الإرهاب، التطرّف، التشدّد، الراديكالية، الغلو، التكفير، إلخ. تعدّدت التصنيفات والمسمّى واحد. لكنه ليس محدّدًا بما يكفي، أو كما ينبغي، أو ليس بعد.

قبل أن يتخذ شكل أحداث إجرامية تنفجر هنا أو هناك، وتخلف خسائر مادية وضحايا في الأرواح، وتستقطب من ثمة أضواء مختلف وسائل الإعلام لأجل التغطية والتحليل، أو لمجرد صناعة الفرجة، أو لغاية الدعاية في بعض الأحيان، فإن الإرهاب عبارة عن روح تسري بصمت في أوصال البنيات الثقافية السائدة، وقيم متوارثة ومتداولة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وألغام مبثوثة في ثنايا الرؤى السائدة والآراء الشائعة، وهذا مما تدرسه العلوم الإنسانية بمختلف مجالاتها ومناهجها الأكاديمية. غير أن المنابع الأولى للسلوك الإرهابي -وهذه هي إضافتنا في الموضوع- تكمن في الدوافع الغريزية الضاربة بجذورها في أعماق الوجدان، والتي قد تنميها الثقافة السائدة أو تشذبها، قد تؤججها أو تلجمها، قد تهيجها أو تهذبها.

هنا تكمن مسؤولية البنى الثقافية السائدة في المجتمع والدولة، لكن لأجل تجفيف الينابيع -كما هو مطلوب- يتوجب الذهاب إلى الجذور الكامنة في أعماق الوجدان. حيث توجد المنابع الأولى لأمراض الروح والوجدان والحضارة والإنسان، يتوجب النظر إلى الكيفية التي تشتغل بها الغرائز داخل الطبقات الدنيا من الكينونة، يتوجب القيام بحفريات في أعماق الوجدان، وذلك باستثمار حمولة اللغة والأحلام والأساطير والفن وغيرها من الرموز والعلامات. لكني أضيف إلى ذلك كله الحاجة الملحة إلى تحليل الإشاعات والأكاذيب والفبركات والأخبار الزائفة، طالما الإنسان يكشف عن شخصيته في الكذب أكثر ما يكشف عنها في الصدق.

وهذا ادعائي في هذا الباب:

يجب الإصغاء إلى كذب الناس أكثر من الإصغاء إلى صدقهم؛ ذلك أن الأكاذيب والأخبار الزائفة تعري أعماق النفس البشرية، وتكشف ما فيها من عقد وهواجس ومكبوتات، في المقابل قد لا يكشف الصدق سوى عن الصورة التي نريدها، أو ندركها، أو نعتقد بأنها تمثل الحقيقة.

يتعلق الأمر بمجال منسي يستحق الدراسة والتحليل، ويحتاج إلى آليات غير نمطية لأجل التنقيب، والكشف، والحفر، ولغاية تجفيف الينابيع في النهاية.

مقصود القول إن الخطاب الذي انتزع مشروعية الكلام باسم الإسلام، بفعل منطق القوة والغلبة، أو لمجرد الغفلة والاستغفال، واستبد بعقول الناس لقرون طويلة، قد ألحق ضررًا بالغًا بغرائز الإنسان المسلم، والذي صار حاله مشوها بفعل سطوة مشاعر الخوف التي شلت قدرته على التفكير، ومشاعر الحزن التي شلت قدرته على الحياة، ومشاعر الغيرة التي شلت قدرته على العيش المشترك.

الأدهى من ذلك كله هو النظر إلى منظومة القيم بالمقلوب، بحيث يظنّ الناس بأن بعض الغرائز البدائية من قبيل الخوف والحزن والغيرة والغضب، تمثل قيمًا أخلاقية سامية للإنسان المؤمن. بل هي أساس الفضيلة وركيزة الدين! ولقد انتهى هذا القلب القيمي إلى قلب ديننا الحنيف، الذي تبدّل من حال إلى حال، وتحول من رحمة للعالمين ومنبع للسكينة والطمأنينة والسلام الروحي، إلى مصدر للشقاء النفسي، والتوتر الوجودي، والعنف الاجتماعي بأشكاله كافة.

غير أن تعطيل الخطاب بفعل سلطة القانون أم بفعول الإصلاح الديني، حتى وإن كان ضروريًا بلا خلاف، إلا أنه لا يكفي لأجل إصلاح ما فسد من غرائز كامنة في وجدان الإنسان المسلم، وبالأحرى -هنا تكمن مطارحتنا الأساسية- يجب أن يكون الإصلاح الديني جزءًا من إصلاح الغرائز.

إن قرونًا طويلة من الدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور على سكان “دار الحرب”، بما في ذلك الدعاء على أطفالهم باليتم، ونسائهم بالترمل، ويا للهول !.. وإن قرونا طويلة من العمل الدؤوب على تنمية مشاعر الخوف والغيرة والغضب والثأر، وترسيخ قيم الطاعة والقوامة والتقية والكتمان، وتلقين مفاهيم النجاسة والولاء والبراء والعورة ودار الحرب ودار الإسلام والفرقة الناجية، وذلك للأطفال، والمتعلمين، وعموم المصلين.. وإن قرونا طويلة من الإصرار على ربط الأرزاق بالغيب بدل العمل، وإهمال الرضا عن الذات مقابل رضا الآباء أو السلف أو الشيوخ، وتبخيس قيم الحياة والمحبة والإبداع، والانخراط في حرب طاحنة على الفنون الجميلة باعتبارها شرك، وعلى المنطق باعتباره زندقة، وعلى الإبداع باعتباره بدعة، وعلى الحواس بدعوى أنها تزني، إلخ.. وإن قرونا طويلة على ذلك النحو لابد وأن تخلف تشوهات بليغة في غرائز الإنسان المسلم، وفي النهاية كان طبيعيًا أن تقع حضارتنا في أتون مرض عضال، هو مرض سطوة غرائز الانحطاط.

مؤكد أن كل الحضارات قد تمرض وتشفى، ولكل حضارة أمراضها تبعًا لبنية الخطاب السائد فيها، لا شك في ذلك، كذلك هو حال حضارتنا التي تعاني من مرض عضال، وانطلاقًا من تشخيص الحالة وتحديد الحاجيات العلاجية يمكننا أن ندشن مشروع إصلاح الثقافة، إصلاح العقل، إصلاح الدين، وإصلاح الإنسان، لكن أثناء ذلك كله، وخلال ذلك كله، وقبل ذلك كله، يجب أن لا نغفل عن الجذور.

ما الذي أقصده؟

هناك غرائز بدائية استطاعت أن تتغول تحت أقنعة الأخلاق والفضيلة والتقوى، من قبيل غرائز الخوف والغيرة والغضب والشعور بالذنب وما إلى ذلك. غير أن السلوك المدني الحسن لا يمكن أن يقوم على أساس الخوف والغيرة والغضب والثأر وغيرها من غرائز الهمجية والتوحش، والتي تحتاج في الأساس إلى طرائق فنية للتفريغ، من قبيل بعض الألعاب الرياضة، وبعض الممارسات الجنسانية، وبعض الفنون الجميلة، وتحتاج أيضًا إلى القدرة على التحكم في الذات (الحكمة)، بل يقوم السلوك المدني الحسن على أساس الحس الإنساني السليم، والفطرة السليمة، وبالجملة نقول، العقل السليم.

بيد أن العقل لا يكون سليمًا في كل الأحوال؛ فقد تفسده التنشئة والسلطة والجماعة والإيديولوجية.

إن الاتجاهات الإيديولوجية القائمة على عقدة الذنب، والخوف من فقدان الفحولة، ووسواس المؤامرة، والوصاية على الإناث، ومسايرة اتجاهات القطيع، وما إلى ذلك من غرائز بدائية تحيل إلى عصور الكهوف والأدغال، لهي تعبيرات سياسية عن اختلالات غريزية كامنة قي أعماق الكينونة، انتهت إلى تضخم غرائز الانحطاط ودوافع الموت، مقابل تدهور غرائز الارتقاء ودوافع الحياة.

ما المطلوب؟

لأجل استعادة التوازن الضروري للنمو والحياة، فإن المطلوب هو إعادة قلب القيم من جديد، والعمل على نقل مركز الثقل من غرائز الخوف والغضب والغيرة والموت، إلى غرائز الحب والإبداع والفرح والحياة.

لماذا؟

لأن غرائز الحياة هي أساس التنمية والأمن والسلام.

تلك هي الخلاصة الأولية التي ينبغي للخطاب الديني الجديد أن يراعيها ويأخذ بها، غير أننا نحتاج أيضًا إلى قادة دينيين عقلاء، يفهمون أن تحول الخطاب الديني من عامل لإشعال الفتن إلى عامل للبناء والعمران، أمر ممكن. فضلاً عن أنه واجب لأجل حفظ الدين والنفس والوطن.