وضعت شيرين زكريا طفلها الأول وسط عزلة إجبارية، فرضتها الجائحة وأقرت معها إجراءات مشددة بعدم مغادرة المنزل ومنع الزيارات العائلية. قضت “شيرين” أول سنوات الأمومة في حضرة الوباء، والخوف من أن تتعرض ورضيعها لخطر الإصابة، راضيةً بالاكتئاب ثمنًا للحماية.

أثناء الحمل، لم تراود شيرين تلك التخوفات “كنت حامل واحنا في الكورونا، ووقتها مكنتش بفكر غير في الولادة، ومخاوفي منها، مفكرتش أبدًا في اللي هيحصل بعدها”. مع الشهور الأخيرة في الحمل، ازدادت مخاوف “شيرين” من الولادة أثناء الجائحة. بدأت غمار رحلة البحث عن مستشفى يمكن أن تضع طفلها به، دون خوف من العدوى.

بحسب استطلاع للرأي أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) خلال صيف 2020 شمل 77 دولة. فإن 68% من الدول أبلغت عن بعض الاضطرابات على الأقل في الفحوصات الصحية للأطفال وخدمات التحصين. وبالإضافة إلى ذلك، أبلغت 63% من الدول عن حدوث اضطرابات في فحوصات ما قبل الولادة و59% في رعاية ما بعد الولادة.

وقد استند أحدث مسح لمنظمة الصحة العالمية إلى إجابات من 105 من البلدان. وكشف عن أن 52% من الدول أبلغت عن اضطرابات في الخدمات الصحية للأطفال المرضى. و51% في الخدمات المتعلقة بإدارة سوء التغذية.

وفقًا لهذه المسوحات المشتركة للمنظمتين، فإن أحد أكثر الأسباب التي تم ذكرها لوجود اضطرابات صحية هي: تجنب الآباء زيارة المراكز الصحية خوفًا من العدوى – القيود المفروضة على المواصلات – تعليق أو وقف الخدمات وإغلاق المرافق – وجود عدد أقل من العاملين الصحيين بسبب نقلهم لأماكن أخرى أو الخوف من العدوى بسبب النقص في معدات الحماية الشخصية مثل الأقنعة والقفازات.

ولادة احترازية في حضرة الجائحة

“لقينا مستشفى كذا حد شكر لنا في نضافته، وإنه عنده مجموعة من الإجراءات الاحترازية في الوباء لحماية الحوامل والأطفال”. اطمأنت “شيرين” أخيرًا لمستقر وضع جنينها وبدأت إجراءات التعاقد لإجراء عملية الوضع. الإجراءات الاحترازية -آنذاك- شملت أن يقتصر الحضور على “شيرين” وزوجها بينما رفض الطبيب مرافقة الزوج داخل غرفة العمليات. كان هذا مخالفًا لما اتفقت عليه “شيرين” مع المستشفى، لكنها إجراءات فرضتها ظروف كورونا.

وضعت “شيرين” طفلها الأول أخيرًا، ثم غادرت المستشفى بعد نصيحة من الطبيب بعدم البقاء في المستشفى أو خارج المنزل كثيرًا، لتبدأ رحلة العزل المنزلي مع الجنين.

عادت الأم بطفلها إلى المنزل. استقبلتها والدتها التي ظلت مقيمة معها 7 أيام عقب الولادة، ثم اضطرت العودة لمنزلها هي الأخرى. “ماما مشيت بعد السبوع وراحت البيت، وطلبت مني في الشهور الأولي مخرجش خالص علشان البيبي صغير ومناعته قليلة”. هنا، بدأت مشاعر الوحدة تتسرب إلى “شيرين”. تقول: “أختى لما ولدت من كام سنة كنا بنروح لها كل يوم، وماما فضلت قاعدة معاها شهر كامل، لكن في حالتي أنا مع الوباء حسيت إني في عزلة مش عارفة أطلع منها”.

الإجراءات الاحترازية التي فرضت بكافة الأماكن جعلت الخروج أيضًا صعب مع أماكن محددة يمكن الذهاب إليها بسبب انتشار الوباء. وهو ما ساعد في زيادة عزلة “شيرين” ومن هن في مثل حالتها.

عزلة إجبارية

كل خطط “شيرين” لفترة نقاهة ما بعد الولادة انتهت في ظل كورونا. “قبل الولادة كنت أنا وجوزي بنتفق إننا ممكن نسيب الولد عند ماما، ونخرج نروح سينما، نسافر يوم ولا 2، لكن ده محصلش بسبب الوباء. حتى مبقتش عارفة أروح لماما هي اللي جت لي في الـ6 شهور الأولى 3 مرات بالعدد بعد السبوع، وده لأنها كبيرة، واحنا كمان بنخاف عليها من الخروج أو لقدر الله الإصابة بعدوى”.

مرحلة الاكتئاب التي تعرضت لها “شيرين” عانت منها أروى محمد أيضًا. بعد أن وضعت ابنتها قبل 8 أشهر. “من وقت الولادة، ومن قبلها وأنا عندي مخاوف رهيبة من الوباء، وبعد الولادة المخاوف اتحولت لاكتئاب مستمر معايا”.

“أروى” لا تغادر منزلها ولا تلتقي أحدًا من أصدقائها أو أفراد عائلتها. وهي ترى في الجائحة سببًا في كل معاناتها وتوقف حياتها عند محطة واحدة مملة. “قبل الولادة قريت عن اكتئاب ما بعد الولادة، وكنت متفهمة جدًا الأمر، ومتوقعة حدوثه، لكن أنا بقيت مصابة باكتئاب ما بعد الحمل، واكتئاب الجائحة.. الاتنين سوا”.

في مايو الماضي، قالت منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، إنهما رصدا “انتشارًا كبيرًا لأمراض الاضطراب العقلي”. ذلك بسبب جائحة كورونا. وقال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جبريسوس، في بيان صحفي، إن “أثر الوباء على الصحة النفسية للناس يثير القلق بالفعل”. وأضاف أن “العزلة الاجتماعية، والخوف من العدوى، وفقدان أفراد الأسرة يضاعفها الكرب الناجم عن فقدان الدخل والعمل في كثير من الأحيان”.

وأوضح جبريسوس، أنه “من الواضح الآن تمامًا أنه يجب معالجة احتياجات الصحة العقلية كعنصر أساسي في استجابتنا لوباء فيروس كورونا والتعافي منه”. وأضاف: “هذه مسؤولية جماعية للحكومات والمجتمع المدني، بدعم من منظومة الأمم المتحدة بأسرها. الفشل في أخذ الرفاهية العاطفية للناس على محمل الجد سيؤدي إلى تكاليف اجتماعية واقتصادية طويلة الأجل للمجتمع”.

الحضانة.. لم يعد هذا المكان آمنًا في ظل الجائحة

الحضانة كانت أمرًا يُسهّل على الأمهات مواصلة الحياة بشكل مختلف، كما كانت أروى وشيرين تعتقدان. لكن الوضع اختلف في ظل الجائحة. أغلقت الحضانات لفترة كبيرة بسبب إجراءات مواجهة العدوى. ومع فتحها للعمل مجددًا، عادت بضوابط وإجراءات احترازية. بينما بقيت مخاوف الأمهات من خروج الأطفال يوميًا في ظل الوضع الحالي كما هي. خاصة مع الحديث عالميًا عن الموجة الثانية الأكثر انتشارًا الفيروس.

أصدر كتاب “Born in Lockdown – وُلد أثناء الإغلاق” كمشروع كتابة أطلقته الروائية، إميليا هول، من مدينة بريستول الإنجليزية. تقول -في كتابها- إن وباء كورونا زاد من صعوبة مرحلة هي بالأساس صعبة على الحوامل. هذا أمر جعل الحاجة إلى التعبير عن الذات أكثر أهمية من أي وقت مضى.

طلبت الكاتبة من الأمهات الكتابة على شكل فقرات. على أن تحوي كل فقرة مجموعة قليلة من الجمل أو ما يعادل 50 كلمة. ذلك كي يكون بالإمكان كتابتها أثناء الإرضاع الليلي أو تسجيلها كمذكرة صوتية.

جمع الكتاب قصص 277 امرأة، كلهن أصبحن أمهات جديدات عام 2020 وبات يجمعهن كتاب واحد، تحدثن فيه عن عزلتهن، وعن عدم اليقين بخصوص ما سيحدث. وأيضًا الضغوط التي تسبب بها الوباء على صحتهن العقلية. رأى البعض كذلك في الكتاب فرصة للعثور على جوانب إيجابية بهذه التجربة الجماعية الاستثنائية.

الجانب الإيجابي

رغم أن الولادة في الجائحة والأمومة في ظل انتشار الوباء أظهرت جوانب سلبية للأمهات. لكن يبدو أن الأمر له جوانب إيجابية أيضًا. دينا عوض، التي وضعت طفلها منذ أربعة أشهر، واحدة ممن يرون في التجربة فرصة لقدر كبير من العلاقة القوية بينها وبين طفلها.

تخوفات دينا كلها كانت في مرحلة ما قبل الولادة وانتشار الوباء، لكنها تجاوزت ذلك باستراجية خاصة. “في الأول الأمر كان صعب، وطبعًا ممنوع زيارات، ممنوع سبوع علشان التجمعات، كل العلاقات بقت تليفونات بين الأهل والأصحاب وبس، ومع ذلك محستش إن الموضوع أزمة، حسيت إنه ممكن يكون بداية لحياة بيني وبين ابني، أفهمه وأعرفه وأربيه كويس، وهو كمان يعرفني ويقرب مني كويس”.

لجأت دينا للكتابة وتدوين ما تمر به من يوميات في مفكرة لها. “حسيت إن الفترة دي محتاجة تتدون علشان بعد انتهاء الجائحة ممكن نسترجع تفاصيلها، كمان تفاصيل ومراحل نمو ابني بحب أدون عنه كل يوم، وهو ده الإنجاز اللي حاسه إنه ممكن يعوض أي ألم أو عزلة ممكن أحسها”.

تتمنى الأمهات الثلاث انتهاء الوباء والعودة للحياة بشكل طبيعي دون إجراءات احترازية أو مخاوف من انتشار المرض بين الكبار أو الصغار. كلهن يحلمن بسطر النهاية في هذه التجربة التي اختبرنها للمرة الأولى وتركت في ذاكرتهن أثرًا كبيرًا.