فلنَعُدْ خطوة إلى الوراء.. لا بل خطوتين..
النصف الأول من القرن التاسع عشر.. تقدم صناعي عظيم.. الصناعة اليدوية تلقى الهزيمة تلو الأخرى أمام الصناعة الآلية لتحدث أولى الأزمات، الأزمة المزمنة وكعب آخيل الرأسمالية، أزمة “فَرط” الإنتاج (لا أفضل إستخدام كلمة “فَيض” الإنتاج التي يستخدمها كثير من أقراني لوصف تلك الأزمة لأن للكلمة وقعٌ إيجابي إذ “بالفيض” شيئٌ من الخير الذي لا يستقيم مع طبيعة الأزمة، الأمر الذي يُعيق ذهنية المُتَلَقي لاستقبال ما سيُطرَح عليه من عناصر لا خير فيها، لذا فأنا أفضلُ استخدام كلمة “فرط” و أظنها أكثر دقة في حالتنا هذه).
في هذا الوقت كان نمط الاقتصاد الصيني قائمًا على العائلة التي -ببساطة ودون إخلال- يزرع رجالها ما يأكل أفرادها وتصنع نساؤها ما يلبسون، أي أن معظم متطلبات حياتهم كانت تُصنع في الحقول والمنازل، و هو ما أدى -برغم بدائيته كنمط- إلى فشل الرأسماليين البريطانيين حينما حاولوا في معرض بحثهم عن أسواق جديدة لتلافي أزمة “فَرط” الإنتاج، في أن تكون الصين سوقًا جديدة لهم لدرجة أن ميزان التجارة وقتذاك كان في صالح الصين لأن بريطانيا كانت تستورد الشاي والحرير من الصين بمبالغ تفوق ما تُصدِره من مبيعات لا سوق لها هناك.
تنبهت بريطانيا وقتذاك إلى أن بعض أغلب بورجوازيى الصين و كبار موظفيها وملاك الأراضي يدمنون الأفيون فائق الجودة والمُصَنَع في الهند المُحتلة من قِبَلِها، فكان أن أغرقت السوق الصيني بالأفيون الهندي من خلال تهريبه عبر “ماكاو” لتُفسد الموظفين العموميين بالرشاوى اللازمة لإتمام عمليات التهريب من ناحية، ومن ناحية أخرى ليصير أعضاء الشريحة الاجتماعية المرتبطة بالبورجوازية الصينية كرجال البلاط و الجنود و الرهبان من المدمنين الذين وصل عددهم إلى أكثر من مليوني صيني بنهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر و هو رقم يشكل نسبة ضخمة للغاية قياسًا لإجمالي عدد السكان في ذلك الوقت.
حاول الإمبراطور “داو جوانج” حين أدرك خطورة الأفيون علي مصلحة عرشه أن يواجه الأزمة، فقام في نهاية ثلاثينيات ذلك القرن بتعيين الزعيم التاريخي “لين تسه شيوي” للقضاء علي تجارة الأفيون، كان الرجل يحارب لهزيمة مصالح ثلاث قوى عنيدة: 1) البريطانيين، 2) المدمنين، 3)البيروقراطية الفاسدة، فصادر ما يزيد عن العشرين ألف صندوق تحتوى علي ألف و مائتي طن من الأفيون، وأمر البحارة الأجانب بتقديم قوائم جرد لِمَا علي سفنهم من صناديق لم تدخل البلاد بعد حيث تم إتلاف ما ورد بتلك القوائم تحت إشراف إدارته ثم أمعن في حَربِهِ تلك بأن أمر البحارة الأجانب بالتوقيع علي تعهد بعدم جلب الأفيون ثانية للصين، و هنا بالتحديد بدأت الرأسمالية العالمية التي كانت تسعى حثيثًا -تحت وطئة أزمة “فَرط” الإنتاج- للبحث عن مزيد من الأسواق في الحرب و كان لها ما أرادت.
اقرأ أيضا:
الذين شَرِبوا “الكوكاكولا”
في بداية أربعينيات ذلك القرن، وضعت الحرب أوزارها بعد نضالات الحركة الشعبية الصينية الأسطورية التي قادت مقاومة تلقائية محدودة الإمكانات بما يُذكِرك بنضالات شعبنا في “بورسعيد-1956″، ليتم إثر ذلك توقيع اتفاقية “نانجينج” التي دفعت الصين بموجبها لبريطانيا تعويضات وصلت إلى 21 مليون دولار تمثلت في 6 مليون دولار كتعويض عن الأفيون الذي أتلفه “لين تسه شيوي” (نعم، نص إتفاقي مكتوب للعقاب علي إتلاف المخدرات!) و 12 مليون دولار كتعويض عن نفقات الحرب و 3 مليون دولار كمستحقات ديون للبريطانيين.
بخلاف تلك التعويضات الهائلة بمقاييس ذلك الزمن، فقد كان أخطر ما في الاتفاقية هو تنازل الصين لبريطانيا عن هونج كونج التي ظلت مستعمرة بريطانية حتى عام 1997، و أن يتم تحديد جمارك الواردات البريطانية للصين بالاتفاق ما بين حكومتي البلدين مع تعديلات في المسارات القضائية بحيث تقوم بريطانيا وحدها بمحاسبة ومحاكمة البريطانيين المُذنبين ممن اقترفوا جرائم على الأرض الصينية، وأن تقوم الصين حين تقدم امتيازات أجنبية لآخرين -إن فعلت- بمنح البريطانيين نفس الامتيازات! تحلل النظام الاقتصادي الصيني القائم -رغم بدائيته- على الاكتفاء الذاتي، وارتفع معدل استيراد الأفيون من 37 صندوق في أربعينيات هذا القرن إلى 70 ألف صندوق في خمسينياته وانفتَحت الأسواق وفقدت الصين استقلالها تمامًا.
الأهم في هذه الحدوتة-المأساة التاريخية هو تشخيص ما جرى فيها حسب فهم “ماو” المبني على أهم قوانين المادية الجدلية الثلاث “التناقض” ووفقًا لتحليله “للصراع الطبقي” الذى أوقفه من شربوا الكوكاكولا في 1978.
للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.