بين الدهشة والشكوى يعرض الكثير منا خبراته مع الحديث في أي موضوع ثم تهاجمه دفعات من الإعلانات عن السلعة أو المنتج أو النشاط الذي كان محور الحديث، ثم فهمنا آلية حدوث ذلك، والاختراق الأمني الذي سقط العالم فيه، وبين استخدام بياناتنا لأغراض تسويقية، أو أمنية فإن موضوعاتنا وأحاديثنا صارت حقل دراسات عديدة.

آلفين توفلر الكاتب الأمريكي والمتخصص في علم المستقبليات ذكر مثالًا في كتابه الموجة الثالثة حيث دلل علي أهمية المعلومات أيا كان، فقد ذكر أن نقصان نوع معين من الزبدة في متجر بأحد المناطق إشارة للعديد من الاستنتاجات منها أن سكان هذا الحي سيعاني أو يعاني كثير منهم من أمراض الكوليسترول. كما أن سعر علبة الزبدة يُشير إلي المستوى الاقتصادي والمعيشي لسكان الحي، وأخذ توفلر يُعدد في كم المعلومات والبيانات الناتجة من زيادة مبيعات نوع من الزبدة في متجر بأحد الأحياء، فما بالنا بدلالات البيانات والمعلومات التي نتبرع بأنفسنا لتقديمها؟

اقرأ أيضا:

النوم في العسل .. عما يجري في الغرف المغلقة

جروبات مواقع التواصل

يقوم أحدهم (رجل أو امرأة) بإنشاء مجموعة متخصصة سواء في موضوع بعينه أو خاصة بجندر، ثم يتوالى المشاركة في المجموعة، ليبدأ الأعضاء بالمشاركة بمنشوراتهم.

في أحد المجموعات/الجروبات المخصصة للنساء وصل عدد المشاركات فيه إلى ما يزيد عن أربعين ألف مشتركة، وفي أحد الأيام كان المنشور الرئيسي هو أن تقوم كل مشاركة بالتعريف بنفسها، تُشارك الكثيرات بصورهن الشخصية ومعلومات عن حيواتهن، الدراسة – الحالة الاجتماعية – العمر- العمل والمتبرعات في الحديث كثيرات فهل تعلم كل امرأة إلى من ستذهب هذه البيانات؟؟

في دراسة نشرتها صحيفة الجارديان عام 2018 عن ثرثرة النساء، وتم الإشارة إليها في وسائل الإعلام العربية، تُشير الدراسة أن الثرثرة سمة متوارثة عند النساء من حقبات سابقة، وذلك لقتل أوقات الفراغ، كما أن النساء دومًا بحاجة إلى إجابات وفضولهن الأكبر من الرجال يحرك دومًا أسئلة عديدة، وعلى الرغم من اضطلاع النساء بالعديد من المهام لكن ظلت الثرثرة والفضول سمات لم تتخلَ عنها الكثيرات.

لماذا تُصبح الجروبات مصيدة؟

كانت أمهاتنا تؤكد علينا في الصغر ألا نتحدث مع من لا نعرفه، وألا نعطي معلومات شخصية لأحد لا نعرفه، لكن هذه النصيحة الأمومية الغالية فقدت أهميتها بل هي نفسها ذهبت ولم تعد، حيث ثمة العصر وآليات التعارف الجديدة جعلتنا نتبادل المعلومات الشخصية مع من لا نعرف، وفي الجروبات حيث مساحة الثرثرة عالية ومفرطة ستجد غالبية المشاركات أنها لا تكتفي بمشاركة بياناتها فقط بل أيضًا تُشارك تجاربها، طموحاتها، هواياتها، باختصار نحن نفتح بيوتنا للغرباء.

في كل جروب هناك مجموعة أكثر تفاعل وغالبية صامتة متفرجة ومؤكد أنها تُراقب، فهل فكرت كل امرأة وهي تُشارك خبراتها الإنسانية ومشكلاتها عبر جروب لا تعرف من فيه إلى أي مدى سيتم الاستفادة أو الأذى من هذه المعلومات؟

ذات يوم كنت أعرف بعض أخبار عن شخص، وربما لأنني لا أتمتع بفضول كاف لم أسع لتقصي كل الحكاية، لكنه بعد فترة وعبر أحد المجموعات التي أُشارك فيها تعرفت على كافة تفاصيل الحكاية فقد قصّت إحدى المشاركات حكايتها ورغم عدم تصريحها بالأسماء إلا أن الخبرات المكتسبة من نشاط حل الكلمات المتقاطعة لم تذهب سُدى، وفور قراءة منشورها كنت قد عرفت كل شيء، وظللت أضحك ليس فقط لأنني لم أسع إلى معلومة وقد وصلتني كافة التفاصيل، ولكن للتأكد دومًا بأن الدوائر متقاطعة بشكل مُدهش. ورغم يقيننا من هذه الفكرة إلا أننا أمام رغبة البوح ننسى، بل أننا نتعمد النسيان، الرغبة في التخفف من الأعباء والضغوط امام الغرباء متخيلين أننا لا نقع تحت طائلة الأحكام الأخلاقية أو المجتمعية، تدفع الكثيرات للحديث وطرح حياتها الاجتماعية والعاطفية والجنسية أيضًا، هي ترغب في تأكيد صورة وقناعة هي وضعتها عن موضوع ما لنفسها، وطرحها الموضوع للمشاركة مع غرباء يؤكد ذلك حيث تأتي التعليقات داعمة ومناقشة لما طرحته إحداهن، فهل وقفت أي مشاركة وفكرت قليلًا؟

هل فكرت كل امرأة في المشاركات المراقبات الصامتات؟ هل تعرفت إلى ألوف المشاركات؟ أليس بينهن زميلة / قريبة/ جارة؟

كثيرات يطمعن في المكسب القريب، البوح والتخفف من أعباء نفسية، رسم صور مثالية أو الوقوع في تجسيد صورة الضحية، كل منا لديها آمال وطموحات قريبة ترغب في الوصول إليها، لكن الخسائر المحتملة القريبة والبعيدة غير متوقعة بالمرة.

كل هذا البوح يجعل من صاحبته فريسة سهلة، ستقول إحداهن ماذا سيحدث أنا شخص تافه، ولا أحد يعرفني، وهذا غير صحيح، لأن كل منا ليس بحاجة ان يكون شخص مشهور لتكون لحياته أهمية كما نتصور، بل أن كل منا مهم، وحين نعرف أن هناك دومًا مخترقين للجروبات المغلقة سنجد رجالًا انتحلن صفة نساء، وستجد إحداهن نفسه صيدًا سهلًا لرجل يُتاجر بها ويُقحمها في تجربة جديدة قد لا تكون نهايتها جيدة.

ونحن نُشارك في مثل هذه المجموعات علينا أن ننتبه لما نقول، ولما نُشارك من صور شخصية وعائلية، ولمقاطع الفيديو، فكل هذه المواد بنسبة كبيرة يتم مشاركتها مع آخرين من خارج المجموعات، خاصة المنشورات للنساء اللواتي يمتزن بشيء لافت سواء كان سلبي أو إيجابي، كأن تتحدث إحداهن عن تجربة جنسية، أو تعلق إحداهن تعليقًا ساخرًا.

وفي مجتمع أداته الأول للنيل من النساء استخدام سمعتهن والوصم الأخلاقي لهن هل يمكن أن تتحرى النساء سبل الأمن وأن نعود للنصيحة القديمة ألا نعطي معلومات لغرباء؟