كنت محظوظة أن جمعني عشاء عمل مع مسؤول سوداني كبير، جلسنا متقاربين بما سمح بأحاديث جانبية، الحقيقة فوجئت بتقديره أن الملء الأول لسد النهضة هدد حكومة الثورة الأولى بالانهيار، وأن الملء الثاني بلا اتفاق قد يعرض السودان نفسه لتحدي لم يسبق أن خاضه تاريخيًا. وذلك مع الانكشاف الاستراتيجي الذى جرى للسودان بعد أن توقفت محطات المياه بسبب الإجراء الإِثيوبي بملء وتفريغ بحيرة السد بلا اتفاق. ما لفت نظري حجم المرارة التي تحدث بها المسؤول، ورؤيته أن إثيوبيا قد خدعت الخرطوم ونخبته السياسية خداعًا كبيرًا خلال العامين المنصرمين بدعوى حماية الثورة ودعم قوى الحرية والتغيير. ولعل هذا التقدير جعلني أخلص إلي أن التقارب المصري السوداني هذه المرة مؤسس على إدراك سوداني ربما يكون غير مسبوق، بحجم المخاطر الاستراتيجية التي تحيط به، وتداعياتها على استمرار مؤسسة الدولة ذاتها.
من هذه الزاوية نستطيع أن نفهم التحركات المصرية السودانية الأخيرة التي تتوجها زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للخرطوم خلال الساعات المقبلة، وتعقبها زيارة لرئيس الوزراء السوداني للقاهرة الأسبوع المقبل.
وربما يكون أبرز ما في هذه التحركات أمرين؛ الأول هو الاتفاق العسكري الذي جرى في الخرطوم خلال زيارة الفريق أول محمد فريد رئيس أركان القوات المسلحة المصرية. حيث تم عقد الجلسة السابعة من جلسات اللجنة العسكرية المشتركة بين البلدين. أما الأمر الثاني فهو تصريحات الفريق محمد فريد بأن منظور الجيش المصري لدعم السوداني يتجاوز ما هو عسكري ليطرح ما هو تنموي. حيث أشار فريد إلى دعم الصناعات الدوائية في السودان. وذلك على سبيل المثال لا الحصر. وبمعني آخر دعم السودان في صناعات ذات طابع استراتيجي، وذلك تحت مظلة تفشي الأوبئة، وتحول المحدد الصحي لأي بلد إلى أمن قومي.
لعل السؤال الذي يبرز هنا لماذا تتجه القاهرة إلى هذا النوع من الدعم الاستراتيجي للسودان؟ هل مخاطر سد النهضة سببًا وحيدًا أم أن ثمة أسباب أخرى؟
في تقديري، فإن مخرجات حرب إثيوبيا في إقليم التيجراي يشكل سببًا لا يقل في الأهمية عن مخاطر سد النهضة، فهناك تحولات في القرن الأفريقي أصبحت مهددة لدولتي وادي النيل، وذلك من زوايتي وجود تحالف إثيوبي إرتيري على الحدود الشرقية مع السودان. وهو الوجود الذي له أبعاد أكثر من عسكرية، خصوصًا مع توترات شرق السودان القبلية وطبيعة التأِثير الإرتيري فيها، أما الزواية الأخرى فهو وجود كبير للاجئين الإثيوبيين على الأراضي السودانية.
تصاعد التوتر في الصومال إلى حد الاقتتال في الشوارع، بعد انتهاء الولاية الدستورية للرئيس عبدلله فرماجو يؤثر على أمن البحر الأحمر لكل من الخرطوم والقاهرة، ذلك أن أمن قناة السويس مرتبط عضويًا بأمن البحر الأحمر، وسواحل السودان قد تكون مصدرًا لتهديد الدولة في حال عدم وجود أي مظاهر لعدم القدرة السودانية. وهي في الحقيقة متوافرة بسبب السيولة السياسية من جهة، وتعدد الضغوط العسكرية على أكثر من جبهة من ناحية أخرى.
المخاطر القادمة من تشاد تشكل سببًا إضافيًا للتنسيق بين القاهرة والخرطوم، إذ أن الجيش التشادي قد أصبح جزءًا من المعادلة السياسية، حيث وجه انتقادًا لرئيسه يرقى إلى مرتبة الإنذار، بعد الرفض الشعبي للتجديد للرئيس إدريس ديبي في موقعه الرئاسي الذي يشغله منذ ثلاثة عقود تقريبًا، وخروج احتجاجات شعبية في تشاد البلد المفتوح على إقليم الساحل الأفريقي الذي تتصاعد فيه التهديدات الأمنية نتيجة انتشار النليشيات الجهادية، وأبرزها بوكو حرام التي امتدت من نيجيريا للنيجر والكاميرون فضلاً عن تشاد.
في ظني فإن التنافس الأمريكي الصيني على السودان وتداعياته ليس بعيدًا عن ذهنية المؤسسات المصرية، حيث أن هذا التنافس قد يخلق استقطابات سياسية في المشهد السوداني يمكن أن يكون له تداعيات غير مرغوبة على سلامة الدولة السودانية التي تتعدد فيها الجهات والمؤسسات المنظمة المعلنة وغير المعلنة التي تملك سلاحًا.
وأخيرًا، فإن مخرجات الحرب في اليمن، وعودة العناصر السودانية المسلحة منه، قد يلعب دورًا في رفع مستوى التهديدات الداخلية في السودان، إذ أن قوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) قد بلورت وجودها في هذه المعادلة ككيان مؤثر. وبالتالي احتواءها في المنظومة السودانية، من المطلوب أن يكون على نحو لا يتسبب في رفع مخاوف المكون المدني من الاتجاه نحو العسكرة.
في هذا السياق، يبدو أن المحدد المائي في العلاقات المصرية السودانية قد استجد عليه على المستوى الاستراتيجي بالنسة لمصر محدد آخر هو استقرار مؤسسة الدولة في السودان، واعتباره ضمن عناصر الأمن القومي المصري.
وبطبيعة الحال، تلتقي الحكومتين المصرية والسودانية في ضرورات التقارب، لكن هذا التقارب قد خلق حالة فزع لدي إإثيوبيا خلال الأسبوع الأخير، وربما هذا ما يفسر تصريحات دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الأخيرة، بشأن ضرورة التوصل لاتفاق ودي مع كل من القاهرة والخرطوم. وهي التصريحات التي تجاهلتها كلا العاصمتين، في إطار اتفاقهما علي منظومة جديدة رباعية للتفاوض مع إثيوبيا، تكون كل المنظمات الدولية فاعلة فيها بقيادة من دولة الكونغو رئيس الاتحاد الأفريقي الحالي مع كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وهي المنظومة موضوع زيارات وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي التي غادرت القاهرة قبل ساعات منطلقة إلى ثلاث دول في غرب أفريقيا لتعود مرة أخرى للقاهرة مع رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك ثم تنطلق في زيارات أخرى لدول شرق أفريقيا لذات الهدف.
ولعل أهمية زيارات مريم المهدي الأفريقية هي أنها تصيب مصداقية السردية الإِثيوبية بشأن سد النهضة في مقتل. وهي السردية التي اعتمدت عليها إثيوبيا في القارة الأفريقية ووجدت قدرًا من المصداقية مؤسسة على الهوية الأفريقانية لدول جنوب الصحراء، حيث تقول هذه السردية بمسؤولية القاهرة عن عدم التنمية والفقر في إثيوبيا، وكذلك أنانيتها في الاستحواذ على مياه النيل.
إجمالاً تبدو زيارة الرئيس السيسي للسودان محملة بالمنظورين العسكري والتنموي للسودان، وأنه رغم استباقها بحملات عدائية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها تحمل أسباب نجاحها لاعتبارات مرتبطة بإدراك النخب السودانية من مختلف المواقع بأهمية التقارب المصري السوداني تحت مظلة التحديات الاستراتيجية التي تواجهها الخرطوم، لكن ربما تكون الإشكالية في هذه المرحلة هي مخاوف بعض القوى السياسية والنشطاء من الشباب أن يكون التقارب المصري السوداني على حساب فرص التحول الديمقراطي في السودان ومدى تأثير القاهرة على نجاحها من عدمه، خصوصًا وأن الذهنية السياسية السودانية لديها مخاوف تاريخية من مصر.
وفي تقديري، القاهرة تدرك أكثر من أي وقت مضي تاريخيًا طبيعة التنوع السوداني، والذي لم تنجح النظم العسكرية السودانية في احتواءه، وهو ما انعكس على استقرار السودان نفسه، وجعل ثوراته متعددة بحيث تحول عدم الاستقرار هذا إلى مهدد للأمن القومي المصري.
من هنا، يبدو أن التقدير السياسي المصري الذي تم التعبير عنه ”نحترم خيارات الشعب السوداني“ وذلك منذ اندلاع الثورة السودانية عام 2019 تقدير ما يزال ماثلاً ويتم العمل به راهنًا، خصوصًا وأن هناك إسنادًا دوليًا للمكون المدني السوداني واتجاهات الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون مسؤولة عن متابعة تفاصيل التحول الديمقراطي تحت مظلة قانون الانتقال الديمقراطي الذي تم إقراره في مجلس النواب الأمريكي نهاية 2020، ووجود بعثة للأمم المتحدة اللتي وصلت بالفعل إلى الخرطوم مؤخرًا تتبلور مهامها في دعم آليات التحول الديمقراطي السوداني الذي أتمني له على المستوى الشخص قدرة على النجاح والمساهمة في صناعة استقرار السودان ودول وادي النيل الثلاث.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتبة.. اضغط هنا