المشكلة ليست في نقابة المحامين، كما أن جيوب المواطنين ليست للجباية، جوهر المشكلة في كيف؟ ولماذا؟ وصلنا إلى هذا الصراع بين المواطنين والنقابات، وهذه المشكلة ليست وليدة اليوم لكنها نشأت منذ أربعينيات القرن الماضي وتفاقمت حتى اليوم.

فالنقابات المهنية المصرية ليست نقابات بالمعنى المتعارف عليه دوليًا، فالأصل في النقابة أنها ظهرت نتيجة شعور طبيعي لدى الأفراد الذين يوجدون في ظروف اقتصادية واجتماعية ومهنية مماثلة تدفعهم للاتحاد فيما بينهم ليتبادلوا المشورة، ويتعاونوا في الدفاع عن مصالحهم المشتركة فيكون هذا الاتحاد علاجًا للضعف الذي يعانيه كل منهم منفردًا، لذلك فإنها لا تنشأ إلا بإرادة أعضائها الذين يضعوا دستورًا لهم، ويحددوا أهدافها، وأغراضها، ومحاور نشاطها، لأنها كيانات اختيارية بمعنى أن العضوية بها ليست إجبارية ولا تفرض على أبناء المهنة بقانون من السلطة.

كما أن تعدد النقابات وتوحدها يكون رهن إرادة أعضائها ولا يفرض عليهم هذا أو ذاك بنص تشريعي، فهناك أكثر من نقابة للمحامين بفرنسا ولبنان، كما أن مصر ذاتها كان بها 3 نقابات للمحامين حتى أربعينيات القرن الماضي، ونفس الشىء بالنسبة لنقابة المعلمين والتجاريين.

فالنقابات لا تنشأها الدولة بل يجب أن تكون مستقله عنها استقلالًا حقيقيًا، لأنها تنظيمات تستهدف اتحاد أبناء المهنة أو بعضهم للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم في مواجهة السلطة السياسية (الدولة) أو في مواجهة التنظيمات الأخرى أيًا كان مسماها (روابط، جمعيات، مؤسسات، نقابات، اتحادات، أحزاب، مراكز، أندية.. إلخ) ومن مجموع هذه التنظيمات يتشكل المجتمع المدني، الذي تنتظم فيه الجماهير بإرادتها المستقلة والحرة لحماية مصالحها، وهذه التنظيمات حال استقلالها هي وحدها القادرة على إحداث التوازن في العلاقة مع الدولة، أما إن نجحت السلطة في احتوائها أو السيطرة عليها وضرب استقلالها فقدت تلك التنظيمات الأهمية الحقيقة لوجودها، وتحولت من كيانات تدافع عن مصالح أعضائها إلى ذراع السلطة للتحكم في أعضاء النقابة، والتأثير على مصالحهم، وكبح جماحهم متى أرادت ذلك.

والمتابع لتاريخ نشأة النقابات المهنية في مصر يجد أنها نشأت كتنظيمات مستقلة، ثم أضحت غير ذلك، عندما تنازلت الدولة عن جزء من سلطاتها العامة وعهدت إلى النقابات بإدارة شئون المهنة، وأضحت هي التي تمنح ترخيص مزاولة المهنة في بعض النقابات شأن المحامين والصحفيين والسينمائيين.. إلخ، وفرضت نقابة واحدة على كل مهنة، وجعلت عضوية بعض النقابات إجبارية وليست اختيارية.

وهندسة البناء النقابي المهني على هذا النحو ساعد السلطات المختلفة في تحقيق 3 محاور:

المحور الأول: أنها تخلصت من كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأعضاء النقابة وأصبحت الخزانة العامة غير مسئولة عنهم بل خزانة نقابتهم، ومواردها الذاتية هي التي تتحمل أعباء وظائفها، فالنقابة هي المسؤلة عن التأمين الاجتماعي، والتأمين الصحي، وتحسين ظروف وبيئة العمل، وعن حصول أعضاء النقابة على أي مكتسبات مثل أراضي أو شقق أو حتى بطاقات تموين.. إلخ

المحور الثاني: خلقت إزدواجًا في أدوار النقابة، وصدرت كل مشكلات هذا الازدواج لأعضاء المهنة، ولإيضاح هذا الأمر نضرب المثل بنقابة الصحفيين، كل نقابة في العالم تتباهى بحجم عضويتها الكبيرة، وترحب بمن ينضم إليها طالما يوافق على أغراضها وأهدافها، نجد نقابة الصحفيين تحرم صحفيين من الانضمام للنقابة بالرغم أنهم مزاولين للمهنة سواء من خلال الصحف الورقية أو الإلكترونية بل منهم من حصل على أحكام قضائية بأحقيته في عضويتها والنقابة تمتنع عن تنفيذ الأحكام لأنها تحصل على مميزات كثيرة من خزانة الدولة، وفي حالة زيادة أعداد المنضمين إليها قد تحرم من هذه المزايا.

المحور الثالث: خلقت إزدواجًا في مصالح أعضاء النقابة الواحدة، فأصبح العامل ورب العمل في عضوية ذات النقابة رغم تنافر المصالح، ومن يتمكن من الفوز في الانتخابات سيحمي مصالحه على حساب الآخر، وربما تحليل علاقة سلاسل الصيدليات الكبرى وشركات الأدوية بالتأثير على انتخابات مجلس نقابة الصيادلة يوضح هذا التعارض، ونفس الشيىء يتكرر في نقابات أخرى.

ورغم نجاح الدولة في المحاور الثلاثة بما يساعدها على احتواء النقابات المهنية والنيل من استقلالها إلا أنها لم تكتفي بهذا الأمر بل هناك مسارات أخرى للسيطرة والتحكم عن بُعد، منها:

أولًا: أن إنشاء النقابات المهنية لا يكون إلا بقانون يصدر من الدولة، وبما لها من قدرة على التحكم في السلطة التشريعية، فالدولة عمليًا هي التي تحدد دستور النقابة وأهدافها وأغراضها وكل ما يتعلق بنشاطها وحاضرها ومستقبلها، وليس أعضاء النقابة كما يظن البعض، لأنها هي التي تتحكم في إصدار القوانين وكافة القواعد الجوهرية المنظمة لعمل النقابة.

ثانيًا: الدولة هي التي تتحكم في المزايا التي يتمتع بها أعضاء كل نقابة، فقد تسمح بزيادة موارد نقابة، ولا تسمح بزيادة موارد نقابة أخرى، وخير مثال على ذلك بدل التكنولوجيا لنقابة الصحفيين الذي تموله الخزانة العامة للدولة، والذي بدأ بمبالغ زهيدة، ثم أضحى 2000 جنيه كل شهر لكل من يتمتع بعضوية نقابة الصحفيين، وجاءت الزيادات متعاقبة مع انتخابات مجلس النقابة، ونحن لا نطالب بإلغاء هذا البدل للصحفيين بل على العكس نؤيده ونطالب بزيادته، وتعميمه بأن تمول الخزانة العامة أيضًا بدل التكنولوجيا لكافة أعضاء النقابات المهنية في مصر شأن نقابة الصحفيين.

ثالثًا: جعل زيادة الموارد النقابية لبعض النقابات من خلال الدمغات والرسوم التي تحصل من جيوب المواطنين، بدلاً من قيام المشرع بإلزام الدولة بصرف مخصصات واضحة من الخزانة العامة لكل نقابة حسب عدد أعضاء لتتمكن النقابات من القيام بأدوارها، شأن ما تقدمه الخزانة العامة من دعم للمصدرين، والذي تجاوز الـ10 مليارات جنيه سنويًا، وتمويل موارد النقابات من خلال الرسوم والدمغات التي يلتزم المواطنين بسدادها يجعل النقابات في صراع ومواجهة مع المواطنين كما حدث في قانون الشهر العقاري.

فدعم الخزانة العامة للنقابات المهنية لتقوم بأدوارها وخاصة مظلتي التأمين الاجتماعي والصحي حق وليس منحة، ويجب النص عليه بوضوح في التشريعات دون تحميل هذه المبالغ على المواطنين في الخدمات التي تؤدى لهم.