرأ أب على تجريد طفلته من الملابس في الشارع وتعنيفها. ذلك نتيجة رفضه تسجيل طفلته بشكل رسمي، واتهام زوجته بالزنا. مستغلاً تلك القاعدة القانونية.

أما في حال الزواج العرفي أو غياب الأوراق لأي سبب، فلا يلزم القانون الأباء بإجراء تحليل الحمض النووي، رغم دقته. ولا يزال القضاة يلجأون إلى حيلة إثبات صحة الزواج. وهو الأمر الذي يتطلب سنوات، وعشرات من الأدلة، فيما يقبع الطفل منتظرًا مصيره.

أوردت لمياء لطفي على ذلك المثالين الشهيرين اللذين كانا ضمن قضايا المؤسسة الحقوقية التابعة لها؛ قضية والدة الطفلة ديالا، والأب عادل السيوي. وكذلك قضية هند الحناوي وأحمد الفيشاوي. حينما سارت القضية في محاولة إثبات الزواج أولاً لإثبات النسب لاحقًا. استغرق الأمر سنوات، وثبت زواج هند مع فساد أحد شروطه. إذ لم يوقع عليه سوى شاهد واحد. في حين لم يتم إثبات دعوى الزواج في حالة والدة الطفلة ديالا، وإن أُخذ بشبهة الزواج. لعدم وجود ورقة تثبت الزواج من الأصل. إلا أن القاضي وبحسب سلطته التقديرية قد أرجع نسب البنتين لوالديهما.

أما في حال الزنا والاغتصاب، فالقانون يأخذ بالفتوى الشرعية “ماء الزنا هدر”. ذلك رغم الاختلاف حولها. كما أنها الأكثر تشددًا، ولا تصب في مصلحة الأطفال والمجتمع كافة، وفق تصريحات لمياء لطفي.

قضايا النسب تخضع لتقدير هيئة المحكمة

لا توجد إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة العدل تخص قضايا النسب، منذ العام 2005. إلا أن المحاكم تعج بالكثير من القضايا، التي يطول أمدها، في ظل تبعات نفسية واجتماعية خطيرة على الأطفال.

ولفتت عضو مؤسسة المرأة الجديدة إلى أن قضايا الأحوال الشخصية، وإثبات النسب بشكل خاص، تخضع في كثير من أحكامها لتقدير هيئة المحكمة. ذلك في ظل غياب مواد قانونية حاسمة. وهو سلاح ذو حدين، يحيد عن كفة المرأة غالبًا، ويميل نحو الثقافة المحافظة للمجتمع، التي تدفع القضاة إلى تحري الزواج، بدلاً من إثبات النسب بالطرق العلمية.

وطالبت لطفي بالعمل على اختصار الإجراءات، وتقصير زمنها، بما فيه نفع للطفل، ونبهت إلى ضرورة الاستعانة بالوسائل الحديثة مثل تحليل الحمض النووي، لإثبات النسب، بدلاً من فحص صحة الزواج. كما شددت على ضرورة منح الأم الحق في استخراج شهادة ميلاد لطفلها. كما هو الحال بالنسبة للرجل، وفي إطار المساواة بين الجنسين.

المصلحة أولاً

في كتاب شيخ الأصوليين الراحل دكتور مصطفى شلبي “تعديل الأحكام” يرد “أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، طالما حَكموا المصلحة العامة في أبواب النصوص، وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، حتى وإن كان في مقابلة النصوص”.

ثم يقول: “والحمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركًا للنص، بالرأي في الواقع، إنما هو ترك النص بالنص، كما أن تحديد المصلحة التي يُعمل بها في كل موضع يحتاج إلى ملكة فقهية ناضجة، واطلاع واسع على مسالك الشريعة، وهو ما ليس في مقدور كل من يدعي المعرفة بالفقه”. و”قد كان العلماء المتقدمون لا يفتون في منع مسألة حتى ينظروا إلى حاجة الناس إليها، فإن رأوا مسيس الحاجة إليها، أو عموم المعاملة، رخصوا، وأباحوا ماضيقوا”.

ثم أخذ الدكتور الراحل يسرد مسالب وقع فيها الفقهاء المتأخرون، حين لم يعتبروا المصالح أصلاً في باب المعاملات. ومنها: إقفال باب الرقي للأمة، ونبذ كثير من المسلمين أحكام المعاملات الشرعية، أو التحايل بالمحافظة على الظاهر وترك المقصود.

ويقرر شلبي أن المعول عليه في معاملاتنا أولاً، وأخيرًا هو مصالح الناس كما فهمه سلف الأمة، وعملوا به، ووافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين كان يلجأ للسياسة والاسترشاد فيما يخص معاملات المسلمين. فضلاً عن أن النصوص الواردة في المعاملات يغلب عليها الكليات، فيما فوضت جزئياتها إلى أولي الأمر.