في تصنيف مؤشر «نيتشر» لعام 2019. حلَّت سبع من المؤسسات البحثية العلمية المصرية ضمن أفضل عشر مؤسسات في المنطقة. وكانت جامعة عين شمس في صدارتها (بمقياسٍ كسري بلغ 2.16). بينما احتلت المركز الثامن على مستوى أفريقيا في مجال العلوم الفيزيائية. وكذلك في مجال الكيمياء. متخلفةً بفارقٍ طفيف عن جامعة المنستير التونسية، التي احتلت المركز السابع. وبحسب التقارير الرسمية وصل حجم الإنفاق على البحث العلمي بين عامي (2014 – 2017) من 11.88 مليار جنيه إلى 17.56 مليار جنيه بمعدل زيادة قدرها 47%. كما تمت زيادة أعداد الباحثين في القطاعات المختلفة من 110.7 ألف باحث إلى 127.7 ألفًا. ذلك بمعدل زيادة قدرها 15.3%. إلا أنه رغم ذلك لا يزال الباحثون والأكاديميون يعانون من عوائق عدة تحيل بينهم وبين البحث العلمي، قد تنهي رحلتهم في بعض الأحيان داخل قفص اتهام.

التبرع الإلزامي مقابل السفر.. أزمة جامعة القاهرة

في 2015، أقر مجلس جامعة القاهرة، في جلسته المٌنعقدة بتاريخ 27 يوليو، إلزام أعضاء هيئة التدريس (الأساتذة المتفرغين – أعضاء الهيئة المعاونة بالجامعة) بدفع مبلغ “عشرة الآف جنيه”. ذلك كتبرع ممن يرغب في السفر تحت أي مسمى (إعارات – إجازة مرافقة – إجازة دون مرتب – انتداب كامل). وذلك من السنة الأولى حتى السنة العاشرة. ودفع مبلغ “عشرين ألف جنيه” من السنة الحادية عشر فأكثر. ويكون ذلك المبلغ لصالح صندوق تطوير الدراسات العليا ودعم البحوث العلمية بجامعة القاهرة.

هذا القرار لاقى رفضًا من أعضاء هيئة التدريس لعدة أسباب، أهمها أن الجامعة لم توضح السند القانوني لفرضها تحصيل هذه المبالغ. فضلاً عن ما يمثله القرار من تكبيل للحقوق والحريات الأكاديمية. إذ أنه يعيق أعضاء هيئة التدريس عن القيام بالمهام الأكاديمية والعلمية في الخارج أو الداخل.

التبرع الإلزامي أمام القضاء

في مارس من العام 2016، أقامت مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري عن أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة. حملت الدعوى رقم 18906 لسنة 70 قضائية، وطعنت على قرار التبراعات الإلزامية لمجلس الجامعة. بينما طالبت بالإفصاح عن السند القانوني لتحصيل هذه المبالغ وأوجه إنفاقها. وأيضًا استرداد المبالغ التي دفعها الطاعن سابقًا للسماح له بالسفر، وقيمتها 25 ألف جنيه.

بحسب شهادة عضو هيئة التدريس -الطاعن على القرار- فإنه قد تقدم بالتماس لرئيس الجامعة لرد المبالغ التي اضطر لدفعها خلال طلبه تجديد الإجازة لظروف سفره، والتي بدونها اعتُبر منقطعًا عن العمل. إلا أنه لم يتلق رد.

استندت المؤسسة أيضًا -في دعواها- إلى أن قرار فرض التبرعات الإلزامي من شأنه تكبيل الحقوق والحريات الأكاديمية. كما أنه يتعارض مع الحقوق والحريات الدستورية الأصيلة مثل الحق في العمل والتنقل. وأن الإدارة بقرارها قد أساءت استخدام السلطة التقديرية الممنوحة لها بالصيغة الإلزامية للقرار. بما يتنافى مع كونها “تبرعات” تُعطى اختياريًا وبشكل تطوعي للمساعدة دون إجبار.

أربع سنوات طُرحت خلالها هذه الأزمة للتقاضي، حتى قررت الدائرة الخامسة عشر بمحكمة القضاء الإداري في أواخر فبراير الماضي حجز الدعوى للحُكم. وذلك في جلسة 24 أبريل المقبل.

الجامعة حلت مشكلة إدارية بإجراء مثير للجدل

الباحث في برنامج الحريات الأكاديمية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير محمود ناجي لديه تفسير لقرار جامعة القاهرة الذي صدر في عهد رئيسها السابق جابر نصار. يقول لـ”مصر 360″، إن هذا القرار وصيغته الإلزامية في فرض التبرعات لجأت إليه إدارة الجامعة من منطلق محاولة حل أزمة إدارية تواجهها. في ظل سفر عدد كبير من الأساتذة وحدوث عجز في كثير من الأقسام العلمية. إلا أن هذا الحل خالف القانون المنظم للجامعات تمامًا، على حد قوله.

أزمة القرار رقم 220

في ورقة بحثية صدرت في العام 2019، أشارت مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى نوع آخر من التضييق يتعرض له الباحثون والأكاديميون في مصر. فلفتت إلى خطاب يحمل وصف “سري جدًا” صدر عن مكتب الدكتور محمد خليل الدجوي وزير التعليم العالي في 17 أبريل 2014، وجه بعدم جواز عقد أو استضافة أي مؤتمر دولي في مصر. ذلك إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الخارجية والتنسيق معها في كل ما يتعلق بالنواحي الإدارية والتنظيمية.

استند الخطاب لقرار رئيس الوزراء رقم 220 لسنة 1986. وهو قرار يخاطب بالأساس الجهات والوزارات الحكومية. بينما لم يتطرق إلى الجامعات التي يكفل الدستور المصري استقلالها. لكنه تم تعميمه على الجامعات المصرية، أو هكذا بدا من تصرفات إدارات مجالسها. ففي 30 يونيو 2015، طبقت جامعتي دمنهور وطنطا منع توقيع أي بروتوكولات واتفاقيات مع أي جامعة أجنبية داخل كليات الجامعة. إلا بعد الحصول على موافقات من وزارة الخارجية والجهات الرقابية والأمنية.

ينص الدستور المصري في المادة (21) على: “تكفل الدولة استقلال الجامعات”. وهو ما يضمن للجامعة استقلالها كمؤسسة تعليمية مستقلة في إدارة شؤونها الداخلية. دون تدخل أو ضغوط من الدولة أو الأجهزة الأمنية، وضمان انفراد إدارات الجامعات بالقرارات التي تنظم العمل الأكاديمي داخلها.

أيضًا، أكدت المادة (23) من الدستور المصري على “توفير حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته”. وهو ما يستوجب عدم التدخل في العمل الأكاديمي لأعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية. سواء داخل مصر أو في مهمات علمية خارجها.

منع من السفر أو تقييد للبحث

في عام 2015، توجه الدكتور نبيل لبيب يوسف أستاذ متفرغ بكلية العلوم بجامعة القاهرة، إلى إدارة الإشراف المشترك التابعة لوزارة التعليم العالي، لتسليم موافقة جامعة القاهرة على سفره في مهمة علمية لمتابعة اﻹشراف على رسالة دكتوراة لطالب مصري في المجر ممولة من قبل وزارة التعليم العالي. إلا أنه فوجئ باشتراط الحصول على موافقة الجهات الأمنية قبل السفر. وبدون الموافقة لا يمكن للوزارة قبول سفره. ذلك “بناءً على تعليمات شفهية من السيد عبد الخالق وزير التعليم العالي آنذاك”، كما يوضح أستاذ كلية العلوم.

تكرر الأمر مع المدرس بكلية الهندسة جامعة عين شمس، محمد حسن سليمان. والذي أشار إلى أنه لم يتسلم الموافقة النهائية على سفره في منحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. رغم استيفاء كافة المتطلبات. حتى تم إلغاء المنحة، وتم منعه من حضور واحد من أكبر مؤتمر في مجال القوى الكهربية بأمريكا الشمالية (IEEE General meeting)، وزيارة أكبر معامل الطاقة المتجددة في الولايات المتحدة (مدينة دنفر). في حين حصلت خلود صابر المدرس المساعد بقسم علم النفس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، على إجازة دراسية بمرتب للعام الأول من دراسة الدكتوراة في جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا، من أكتوبر 2015 حتى 30 سبتمبر 2016، مع مساهمة الجامعة في نفقات السفر. لكنها بعد بدء الدراسة  فوجئت الباحثة بخطاب مرسل من جامعة القاهرة عبر البريد الإلكتروني بإنهاء منحتها الدراسية ومطالبتها بالعودة إلى مصر في 11 ديسمبر 2015.

أقامت مؤسسة حرية الفكر والتعبير طعنًا على القرار الصادر بحق الباحثة أمام القضاء الإداري في 4 فبراير 2016. حينها، تراجعت جامعة القاهرة بعد ضغوط من المجتمع الأكاديمي على قرارها. وسمحت لخلود صابر بالاستمرار في منحتها لدراسة الدكتوراة. قبل أن يتكرر الأمر مجددًا في أمر تجديد إجازة الباحثة للعام 2017/2018. ولم يحسم الأمر إلا ما قضت المحكمة به في 2019، بانتهاء الخصومة في الدعوى وإلزام الجامعة بالمصروفات، وفقًا لما أشارت إلية مؤسسة حرية الفكر والتعبير. 

الموافقة تُعيق رحلة البحث العلمي

عن الخطوات التي بات الأكاديميون مجبرين عليها حاليًا في رحلة طلبهم الموافقة على سفرهم للبحث العلمي، يقول محمود ناجي: “قديمًا كان الأكاديميون يحصلون على الموافقة من القسم المختص، ثم العميد بالكلية يرسل للجامعة وتحدث الموافقة، وقليلاً ما كان يتم الرفض. على عكس ما يحدث الآن، إذ يطلب من الأكاديميين استيفاء استمارة بها كل البيانات عن السفر أو المنحة والمؤتمر، يتم إرسالها إلى إدارة الإشراف المشترك التابعة لوزارة التعليم العالي، للحصول على موافقة أمنية”.

هذه الموافقة الأمنية يراها ناجي ذات أبعاد مختلفة لا تتعلق بالسفر فقط، وإنما بـ”التضييق على المؤتمرات العلمية والتدريبات والندوات والمنح التعليمية وكل مشاريع التعاون البحثية في الجامعات المختلفة، والسيطرة على أعضاء هيئة التدريس في مصر، لأن كل المجالات يمكن أن تحول إلى سياسية حتى وأن كان مجال علمي، حتى  الأجازات الترفيهية للأعضاء يجب أن تحصل على الموافقة الأمنية”، على حد قوله.

وفق ناجي، هذا الأمر يعيق حركة التواصل بين أعضاء هيئة التدريس مع الجامعات ومراكز الأبحاث الأجنبية. وهو يلقي بظلال سلبية على تطور العمل الأكاديمي في الجامعات المصرية، وقدرة أعضاء هيئة التدريس والطلاب على البحث والإبداع والتعلم.

تقول الدكتورة ليلى سويف الأستاذة الجامعية والناشطة السياسية بمجال حقوق الإنسان إن هذه الإجراءات أثرت بشكل كبير جدًا على سمعة الجامعات المصرية والأكاديمية والتعاون الدولي حتى المستوى الأكاديمي نفسه. إذا ما أخذنا في الاعتبار أهمية التعاون والتفاعل بين الدكاترة والباحثين حتى يظلوا ملمين بالتطور العلمي.

باحثون في قفص الاتهام

التضييق الذي يتعرض له الأكاديميون في مصر لم يتوقف عند الإجراءات الإدارية التي تعيق رحلاتهم العلمية وإنما تعدت ذلك. فعلى سبيل المثال ألقي القبض على وليد سالم الشوبكي، باحث دكتوراة بجامعة واشنطن، في 23 مايو 2018. ذلك عقب لقاء جمعه بأستاذ فلسفة القانون محمد نور فرحات. حيث تحدثا عن السياق الثقافي لنشأة القضاء المصري الحديث، حسبما أعلن فرحات وقتها عبر منشور على صفحته بـ “فيسبوك”. تلقى فرحات -حينها- اتصال من شقيق الشوبكي يخبره باختفائه. عقب ذلك بأربعة أيام أعلن المحامي مختار منير عن ظهور الشوبكي في نيابة أمن الدولة، وضمّه للقضية 441 لسنة 2018. وقد جدّد حبسه على ذمة هذه القضية أكثر من مرة. قبل إخلاء سبيله في 11 ديسمبر 2018. ذلك مع سحب جواز سفره ومنعه من السفر مرة أخرى.

الشوبكي يعيش في واشنطن منذ 12 عامًا ويعمل بالجامعة هناك. وقد قدم لمصر من أجل رسالة دكتوراة عن القضاة. حيث أجرى مقابلات مع عدد من القضاة المصريين وبعض القانونيين المهتمين بالعمل العام.

كما الشوبكي ألقي القبض على الباحث أحمد سمير سنطاوي (29 عامًا)، طالب الماجستير في الجامعة المركزية الأوروبية CEU بالنمسا، في أوائل العام الجاري. ذلك أثناء عطلته الدراسية بمصر. والتي كان خصصها لزيارة أسرته والاستجمام.

بدأ سنطاوي دراسته في الجامعة المركزية الأوروبية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية في سبتمبر 2019. وهي جامعة مملوكة للملياردير الأمريكي جورج سورس، مؤسس منظمة المجتمع المفتوح “open society”. وهي شبكة تدعم منظمات المجتمع المدني والحقوق والحريات.

في حين ألقي القبض على الباحث باتريك جورج زكي طالب الماجستير في جامعة بولونيا بإيطاليا في مطار القاهرة. ذلك أثناء عودته لقضاء إجازة دراسية في فبراير 2020.

سياسة لا تهتم بالتعليم

يقول الاستاذ الجامعي والسياسي الدكتور أحمد دراج إن البحث العلمي له متطلبات وعوامل لابد من توافرها لنجاحه. هذه العوامل تضم الدعم المالي من المؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وتربية الباحث العلمي ورعايته كما يحدث في مختلف الدول. والأهم من ذلك كله الحرية والأجواء العلمية المتاحة للبحث العلمي، والتي إن لم تتوافر لن يكون هناك بيئة بحثية صحية.

يضيف دراج أن الحريات الأكاديمية يندرج تحتها حرية البحث العلمي والتعامل مع المؤسسات العلمية الدولية ذهابًا وإيابًا. بينما يلفت إلى أن أكثر فترة شهدت فيها مصر ازدهارًا في البحث العلمي كانت في الفترة ما قبل 1952. وان ما حدث من طفرات بعد ذلك هو استثناء فردي وليس نجاح منظومة.

التضيّق على الباحثين -بحسب دراج- هو ما جعلنا نرى الباحثين المصريين في الخارج ناجحين أكثر من نظرائهم بالداخل. ذلك لأنهم وضعوا في منظومة بحثية متكاملة لا توجد بها خطوط حمراء.

هذا التضييق الحاصل حاليًا يراه أستاذ الجيولوجيا الدكتور يحيى القزاز ليس واقعًا فقط على البحث العلمي والمشتغلين به، وإنما هو “جزء عام من التضييق على الحريات في مصر، وانعكاس لسياسة حكم لا تهتم بالتعليم”، على حد قوله.